كان من متطلبات المرحلة المدنية، مجيء التشريعات التي تنظم شؤون المجتمع والدولة، بعد أن صار للمسلمين مجتمعهم ودولتهم، وهو ما لم يكن في المرحلة المكية.
جعل العلماء وجود التشريعات في مجالاتها المتعددة علامةً على أن السور التي وردت فيها مدنية، والسور التي تخلو من التشريعات مكية. لقد كانت الجماعة المسلمة في مكة بحاجة إلى توجيه مخصوص، ثم لما استقرت هذه الجماعة في المدينة، تنوعت احتياجاتها، ويصف سيد قطب متطلبات هاتين المرحلتين، بقوله: ((لقد عاشت الدعوة الإسلامية ـ أولاً ـ المرحلة المكية حيث القلة والضعف، والشدة، والإيذاء، والكيد.. مع الأمر بالهجر الجميل والصفح، وكف الأيدي.. والصدع بالحق.
ثم عاشت الدعوة المرحلة المدنية.. فكان الأمر بالقتال، وكان النصر، وكانت الهزيمة، وكان الكيد الداخلي الخفي المتمثل في النفاق، وكان الكيد الخارجي الجلي المتمثل في تأليب اليهود ومحاولات المشركين في القضاء على المسلمين. وكانت صور من البناء النفسي الرائع في نفوس الصحابة، إلى جانب نفوس يغلب عليها الضعف مرة، والهوى مرة، وتقعد بها رغائب الأرض، وتشدها إليها مرة أخرى.
والقرآن الكريم ينْزِل في مكة ينافح عن تلك الجماعة الناشئة، فيزيح من طريقها العقبات والأشواك والشكوك... ويمدها بأسباب الإيمان والاعتقاد، حتى دارت الآيات المكية ـ عموماً ـ حول إنشاء العقيدة.. في الله، وفي الوحي، وفي اليوم الآخر، وحول إنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود، وعلاقته بخالقه..
ونزل القرآن الكريم في المدينة يعالج تطبيق تلك العقيدة، وذاك التصور في الحياة الواقعية، وحمل النفوس على الاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة في معترك الحياة))(١).