وقال الزجاج: النصب على إضمار أن؛ لأن قبلها جزاء تقول: ما تصنع أصنع مثله: وأكرمك على معنى وأن أكرمك وإن شئت وأكرمك بالرفع على معنى: وأنا أكرمك ويجوز وأكرمك جزما.
قلت: النصب في هذا المثال على ما قررناه من معنى الجمعية؛ أي: أصنعه مكرما لك فالنصب يفيد هذا المعنى نصا والرفع يحتمله على أن تكون الواو للحال ويحتمل الاستئناف.
وقال الزمخشري: ما قاله الزجاج فيه نظر؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله:
وألحق بالحجاز فأستريحا
فهذا يجوز وليس بحد للكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا؛ لأنه ليس بواجب أن يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه، قال: ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة.
قلت: النصب بالواو في هذا المعنى ليس بضعيف بل هو قوي بدليل الإجماع على نصب ما في آل عمران، أما بالفاء ضعيف؛ لأن الفاء لا تفيد ما تفيده الواو من معنى الجمعية فلهذا كانت قراءة من قرأ في آخر البقرة يحاسبكم به الله فيغفر بالنصب شاذة وقد أنشد الأعشى في بيتين نصب ما عطف بالواو لهذا المعنى:
ومن يغترب عن أهله لا يزل يرى
وتدفن منه الصالحات......
مع أنه لا ضرورة إلى النصب فالرفع كان ممكنا له فما عدل إلى النصب إلا لإرادة هذا المعنى، وهذا النصب بالواو لهذا المعنى كما يقع في العطف على جواب الشرط يقع أيضا في العطف على فعل الشرط نحو: إن تأتني وتعطيني أكرمك، قال أبو علي: فينصب تعطيني، وتقديره: إن يكن إتيان منك وإعطاء أكرمك.
قلتُ: مراده أن يجتمعا مقترنين ولو أراد مجرد وقوع الأمرين معرضًا عن صفة الجمعية لكان الجزم يفيد هذا المعنى، فقد اتضحت -ولله الحمد- قراءة النصب على هذا المعنى من العطف: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾، فتقف السفن أو إن يشأ يعصف الريح فيغرقها وينج قوما بطريق العفو عنهم ويحذر آخرين بعلمهم ما لهم من محيد، فإن قلت كيف يوقف العفو على الشرط، وهذا الكلام خارج مخرج الامتنان، ولهذا قيده بقوله: عن كثير، ولو كان معلقا على المشيئة لأطلق العفو عن الكل نحو: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾.
قلتُ: إنما علقه على الشرط؛ ليتبين أنه إنما يفعل ذلك بمشيئته وإرادته لا بالاستحقاق عليه، أما: ويعلم فإن جعلنا الذين بعده فاعلا سهل دخوله في حيز الشرط، وإن جعلناه مفعولا فالمعنى يعلمه واقعا نحو: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ ؛ أي: نبقيهم على الكفر ولا يسهل لهم الإيمان، "حتى يؤتوا"، ولهذا للإشكال قال ابن القشيري -رحمهما الله- في تفسيره: "ويعف" معطوف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى قال: وقرئ: "ويعفو" بالرفع.
قلتُ: فيكون مستأنفًا ويعلم عطف عليه إن كان مرفوعا ونظيره في هذه السور: ﴿فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾، ثم استأنف فقال: "يمحو الله الباطل ويحق الحق"، وبعضهم جعل يمح مجزوما عطفا على يختم، واستدل بأنه كتب في المصحف بغير واو فيكون الاستئناف بقوله: ويحق كقوله في براءة: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾، ويجوز أن تكون قراءة القراء: "ويعف" بغير واو لمعنى الأخبار المستأنف وحذف الواو ليس للجزم بل للتخفيف كما


الصفحة التالية
Icon