وقد كان يدور بفكري وأنا طفل صغير خاطرة كانت توقفني كثيرًا، فقد كنت أفكر في نفسي وأقول: هل يعقل أن القرآن نقل إلينا عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولم يتبدل من ألفاظه شيء؟؟ وهل هذا النطق الذي ينطقه القراء هو نفس النطق الذي نطق به النبي ؟ وأصحابه؟؟
ثم أنعم الله علي بحفظ كتابه، وكان هذا فضلاً منه تعالى وكرمًا، أن تحمل كلام العزيز الحكيم نفس هذا المقصر المفرِّط، ثم بالغ الله عز وجل في إنعامه وإكرامه، فمنَّ علي بالتخصص في المرحلة الجامعية الأولى في دراسة القرآن الكريم، وفيما يتعلق به من التفسير وعلوم القرآن، والقراءات، وما يتعلق بِها من رسم المصاحف وضبطها، فكان هذا اختيارًا منه تعالى لي، بعد أن كنت متوجهًا إلى المدينة النبوية لدراسة الحديث الشريف وعلومه، ولكن ساقني سبحانه سوقًا إلى هذا التخصص، فأحمده -جلت قدرته- على ما أنعم علي به من حسن الاختيار.
وفي تلك الفترة من دراستي اختلفت إلى دروس القراءات، فرأيت ما لا ينقضي منه العجب من عناية ناقلي القرآن بنقله، كتابة ونطقًا، تجويدًا وتحريرًا، حتى في أدق الهيئات، من إشارة بشفة، أو همسٍ بجزءٍ من حركة.
فرأيت عن كثبٍ جواب ما كان يدور بِخاطري من الوساوس، وأن القوم قد اعتنوا بالكتاب، وقاموا بِما أمروا به من حفظه ونقله إلى الأجيال من المسلمين بعدهم.
ورأيت في دراسة القراءات ورسم المصاحف عمق الرابطة بين نقل القرآن، وبين الرسم العثماني، فمن درس هذين العِلْمين رأى عيانًا أن القراءات المتواترة هي ترجمة دقيقة منطوقة لذلك الرسم، مما يوضح الجهد العظيم، والقدر الرفيع للمصاحف العثمانية، التي أجمع عليها أصحاب النبي ؟.