أما عقلاً : فواضح لكل إنسان متجرد عن الهوى والغرض بأنه حينما يتكلم، حينما يمشي، حينما يأكل، حينما يشرب، حينما يفعل أي شيء، مما يدخل في اختياره، فهو مختار في ذلك غير مضطر إطلاقاً، وأنا شئتُ أنْ أتكلم الآن، فليس هناك أحد يجبرني على ذلك بطبيعة الحال، ولكنه مقدر، ومعنى كلامي هذا مع كونه مقدراً، أي أنه مقدر مع اختياري لهذا الذي أقوله وأتكلم به، ولكن باستطاعتي أن أصمت لأبين لمن كان في شك مما أقول أني مختار في هذا الكلام.
إذاُ، فاختيار الإنسان -من حيث الواقع- أمر لا يقبل المناقشة والمجادلة، وإلا فالذي يجادل في مثل هذا إنما هو يسفسط ويشكك في البدهيات، وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة انقطع معه الكلام.
إذاً فأعمال الإنسان قسمان : اختيارية، و اضطرارية.
والاضطرارية : ليس فيها كلام، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الواقعية، والشرع يتعلق بالأمور الاختيارية، فهذه هي الحقيقة، وإذا ركزناها في أذهاننا، استطعنا أن نفهم الآية السابقة ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) وهذا الجعل كوني، ويجب أن نتذكر الآية السابقة ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أن الإرادة ههنا إرادة كونية، ولكن ليس رغماُ عن هذا الذي جعل الله على قلبه أكنه.
مثال من الناحية المادية : أن الإنسان حينما يُخلق إنما يُخلق ولحمه غض طري، ثم إذا كبر وكبر يقسو لحمه ويشتد عظمه ولكن الناس ليسوا كلهم سواءً، فهذا مثلاً إنسان منكب على نوع من الدراسة والعلم، فهذا ماذا يقوى فيه ؟ يقوى عقله ؟ ويقوى دماغه من الناحية التي هو ينشغل بها، ويَنصب بكل جهده عليها، ولكن من الناحية البدنية جسده لا يقوى، وعضلاته لا تنمو.