وتقدِّم مدينة الكوفة مثالاً واضحاً على ذلك التمازج، فكانت القراءة الأولى فيها قراءة عبد الله بن مسعود، ثم جاءها أبو عبد الرحمن السلمي مع المصحف الذي أرسله عثمان بن عفان - رضي الله عنه – وأقرأ بها أربعين سنة حتى توفي سنة ٧٤هـ، وانتشرت قراءة أهل المدينة في الكوفة عن طريقه.
وكان أهل الكوفة شديدي التمسك بقراءة عبد الله، فكان صغيرهم وكبيرهم يقرأ قراءته (١)، لكن قراءة أهل المدينة، وهي التي تعرف أحيانا قراءة زيد بن ثابت، انتشرت حتى نافست قراءة عبد الله، فكان سعيد بن جبير (ت ٩٥هـ) يَؤُمُّ الناس في الكوفة في رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت (٢). وبعد نصف قرن تقريباً كانت الغلبة لقراءة زيد بن ثابت، فقد قال سليمان بن مهران الأعمش ( ت ١٤٨هـ) :" أدركت الكوفة وما قراءة زيد فيهم إلا كقراءة عبد الله فيكم اليوم، ما يقرؤها إلا الرجل والرجلان " (٣).
وإذا كنا نلاحظ أن قراءة ابن مسعود قد أخذت تختفي معالمها في أوائل القرن الثاني، فإن عناصر تلك القراءة قد دخلت في قراءة قراء الكوفة المشهورين عن طريق تلامذة ابن مسعود من التابعين، فكان حمران بن أعين الكوفي، شيخ حمزة بن حبيب الزيات ( ت ١٣٠هـ) :" يقرأ قراءة ابن مسعود، ولا يخالف مصحف عثمان، يعتبر حروف معاني عبد الله، ولا يخرج من موافقة مصحف عثمان، وهذا كان اختيار حمزة" (٤). كما أن قراءة زيد بن ثابت لم تعد ظاهرة للعيان محددة المعالم، فقد مزج علماء القراءة من تابعي التابعين بينها وبين قراءة ابن مسعود وغيرها، بما يوافق خط المصحف، وكذلك الحال في قراءة أهل البصرة والأمصار الإسلامية الأخرى.

(١) ينظر : ابن عبد البر : التمهيد ٨/٢٩٨
(٢) ينظر: الذهبي : معرفة القراء ١/٥٧، وابن الجزري : غاية النهاية ١/٣٠٥
(٣) ابن مجاهد : كتاب السبعة ص ٦٧
(٤) ابن الجزري : غاية النهاية ١/٢٦٢


الصفحة التالية
Icon