وهذا واحد من ردود كثيرة على من زعم من المستشرقين (١) أن أسلوب القرآن في المدينة نزل عما كان عليه في مكة. إن اختلاف أساليب النظم القرآني إنما هي منوطة بالموضوعات التي تَعْرض لها السور؛ فإن السور التي كانت تهدف إلى بيان نذارة، أو ذكر بشارة، فإنه يناسبها السورة القصيرة والآيات الموجزة، وهو ما رأيناه في سورة المسد المكية، وسورة العصر المكية وما فيهما من نذارة. وهو ما رأيناه كذلك في سورة النصر المدنية وما فيها من بشارة، وكذا سورة الكوثر المدنية القصيرة وما فيها من بشارة كذلك.
ويقال الأمر نفسه إذا كان الموضوع في مجال طرح التشريعات والتوجيهات الربانية، والحديث عن مكارم الأخلاق، فإنه يناسب هذه الموضوعات الآيات الطويلة والسور الطويلة كذلك، وهو ما رأيناه في سورة الإسراء المكية، فإنها طويلة وكذلك آياتها؛ لأنها عرضت في جانب منها إلى الوصايا الربانية (٢)، وكذلك سورة الفرقان؛ لأنها عرضت إلى بعض التوجيهات والوصايا (٣).
ورأينا الشيء نفسه، في السور المدنية، كالبقرة، وآل عمران، والنساء، فإن ما فيها من تشريعات وأحكام ناسبها أن تكون طويلة والآيات كذلك.
إن هذه النظرة العجلى لما سبق توضح بجلاء، أن القِصَر ليس مرتبطاً بمكة أو بالمرحلة التي سبقت الهجرة، والطول كذلك ليس مرتبطاً بالمدينة أو بالمرحلة التي تلت الهجرة.
وأحسب أن دراسة استقرائية للسور المدنية والمكية في القرآن الكريم سوف تؤدي إلى هذه النتيجة التي أشرنا إليها، وهي دعوة للباحثين _ وبخاصة طلاب الدراسات العليا _ للتصدي لمثل هذه الدراسات.

(١) كتاب القرآن، ص ٨١، بلاشير.
(٢) انظر سورة الإسراء، الآيات من ٢٣ – ٣٩.
(٣) انظر سورة الفرقان، الآيات من ٦٠ – ٧٧.


الصفحة التالية
Icon