ثمة قول ثالث عليه أهل التحقيق ينظر إلى المكي والمدني باعتبار الزمان، فقالوا: ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني (١).
ظهر هذا المفهوم في وقت مبكر، ومال إليه الجمهور من العلماء، فهذا يحيى بن سلام البصري (ت ٢٠٠ه) يقول: ((ما نزل بمكة وما نزل بطريق المدينة قبل أن يبلغ النبي المدينة فهو مكي، وما نزل على النبي في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو مدني))(٢).
هذا مفهوم تطمئن النفس إليه، ويمكن الاعتماد عليه؛ لأنه جامع مانع، ويمكن أن تظهر آثاره وثماره عند تلمُّس المسائل المتصلة بالمكي والمدني كالنسخ والتدرج في الأحكام، والكشف عن مراحل الدعوة وسماتها.
ليس يخفى على أهل الشأن أن لا أثر لتاريخ النُّزُول في ترتيب الآيات في سورها بَلْهَ السور في القرآن، فَثَمَّة اعتبارات أخرى مصدرها الوحي كانت وراء هذا الترتيب المعجز.
لا أثر يذكر كذلك لتاريخ النُّزُول في الكشف عن معاني غالبية الآيات القرآنية، وإن توهم بعض المعاصرين (٣) غير هذا وسعى إلى إغراء الباحثين بالاشتغال بهذا الترتيب والقيام به.
إذا كان الأمر كذلك فإنه يفسر لنا عدم ورود شيء عن الرسول ﷺ في شأن تحديد زمن النُّزُول أو بعبارة أخرى عدم الإشارة إلى المكي والمدني من القرآن الكريم.
نلحظ هذا الفهم عند عامة العلماء، مما ورد عنهم من إشارات، أو نطقت به بعض المقالات، فهذا أبو بكر الباقلاني يقول: ((لم يرد عن النبي ﷺ في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول))(٤).
(٢) البيان في عد آي القرآن، ص ١٣٢.
(٣) أمين الخولي في كتابه ((التفسير معالم حياته ومنهجه اليوم))، ص ٣٦.
(٤) الإتقان في علوم القرآن، ج١ ص ١٢.