وإذا قرأ القارئ برواية من الروايات فإنه يكون قد قرأ ببعض الأحرف السبعة لا بكلها، وقد أوضح هذه الحقيقة أبو عمرو الداني بقوله :" وأما هذه السبعة الأحرف فإنها ليست متفرقة في القرآن كلها، ولا موجودة في ختمه واحدة، بل بعضها، فإذا قرأ القارئ بقراءة من قراءات الأئمة وبرواية من وراياتهم فإنما قرأ ببعضها لا بكلها، والدليل على ذلك إنا قد أوضحنا من قبل أن المراد بالسبعة الأحرف سبعة أوجه من اللغات، كنحو اختلاف الإعراب، والحركات والسكون، والإظهار والإدغام، والمد والقصر، والفتح والإمالة، والزيادة للحرف ونقصانه، والتقديم والتأخير، وغير ذلك مما شرحناه ممثلا قبل. وإذا كان هذا هكذا فمعلوم أن من قرأ بوجه من هذه الأوجه، وقراءة من القراءات، ورواية من الروايات، أنه لا يمكنه أن يحرِّك الحرف ويسكنه في حالة واحدة، أو يقدمه ويؤخره، أو يظهره ويدغمه، أو يمده ويقصره، أو يفتحه ويميله، إلى ما أشبه هذا من اختلاف تلك الأوجه والقراءات والروايات في حالة واحدة، فدّل على صحة ما قلناه" (١).
وقد لا يكون القارئ به حاجة إلى التذكير بأن رسم المصحف لم يكن سبباً لنشأة القراءات، فالقراءات سابقة على الرسم، ناتجة من رخصة الأحرف السبعة، لكن الرسم ميَّز بين نوعين من القراءات فما خالف الرسم تُرِكَتِ القراءة به، بعد الإجماع على مصحف عثمان، واستمرت القراءة بما وافق الرسم من وجوه الأحرف السبعة، مما رُخّصَ لهم بقراءته (٢).
(٢) ادعى بعض المستشرقين وبعض من قلَّدهم في رأيهم أن القراءات ناتجة من طبيعة الرسم المجرد من النقاط والحركات، وهذا مذهب غير صحيح. وكنت قد بحثت هذه القضية في كتابي : رسم المصحف ص ٧١٧- ٧٢٨، ومحاضرات في علوم القرآن ( ص ١٣٩- ١٤٠) وبحثي : أصل القراءات القرآنية، مجلة الحكمة العدد ٢٠ ص ١٣٣- ١٥٦. وبحثه غيري أيضا بما يغني عن إعادة القول فيه