يرى المستشرقون أن هذا الأسلوب، اختفى من السور المدنية، لأنها نزلت في بيئة متحضرة، بسبب وجود اليهود في المدينة، فاختفت الشدة والسِّباب، وحل محلَّها الهدوء والمهادنة، وصار الخطاب للعقل بالأدلة والبراهين، بدلاً من العاطفة والخطابة (١).
سعى المستشرقون إلى تضخيم هذه الخصائص، وإلى توظيفها بطريقة سيئة بتفسيرها في ضوء المنهج الذاتي الذي سيطر على دراستهم، فجاء كلامهم متضمناً عدداً من المغالطات نعرض لها بإيجاز ونبين تهافتها.
فقد ذكروا أن السور المكية تضمنت سِباباً، وشدة وتقريعاً، ليس يخفى أن أسلوب القرآن المكي كان يتسم بالقوة والتقريع، لأجل أن يكون المقال مناسباً للمقام، وهذا عين البلاغة، فالمخاطبون جاحدون، معاندون، مع علم كثير منهم بصدق النبي، فكان لابد من هذا الأسلوب التربوي.
لقد وصف كفار قريش ـ كفراً وجهلاً ـ النبي ﷺ بأنه كذاب أَشِر، وساحر ومجنون وشاعر، فكان لابد والحالة هذه من تقريعهم وتخويفهم، وهذا يتحقق بالآيات القصيرة، ذات الفاصلة الواحدة، يتمثل فيها الإعجاز بالإيجاز، فتهتز مشاعرهم وتجبرهم على مراجعة أنفسهم، وهو ما شهد له الواقع.
نجد هذا في كثير من السور المكية منها على سبيل المثال سورة القمر، ففيها تتمثل هذه الأجواء يقول الله تعالى: ژ ھھے ے*؟؟؟؟ ؟ ؟؟ - ؟ ؟ ؟؟ ؟ ؟ ؟ - ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ - ؟ ؟؟ ؟ ؟ ؟ - ؟ ؟؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ - ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ پ پ پ - ؟ ؟ ؟؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ژ [القمر: ١ - ٨ ] فإن التربية تكون بالشدة أحياناً، ولكن هذه الآيات تخلو كليةً من السِّباب.
بيد أن السور المكية، لم تقتصر على هذا الأسلوب فقط، فقد كان فيها كلام لين ودعوة إلى الصفح، وبهذا يتساوى طرفا التربية بالترهيب والترغيب، وبالوعد والوعيد.