وأما تقديمهم على الأموال في تينك الآيتين فلحكمة باهرة وهي : أن براءة متضمنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله ومعلوم أن تصور المجاهد فراق أهله وأولاده وآبائه وإخوانه وعشيرته تمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقته ماله، فإن تصور مع هذا أن يقتل فيفارقهم فراق الدهر نفرت نفسه عن هذه أكثر وأكثر، ولا يكاد عند هذا التصور يخطر له مفارقة ماله، بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.
وتأمل هذا الترتيب البديع في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر = يطلعك على عظمة هذا الكلام وجلالته ).
القاعدة الثالثة :
جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة (١).
كقوله :( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعملوا أن الله عزيز حكيم )،
وقوله ( من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ). والقرآن الكريم مملوء من هذا، وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك : إني أسمع ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي وأبصر ما يفعلون... ).
القاعدة الرابعة :
ضوابط في الإفراد والجمع في القرآن :
أولا : في لفظ السماء والأرض (٢).
قال :( فإن الكلام متى اعتمد به على السماء المحسوسة التي هي السقف وقصد به إلى ذاتها دون معنى الوصف صح جمعها جمع السلامة ؛ لأن العدد قليل وجمع السلامة بالقليل أولى ؛ لما تقدم من قربه من التثنية القريبة من الواحد، ومتى اعتمد الكلام على الوصف ومعنى العلا والرفعة، جرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك :( قوم عدل وزور ).

(١) البدائع : ١ / ١٢٨ ط. ع، و : ١ / ٧٣ ط. م
(٢) المصدر نفسه :! / ١٩٩ ـ ٢٠٦ ط. ع، و : ١/ ١١٤ ـ ١١٧ ط. م


الصفحة التالية
Icon