قال: ((وحكمة ذلك أن نصفه الأخير، نزل أكثره بمكة، وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم، والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول منه. وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم))(١)، وعلى الرغم من متابعة كل من جاء بعد السيوطي(٢) له فيما ذهب إليه إلاَّ أنه لا يسلم لهم على إطلاقه.
سيمر بنا في صفحة تالية أن سورة التكاثر مدنية على الراجح، ويشهد لهذا أدلة ذات شأن، وقد وردت فيها (كلا) مرتين، وبهذا تنخرم هذه الخصيصة وتصبح أغلبية كغيرها من الخصائص.
بين تأثير القرآن وتأثره:
أما الأمر الآخر الذي أود أن أسجله هنا هو ما حدث مِنْ خَلْط المستشرقين بين أمرين الفرق بينهما واضح، معتمدين على المنهج الذاتي في تفسير الظواهر، ومستحضرين المنهج العفوي التلقائي بغية التدليس على القارئ.
هذان الأمران أولهما حق ظاهر، وهو تأثير القرآن الكريم في البيئة التي نزل فيها، وثانيهما باطل، وهو تأثر القرآن بهذه البيئة وإفادته منها، وظهور آثار هذا في مضامينه وأسلوبه.
ويحسن بنا أن نعرض لهذين الأمرين بشيء من الإيجاز تجنباً للتكرير، وسوف يأتي مزيد تفصيل وبيان في ثنايا هذه الدراسة.
الأول: تأثير القرآن في البيئة.
كان القرآن الكريم يُعنى إبان نزوله بقضايا الناس، في العهدين المكي والمدني، فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى مخاطباً رسوله: ژ ؟؟ ؟ ؟ ٹ ٹ ٹ ٹ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ژ [إبراهيم: ١].
لما كان الأمر كذلك، فقد تضمن القرآن الكريم وصفاً دقيقاً لما كان عليه أهل مكة من جهالة في أمورهم الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية، فعرض لها وشنَّع على أهلها بسببها، ثم قدَّم لهم البديل، ودعاهم إلى سواء السبيل.
(٢) مثل الزرقاني في مناهل العرفان، ج١ ص ١٨٩، محمد كريدان في: مكي القرآن ومدنيه.