والثاني : أنه يعلم أن رُتْبَتَه عند الله أكمل. وإذا ذَكَر هذين الأمرين، احتقر قريشًا فيه، وعلم أن الذي أُوتوه، وافتخروا به لا شيء. فهذا وجه المناسبة، خلاف ما قاله الزمخشري، مما لا حاجة بنا إلى ذِكره ( (١) ). ثم استطرد، فذكر قصة داود، ووَصَفَه بقوله :﴿ ذا الأَيْدِ ﴾ [ص : ١٧]، لأن الصبر يحتاج إلى أَيْدٍ، وهو القوة ( (٢)

(١) - قال في [الكشاف [ص : ١٧]،(اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ((٤/٧٧) : فإن قلت : كيف تُطابق قوله : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ؟ [ص: ١٧]، حتى عطف أحدَهما على صاحبه؟ قلت :(وقوله : اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ؟ [ص : ١٧]،(كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : وعَظِّم أمر معصية الله في أَعْيُنهم بذكر قصة داود، و هو نبي من أنبياء الله تعالى، قد أَوْلاه ما أَوْلاه من النُّبوة، والمُلك، لكرامته عليه، وزُلْفَته لديه، ثم زَلَّ زَلَّةً، فبعث إليه الملائكة، ووَبَّخَه عليها، على طريق التمثيل والتعريض، إلى أن قال : أو قال له ﷺ : اصبر على ما يقولون، وصُنْ نَفْسَك، وحافظ عليها أن تَزِلَّ فيما كُلِّفْتَ، من مُصابرتهم، وتَحَمُّل أذاهم، واذكر أخاك = داود، وكرامته على الله، كيف زَلَّ تلك الزَّلَّة اليسيرة، فلقي من توبيخ الله، وتَظْليمه، ونسبته إلى البَغْي ما لقي. انتهى. وقد ذكرنا في المقدمة ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير الآية، فبنى عليه ما نقلناه عنه هنا من التناسب.
(٢) - أي القوة في الدين والعبادة. وقد مَرَّ أن داود عليه السلام كان أعبد الناس. وليست أَيْدٍ هنا بجَمْعٍ ليَدٍ، كما قد يُظن، لأن جمع يَدٍ أيادٍ، وليس أَيْدٍ. والسماء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون؟(ونَظيرُ هذا قوله تعالى: َ [الذاريات: ٤٧]. وتفسير الآية على هذا المعنى مَرْوِي عن ابن عباس، وقتادة، وغير واحد. فلا حُجَّة لمُعَطِّلٍ في الاحتجاج بهذه الآية على تأويل صفات الرب تعالى. قال أبو بكر الرازي في مختار الصّحَاح (مادة : يدي) تعليقًا على قول الجوهري في الصحاح : واليَدُ القوة، وأَيَّدَه قوَّاه، وما ليَ بفلانٍ يَدَان : أي طاقة، وقال والسماء بنيناها بأَيْدٍ؟. قلت – القائل الرازي - : قوله تعالى(الله تعالى أي بقوة، وهو مصدر آدَ يئيد، إذا قَوِي، وليس جمعًا ليدٍ ليُذكر هنا، بل(بِأَيْد( موضعه باب الدال. وقد نصَّ الأزهري على هذه الآية في الأَيْدِ بمعنى المصدر، ولا أعرف أحدًا من أئمة اللغة أو التفسير ذهب إلى ما ذهب إليه الجوهري من أنها جَمْعُ يَدٍ. انتهى. انظر للمزيد : مفردات ألفاظ القرآن، واللسان (مادة : أَيَدَ)، وأضواء البيان للشِّنقيطي (٧/٦٦٩)، والإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري (ص ١٠٨، ١٠٩)، وفيه تفصيلٌ قوي. وللشيخ المَراغي رسالةٌ في هذا المعنى، منها نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تقع في نحو ثلاث ورقات.


الصفحة التالية
Icon