وإما لاشتغاله بالحكم عن العبادة تلك اللحظة. فظن أن الله تعالى فتنه، أي امتحنه واختبره، هل يترك الحكم للعبادة، أوالعبادة للحكم ؟ فاستغفر ربه. فاستغفاره لأحد هذين الأمرين المَظْنُونَين، ليجيء تَعَلُّق الظن بأحدهما. قال الله تعالى :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ [ص : ٢٥]. فاحتمل المغفور أحد هذين الأمرين. واحتمل ثالثا، وهو ظنه أن يكون الله لم يُرد فتنته، وإنما أراد إظهار كرامته. وانظر قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب ﴾ [ص : ٢٥] كيف يقتضي رِفعة قَدْرِه ؟ وقوله :﴿ يَا داودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً ﴾ [ص : ٢٦] يقتضي ذلك، ويقتضي ترجيح الحكم على العبادة. وعلى أي وجهٍ من الأوجه الثلاثة حَمَلْتَه، حَصَل تبرئة داود عليه السلام، مما يقوله القُصَّاص( (١) )، وكثير من الفضلاء.

(١) - جنايةُ كثيرٍ من القُصَّاص - وهم الوعاظ والمُذَكِّرون - على الأمة الإسلامية عظيمة، إذ أشاعوا بين المسلمين كثيرًا من الأحاديث والأخبار التي لا أصل لها، بحُجَّة حَضِّ الناس على الخير، وبعضهم لم يكن يتَعَمَّد التحديث بالموضوعات والأباطيل، ولكنه من الزُّهاد الذين غلب زُهْدُهم على تَثَبُّتِهم في الرواية، فيُؤتى من قِبَل الوهم والخطأ. ولا يكاد يَسْلَم من ذلك منهم سوى من كان من أهل العلم، كثابت البُناني رحمه الله تعالى، وهو من أثبت الناس في أنس بن مالك رضي الله عنه. وقد صنف غير واحد من العلماء في التحذير من أخبارهم التالفة، فمنها : أحاديث القصاص لابن تيمية، والباعث على الخلاص من أحاديث القصاص للحافظ العراقي، وتحذير الخَوَاص من أحاديث القصاص للسيوطي، و الثلاثة قد طُبعوا. وأنشد أبو حيان في البحر (٩/١٥١) قول الشاعر :
ونُؤْثِرُ حُكم العقل في كل شُبهة ٍ*** إذا آثر الأخبارَ جُلَّاسُ قُصَّاص


الصفحة التالية
Icon