والخلاف الذي زعموا أنه استدعى إلغاء تلك الأحرف كان قد حصل مثله في زمن النَّبِيّ ؟، كما جاء في الروايات التي أوردناها قريبًا في أول هذا الباب، فلم يؤدِّ إلى إلغاء الأحرف المنَزلة، بل أرشدهم النَّبِيّ ؟ إلى أن القرآن أنزل على جميع تلك الأوجه، وأقر كل واحد من المختلفين على قراءته.(١٨)
ويدل أيضًا على عدم صحة هذه الدعوى أن عثمان ؟ لو أراد أن يجمع مصاحف الناس جميعًا لَما استطاع، ولو استطاع لَمَا قدر على أن يسلبهم ما يحفظون من الكتاب، إذ قد كانت دولة الإسلام في ذلك الوقت متسعة إلى حدِّ يستحيل معه مثل هذا، فجمعه ؟ كان أن كتب للناس مصاحف أئمة يُرجع إليها عند الاختلاف.
قال ابن حزم: كل هذا(١٩) باطلٌ ببرهان كالشمس، وهو أن عثمان ؟ لم يلِ إلاَّ وجزيرة العرب كلها مَملوءة بالمسلمين والمصاحف والمساجد، والقراء يعلمون الصبيان والنساء، وكل من هبَّ ودبَّ، واليمن كلها في أيامه مدن وقرى، والبحرين كذلك، وعُمان كذلك، وهي بلاد واسعة، مدن وقرى وملكها عظيم، ومكة والطائف، والمدينة والشام كلها كذلك، في كل هذه البلاد من المصاحف والقراء ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى وحده، فلو رام عثمان ما ذكروا ما قدروا على ذلك أصلاً.
وأما قولهم: إنه جمع الناس على مصحف، فباطلٌ، ما كان يقدر على ذلك لِمَا ذكرنا، ولا ذهب عثمان قطُّ إلى جمع الناس على مصحف كتبه، إنما خشي عثمان ؟ أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل -رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم.


الصفحة التالية
Icon