أما الحكمة في خلقه فإنَّه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته ونهايته الحق، خلقها بأحسن نظام، ورتَّبها بأكمل إتقان، وأعطى كلَّ مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كلَّ جزء من أجزاء المخلوقات، وكلَّ عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته اللائقة به، بحيث لا يرى الخلقُ في خلق الرحمن تفاوتًا ولا فطورًا، ولا خللاً ولا نقصًا، بل لو اجتمعت عقول الخلق ليقترحوا مثلاً وأحسن من هذه الموجودات لم يقدروا.
وهذا أمر معلوم قطعًا من العلم بصفاته، فإذا كان من المعلوم لكلِّ منصف مؤمن أنَّ الله له الكمال الذي لا يحيط به العباد، وأنَّه ما من كمال تفرضه الأذهان ويقدِّره المقدرون إلا والله أعظم من ذلك وأجلّ، كانت أفعاله ومخلوقاته وجميع ما أوصله إلى الخلق أكملَ الأمور وأحسنها، وأنظمها وأتقنها، ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٨٨].
فالفعل يتبع في كماله وحسنه فاعله، والتدبير منسوب إلى مدبِّره، والله تعالى كما لا يشبهه أحد في صفاته في العظمة والحسن والجمال، فكذلك لا يشبهه أحد في أفعاله. وقد تحدَّى عباده في مواضع كثيرة من كتابه، هل يجدون أو يشاهدون في مخلوقاته نقصًا وخللاً، ومن ادّعى شيئًا من ذلك بسفاهة عقله وعظم جراءته، فقد نادى على عقله بين العقلاء بالحمق والجنون.
وأما الحكمة في شرعه وأمره، فإنَّه تعالى شرع الشرائع وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العبادُ ويعبدوه، فأيُّ حكمة أجلّ من هذا، وأيُّ فضل وكرم أعظم من هذا.
فإن معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وحمده وذكره، وشكره والثناء عليه أفضلُ العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجلُّ المناقب لمن يمنُّ الله عليه بها، وأكمل السعادة والفلاح والسرور للقلوب والأرواح، كما أنَّها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والفلاح والسرمدي.


الصفحة التالية
Icon