إن أسلوب الإيجاز والتكرير، ووحدة الفاصلة القرآنية، أو ما يسمى بالسجع، كلها أساليب تناسب المعاندين، وهم يُحذَّرون من الكفر والإعراض، ويُخوَّفون من النار، ويُتوعدون بالبعث حتى تلتقي المعاني مع الأساليب في تحريك الوجدان، وإثارة الشعور، وقرع القلوب المقفلة، والنفوس الغافلة.
لقد أسلم أكثر هؤلاء الذين كانوا في مكة، وهاجروا إلى المدينة فانضموا إلى إخوانهم الأنصار العرب، وتكوَّن منهم مجتمع إسلامي متميز.
لقد نزل القرآن الكريم في المدينة من أجل أن يعمل على تطبيق العقيدة بكل أبعادها والتي ترسَّخت في المرحلة المكية، وذلك من خلال التشريعات والأحكام التي تجعل من الإسلام واقع حياة، وكان هذا الأمر يحتاج إلى خطاب هادئ، وإلى أمة مؤمنة ملتزمة بشرع الله، تنتظر أحكامه سبحانه وتشريعاته.
ويمكن في هذا المقام أن يستعان ببعض الخصائص التي تلقي الضوء على ما ذكرنا، فإن النداء بيا أيها الناس كثر في مكة، وكان قليلاً في المدينة؛ لأنه حل محلها النداء بـ ژ؟ ؟ ؟ژ؛ لأنها مناسبة للأوامر والنواهي والتشريعات.
إن هذا التوجه الذي ذكرناه يغني عن التفسير الذي أورده الشيخ الزرقاني _ عفا الله عنه _ وزلَّ فيه قلمه، وهو يفسر مجيء السور المكية موجزة والسور المدنية طويلة، وفيها إطناب وإسهاب؛ وذلك لأن أهل المدينة لم يكونوا يضاهئون أهل مكة في الذكاء والألمعية، وطول الباع في باحات الفصاحة، والبيان، فيناسبهم الشرح والإيضاح، وذلك يستتبع كثيراً من البسط والإسهاب، لأن دستور البلاغة لا يقوم إلا على رعاية مقتضيات الأحوال وخطاب الأغبياء بغير ما يخاطب به الأذكياء(١).
لقد غاب عن الشيخ الزرقاني _ وهو الفهيم _ أن الذين خاطبهم الله تعالى بالسور في مكة هاجروا إلى المدينة، وغاب عنه أيضاً أن عرب المدينة كانوا عرباً خلَّصاً كذلك. وعلى هدى من هذا لا يُسَلم له ما ذهب إليه.