تلقَّف المستشرقون أمثال: جولد تسيهر، وفلهلهم رودلف، هذا بشغف، ليكون دليلاً لهم على زعم استقر في أذهانهم، وهو تأثر الرسول ﷺ باليهود في المدينة، وإفادته من تلك البيئة بما فيها من أحكام وتشريعات كانت بين يدي اليهود، وهو ما كان يفتقده في مكة التي كان أهلها جهلة أميين (١).
إن ادعاءً كهذا لا يقوى على الصمود أمام حقائق دامغة، يعرفها المستشرقون، لكنه التجاهل، قصد التحامل باستخدام المنهج الإسقاطي.
لا ننكر أن المرحلة المكية كان لها طابعها المميز، فقد كان أهلها كفاراً، لا يؤمنون باليوم الآخر، ويشركون مع الله آلهة أخرى، ويكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الحاجة ـ والحالة هذه ـ تدعو إلى مواجهة هذه العقائد بادئ الأمر بأساليب شتى وهو ما كان فعلاً.
لا يعقل بحال من الأحوال أن تنْزل التشريعات في بيئة هذه أوصافها، وقد عبرت عن هذا عائشة رضي الله عنها بقولها: ((لو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم: ژ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ژ [القمر: ٤٦ ]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلاَّ وأنا عنده)) (٢)، إنه كلام غاية في الدقة، والعمق والوضوح؛ ذلك أن المال عزيز على النفس، والجهاد مكروه لديها، وفي الخمر لذة ومنافع، وفي النفس ميول للهروب من الضبط والمسؤولية فكان لابد أن تتقدم التخلية على التحلية، والتأسيس على البناء وهو ما كان.
لقد اتجهت جهود النبي ﷺ في مكة إلى وضع القواعد والأسس، تمهيداً لمرحلة قادمة ينشأ فيها مجتمع، وتقام فيها دولة، وتملك فيها أرض، ويكون فيها سيادة، وهي مظاهر ومعالم، افتقدها المسلمون في مكة.
(٢) رواه البخاري، في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، برقم ٤٩٩٣.