كان ظهور علم التجويد حدثاً مهماً في تاريخ الدرس الصوتي العربي، فقد استطاع علماء القراءة جمع المباحث الصوتية وصياغتها في إطار جديد لتشكل علم أصوات العربية، وكانت موضوعات علم الأصوات حاضرة في ما كتبه علماء التجويد في كتبهم، وقد ألمح مكي بن أبي طالب ( ت ٤٣٧هـ) في كتاب ( الرعاية) وهو من أقدم كتب هذا العلم، إلى تسميته بعلم مخارج الحروف وصفاتها وقوتها وضعفها وتقاربها وتباعدها وإدغام بعضها في بعض (١). لكن مصطلح ( علم التجويد ) هو الذي استقر عنواناً لهذا العلم.
وسبق الكلام في المبحث الأول من هذا البحث على نشأة علم التجويد وأشهر مؤلفاته، بما يغني عن الإشارة إلى ذلك هنا مرة أخرى، ولكني أتوقف عند قضية واحدة تتعلق بهدف الدراسة الصوتية عند علماء التجويد، فإذا كنا قد رأينا أن هدف الدراسة الصوتية عند علماء العربية هي بحث مسائل صرفية، فإن هدفها عند علماء التجويد صوتية محضة، وقد استندت دراستهم للأصوات إلى تقسيم اللحن إلى جَلِيِّ، وهو الخطأ في الحركات، وخَفَيٍّ وهو الخلل في توفية الحروف حقها من الصفات الصوتية حتى يكون النطق عربياً صحيحاً خالياً من شوائب الانحراف.
وتستطيع أن تدرك ذلك من قول أبي مزاحم الخاقاني في قصيدته في حسن أداء القرآن، التي تُعَدُّ أول مؤلف في علم التجويد (٢)
فأَوَّلُ علمِ الذِّكْرِ إتقانُ حِفْظِهِ ومعرفةٌ باللَّحْنِ مِن فِيك إِذ يجري
فكن عارفاً باللحن كي ما تزيلَهُ فما للذي لا يَعْرِفُ اللَّحْنِ مِن عُذْرِ
وكان ابن مجاهد البغدادي، وهو معاصر لأبي مزاحم، قد قسَّم اللحن إلى جلي وخفي، وبنى علي بن جعفر السعيدي كتابه في التجويد على هذه الفكرة، فَسَمَّاه (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي )، على نحو ما أشرنا إلى ذلك من قبل.
(٢) ينظر : أبحاث في علم التجويد ص ٣٠