ولا شك في أن المهمة الأولى أعظم أهمية وأوسع مدى، على جلالة قدر المهمة الثانية وأهميتها، ويمكن أن نلمس ذلك بالنظر في ما جاء في سورة الفاتحة من قراءات صحيحة عن القراء العشرة (١) :
١. قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ( مالك ) والباقون ( ملك ).
٢. قرأ معظم القراء ( صراط والصراط ) بالصاد. وقرأ قنبل عن ابن كثير ورويس عن يعقوب بالسين، وقرأ حمزة بإشمام الصاد الزاي.
٣. قرأ حمزة ويعقوب ( عليهم) بضم الهاء، والباقون بكسرها.
٤. قرأ ابن كثير وأبو جعفر ( عليهم) بضم ميم الجمع ووصلها بواو، وقرأ الباقون بإسكان الميم.
فهذه أربع كلمات اختلف القراء في حرف واحد أو حركة واحدة فيها، وذلك بإثبات حرف أو حذفه في ( مالك وملك ) و ( عليهمْ وعليهمو )، وإبدال حرف بحرف في ( الصراط والسراط )، وإبدال حركة بأخرى في ( عليهِمْ وعليهُم ). وإذا وازنا بين ما اتفق القراء على قراءته من حروف سورة الفاتحة وحركاتها، وما اختلفوا فيه وجدنا ضآلة ما اختلفوا فيه بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، فقد عَدَدْتُ حروف سورة الفاتحة المرسومة فكانت ( ١٣٩) حرفاً، وعَدَدْتُ حركاتها وسكناتها فكانت ( ١٠٣)، من غير احتساب حروف المد حروفاً ساكنة، فيكون المجموع (٢٤٢) حرفاً وحركة، اخْتُلِفَ في أربعة منها، وهي نسبة ضئيلة جداً لا تصل إلى ٢%، وإذا أضفنا قراءة أبي عمرو بن العلاء بإسكان ميم ( الرحيم ) وإدغامها بالميم بعدها لم تتغير النسبة كثيراً.
ولا أحسب أن هذه النتيجة ستتغيّرُ كثيراً إذا ما طبّقنا هذه الفكرة على المصحف كله وما رُوِيَ فيه من قراءات، وهي تشير على مقدار دلالة الرسم على ثبات نص القرآن وتواتره منذ كتابته إلى زماننا، ولا يعني ذلك التشكيك في تواتر القراءات، فإنها صحت رواية، واحتملها رسم المصحف تحقيقاً وتقديراً على نحو ما أشرنا.
(٣) علامات الضبط : اختراعها وتطورها :