لست في هذا المقام بصدد تحقيق القول في هذه المسألة، فإنها تستحق طويل بحث، ومزيد تأمل، ولكن حسبي إضاءات ترشد إلى أن سوراً عدة اشتهر أنها مكية، وتبين بعد التأمل والبحث أنها مدنية، وكثير من المكي مما لم نذكره اختلف فيه اختلافاً معتبراً (١).
أما الشق الآخر، المتعلق بطول السور المدنية، فإنه يزاحمه بجدارة، وجود سور مكية طويلة، مثل: الأنعام، والأعراف، ويونس، والإسراء، وغيرها كثير.
ولست أُنكر أن ظاهرة الآيات القصيرة، غلبت على السور المكية مثل: الحاقة، والفجر، والنازعات، ولكن هذا لا يعكر علينا صفو قولنا: إن هناك آيات قصيرة مدنية، كتلك التي وردت في السور التي تقدم ذكرها، ومثل سورة المطففين، والتي تُعَدُّ على التحقيق مدنية.
كما أن وصف القِصَر لا يصح أن يلازم الآيات المكية، فهناك سور مكية باتفاق آياتها طويلة مثل: يوسف، والإسراء، والكهف، وغيرها كثير.
إذا كان هذا في شأن الدليل، الذي لم يسلم لأصحابه على الهيئة التي يريدونها، فإن المدلول كذلك، إذ لا يخفى على منصف أن القصر والطول في الآيات والسور، منوط بالموضوعات التي تعرضها.
إن الحديث عن الجنة والنار، والزجر عن الشرك يناسبه قصر الآيات، والقصر النسبي للسور، في حين أن الحديث عن التشريعات والغزوات ومحاجة أهل الكتاب، يناسبه الطول في الآيات والسور، وهي مسألة أوضح من أن يُستدل لها عند من ضبط نفسه بمنهجية علمية.
وكان مما قاله المستشرقون: إن السور المكية فيها عنف، وشدة وسباب، وتقريع لأهل مكة، وهذا يدل على تأثر النبي ﷺ بالبيئة المكية، وتكيَّف حديثه مع ما يمتاز به أهل مكة من غلظة وجهل وعناد (٢).
(٢) كتاب القرآن، ٨١، المستشرق بلاشير، مناهل العرفان، ج١ ص ٢٠٢، المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص ٢٣٦.