بدا للعلماء أن معرفة المتقدم في النُّزُول من القرآن من المتأخر، أو بعبارة أخرى ـ في ضوء التعريف المختار ـ معرفة المكي والمدني لا يخلو من فوائد تستدعي الحاجة الوقوف عليها في مواطن عدة، وبخاصة الأحكام منها، وما يتصل بالناسخ والمنسوخ، وهو ما كان حاضراً لدى أهل الاختصاص، وعبَّر عن ذلك النحاس بقوله: ((إنما نذكر ما أنزل بمكة لأن فيه أعظم الفائدة في الناسخ والمنسوخ، لأن الآية إذا كانت مكية، وكان فيها حكم، وكان في غيرها حكم غيره نزل بالمدينة علم أن المدنية نسخت المكية)) (١).
إن من يعنى كذلك بتتبع مراحل الدعوة، والكشف عن خصائصها، لابد أن يستحضر المكي والمدني، لأنه الكاشف في هذا المقام، وكذا من يعرض لقضية التدرج في التشريعات، التي كانت من سمات هذا الدين، لا يستغني عن معرفة المكي، والمدني.
يمكن القول ـ على هَدْي مما سبق ـ: إن في معرفة المكي من المدني فوائد لا تخفى، ولما لم يكن بين أيدينا نصوص شرعية تحدد لنا ما كان مكياً، وما كان مدنياً، تلمَّس العلماء سبلاً موصلة لهذا الغرض، فكان أن رأوا وسيلتين هما: طريق السماع، وطريق القياس (٢).
نعني بطريق السماع: تلك الروايات الواردة عن الصحابة الكرام الذين عاصروا التَّنْزِيل، وحضروا المشاهد، وعايشوا الأحداث، فهم أعرف الناس بنُزُول القرآن زماناً ومكاناً.
فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول فيما يرويه عنه البخاري: ((والذي نفسي بيده ما من آية إلاَّ وأنا أعلم أين نزلت وفيما نزلت)) (٣) وما هو إلا أنموذج للصحب الكرام في هذا المقام.
ليس يتعذر على الباحث أن يظفر بروايات عن الصحابة الكرام تنص على أن سورة كذا نزلت في المدينة، أو أن آيات بعينها نزلت في موضع كذا.
(٢) الإتقان في علوم القرآن، ج١ ص ١٧.
(٣) رواه البخاري، فضائل القرآن، برقم ٥٠٠٢.