ويصور ذلك ما نقله أبو شامة المقدسي عن بعض الشيوخ أنه قال:" الواضح من ذلك يكون أن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزل عليهم أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلفهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربي إذا فارق لغته التي طبع عليها يدخل عليه الحمية من ذلك فتأخذه العزة، فجعلهم يقرؤون على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم مَنّاً منه – عزّوجلّ – لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان ". (١)
وجاء في كلام علماء السلف ما يوضح سبب الرخصة الذي أشرت إليه، قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي ( ت٢٠٥هـ) :" فإذا كان الله لرأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد يزلَّ، ليُحِلَّ لهم قراءته وإن اختلف اللفظ فيه، ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى، كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُحِلْ معناه " (٢).
وقال ابن قتيبة ( ت ٢٧٦هـ) :" فكان من تيسيره : أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم، وما جرت عليه عاداتهم... ولو أن كل فريق من هؤلاء أُمِرَ أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً، لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل متسعاً في اللغات، ومتصرفاً في الحركات" (٣).
(٢) الرسالة ص ١٢٤
(٣) تأويل مشكل القرآن ص ٣٩-٤٠