إن تدوين علل رسم الكلمات في المصحف موضوع واسع وضارب في أعماق التاريخ، ولا يتأتى تدوينه كاملاً لشخص واحد، أو عصر واحد، فكل صورة كتابية متميزة لها قصة في التاريخ، وقد يتمكن الدارس من معرفة تلك القصة وقد لا يتمكن. ومن ثم فإن من الخطأ النظر إلى رسم المصحف نظرة مستعجلة تقيس الماضي على الحاضر أو من خلاله. إن رسم المصحف ظاهرة حضارية وثروة لغوية يجب التعامل معها بكثير من الجدية والصبر والأناة، فهي متحف لغوي رائع للغة العربية.
ولا يخفى على القارئ أنّ هناك فرقاً جوهرياً بين رسم المصحف والنقوش العربية القديمة، ويتمثل ذلك الفرق في انقطاع الصلة بين كُتّاب تلك النقوش وبين دارسيها اليوم، واتصال الإسناد والرواية الشفهية بين كتّاب المصاحف وقراء القرآن منذ عصر تدوينها إلى عصرنا الحاضر، وسوف ندرس مدى موافقة القراءات القرآنية لرسوم المصاحف العثمانية، ووجوه المخالفة الجائزة بينهما، في الفقرة الآتية.
(٢) وجوه المخالفة الجائزة بين الرسم والقراءة :
صارت موافقة القراءة لرسم المصحف أحد أركان القراءة الصحيحة، منذ نَسْخِ المصاحف في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه – وبناء على ذلك تُرِكت القراءة بالوجوه المخالفة للخط، وعُدّت شاذة، على نحو ما أشرنا إلى ذلك في البحث الأول، وناقشتُ هناك العلاقة بين الرسم العثماني والأحرف السبعة، وهي جزء من العلاقة بين الرسم والقراءة، لكن الحديث هنا يأخذ منحى تطبيقياً أكثر منه نظرياً.
والمقصود برسم المصحف هو طريقة رسم الكلمات، والحروف التي رسمت بها كل كلمة، من حيث النوع لا من حيث الشكل، فإن رسم الحروف بخط الثلث أو النسخ أو الكوفي لا يغير من طبيعة العلاقة بين المرسوم والمنطوق.