وإذا كان المصحف العثماني قد كُتِبَ على قراءة واحدة، فإن خلو الرسم من الحركات ونقاط الإعجام، قد أتاح قراءته على أكثر من وجه، لكن القراءة التي كُتِبَ عليها المصحف لم تعد متميزة عن غيرها بسبب ظاهرة الاختيار التي أشرت إليها من قبل، فصارت كل قراءة يحتملها خط المصحف، وثبتت في النقل، مظنة لتلك القراءة، قال مكي :" فالمصحف كُتِبَ على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف إذ لم يكن منقوطاً ولا مضبوطاً... إذ لا يخلو أن يكون ما أُخْتُلِفَ فيه من لفظ الحروف التي [ لا ] تخالف الخط : إما هي مما أراد عثمان، أو مما لم يرده إذ كَتَبَ المصحف، فلا بد أن يكون إنما أراد لفظاً واحداً أو حرفاً واحداً، لكنا لا نعلم ذلك بعينه، فجاز لنا أن نقرأ بما صحّت روايته مما يحتمله ذلك الخط، لنتحرى مراد عثمان - رضي الله عنه - ومن تبعه من الصحابة وغيرهم (١).
ومعلوم " أنّ مَن قرأ بوجهٍ من هذه الأوجه، وقراءة من القراءات، ورواية من الروايات أنه لا يمكنه أن يُحَرّك الحرف ويُسَكّنُهُ في حالة واحدة، أو يقدّمه ويؤخره، أو يظهره ويدغمه، أو يمده ويقصره، أو يفتحه ويميله، إلى ما أشبه هذا من اختلاف تلك الأوجه والقراءات والروايات في حالة واحدة" (٢)، ومن ثم فإن استيعاب وجوه القراءة الثابتة لا يتأتى إلا من خلال القراءات التي رواها أئمة القراءة، ومقياس الصحة لها هو موافقتها لخط المصحف، على نحو ما بينا.
وهذا الترابط بين القراءة والرسم هو الذي جعل علماء السلف يوجبون المحافظة على رسم المصاحف بالرسوم الثابتة في المصاحف العثمانية، فهذه الرسوم تؤدي مهمتين :
الأولى : حفظ نص القرآن الكريم على ما خَطّهُ الصحابة – رضوان الله عليهم.
الثانية : استيعاب القراءات الصحيحة الموافقة للخط.
(٢) الداني : الأحرف السبعة ص ٥٢