﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ﴾ [ الحج : ٣٩ ] ثم نزل ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ فكان القتال إذناً ثم أصبح بعد ذلك فرضاً، لأن آية الإذن في القتال مكية، وهذه الآية مدنية متأخرة «.
الحكم الثالث : هل يباح القتال في الحرم؟
دل قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ على حرمة القتال في الحرم، إلا إذا بدأ المشركون بالعدوان، فيباح لنا قتالهم دفعاً لشرهم وإجرامهم، ولا يجوز لنا أن نبدأهم بالقتال عملاً بالآية الكريمة وعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.
وقد روي عن مجاهد : في قوله تعالى :﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم ﴾ أنه قال :»
لا تقاتل في الحرم أحداً أبداً، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك «.
وروي عن قتادة أنه قال : الآية منسوخة نسختها آية براءة ﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ].
قال العلامة القرطبي : وللعلماء في هذه الآية قولان : أحدهما أنها منسوخة، والثاني أنها محكمة.
قال مجاهد : الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام بعد أن يقاتل، وبه قال طاووس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
ويدل عليه ما روي في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه ولسم خطب يوم فتح مكة فقال :»
يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ولم تحلّ لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة «.
مناظرة لطيفة
قال القاضي أبو بكر ابن العربي :»
حضرتُ في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة ( أبي عقبة ) الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهيّ المنظر على ظهره أطمار، فسلّم سلام العلماء وتصدّر في صدر المجلس، فقال له الزنجاني : من السيد؟ فقال : رجل سلبة الشُطّار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجلٌ من صاغان من طلبة العلم، فقال القاضي مبادراً : سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة « الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل فيه أم لا؟ » فأفتى بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ وقرئ :( ولا تقتلوهم ) وقرئ ( ولا تقاتلوهم ) فإن قرئ : ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا أُنهي عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيناً ظاهراً على النهي عن القتل.
فاعترض عليه القاضي الزنجاني منتصراً للشافعي ومالك - وإن لم ير مذهبهما على العادة - فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon