٦٢١- ((نج)): وعن ابن عمر قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسجد رسول الله ﷺ وهم يتذاكرون فضائل القرآن إذ قال قائل منهم خاتمة براءة، وقال قائل منهم خاتمة بني إسرائيل، وقال قائل: ﴿كهيعص﴾ و(طه) وأكثروا. وفي القوم عمرو بن معدي كرب الزبيدي في ناحية: إذ قال: يا أمير المؤمنين فأين أنتم من عجيبة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، فوالله إن في: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ لعجيبة من العجب، فاستوى عمر رضي الله عنه وكان متكئاً فجلس، وكان يعجبه حديث عمرو، فقال له: يا أبا ثور حدثنا بعجيبة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، فقال: #٤٩٠# يا أمير المؤمنين، إنه أصابنا في الجاهلية مجاعة شديدة، فاقتحمت بفرسي البرية أطلب شيئاً، فوالله ما أصبت إلا بيض النعام. وإن فرسي ليتقمم من غثاء البرية. فبينا أنا كذلك إذ رفعت لي خيل وماشية وخيمة، فأتيت الخيمة فإذا بجارية كأحسن البشر، وإذا بفناء الخيمة شيخ متكئ. فقلت لم دخلني من هول الجارية، ومن ألم الجوع: استأسر ثكلتك أمك فقال: يا هذا إن أردت القرى فانزل، وإن أردت معونة أعناك. فقلت: استأسر ثكلتك أمك، فقال لي: مثل قوله الأول، قال: ونهض نهوض شيخ لا يقدر على القيام، فدنا مني وهو يقول: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، ثم جذبني إليه فإذا أنا تحته وهو فوقي، فقال لي: أقتلك أو أخلي عنك؟ فقلت: بل خل عني. فنهض عني وهو يقول:
عرضنا عليك النزل منا تفضلاً... فلم ترعوي جهلاً كفعل الأشائم
#٤٩١#
وجئت بعدوانٍ وظلم ودونما... تمنيته في البيض حز الغلاصم
فقلت في نفسي: يا عمرو أنت فارس العرب، للموت أهون من المهرب من هذا الشيخ الضعيف، فدعتني نفسي إلى معاودته ثانية، وأنشأت أقول:
رويدك لا تعجل بليت بصارم... سليل المعالي من هزبرٍ قماقم
أإن زل عمرو زلة أعجميةً... ولم يك يوماً للفرار بحاجم
طمعت لما منتك نفسك تسلمن... سقتك المنايا كأسها بالصرائم
فمالك فابذل دون نفسك تسلمن... هنالك، أو تصبر لحز الغلاصم
فما دون ما تهواه للنفس مطمع... سوى أن أحز الرأس منك بصارم
ثم قلت: استأسر ثكلتك أمك، فدنا مني وهو يقول: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. ثم جذبني جذبة مثلت تحته، فاستوى على صدري، فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ فقلت: بل خل عني. فنهض #٤٩٢# وهو يقول:
بسم الله قد فزنا قديماً... ورحمن رحيم به قهرنا
وهل تغني جلادة ذي حفاظ... إذا يوما لمعركة نزلنا
وهل شيء يقوم لذكر ربي... وقدماً بالمسيح هناك عدنا
سأقصم كل ذي جن وأنس... إذا يوماً لمعضلة حللنا
فقلت: استأسر ثكلتك أمك. فدنا مني أيضاً وهو يقول: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فملئت منه رعباً يا أمير المؤمنين، وكنا لا نعرف مع اللات والعزى شيئاً، ثم جذبني جذبة فصرت تحته، فقلت: خل عني. فقال: هيهات بعد ثلاث مرار، ما أنا بفاعل، ثم قال: يا جارية ائتيني بشفرةٍ، فأتت بها فجز ناصيتي، ثم نهض وهو يقول:
مننا على عمروٍ فعاد لحينه... وثنا فثنينا فساء بما فعل
وفي اسم ذي الآلاء عز ومنعة... ومحترز لو كان سامعه عقل
وكنا يا أمير المؤمنين إذا جز نواصينا استحيينا أن نرجع إلى #٤٩٣# أهلينا حتى تنبت، فرضيت أن أخدمه حولاً، فلما حال علي الحول قال لي: يا عمرو، إني أريد أن تنطلق معي في البرية، وما بي من وجلٍ، وإني لواثقٌ بـ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فانطلقت معه حتى أتى وادياً، فهتف بأهله بـ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فلم يبق طائرٌ في وكره إلا طار، ثم هتف الثانية فلم يبق سبع في مربضه إلا نهض. ثم هتف الثالثة فإذا هو بأسود كالنخلة السحوق، وإذا هو لابس شعرٍ فرعبت، فقال الشيخ: لا ترع يا عمرو إذا نحن اصطرعنا فقل: غلبه صاحبي بـ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾.
قال: فاصطرعا، فقلت: غلبه صاحبي باللات والعزى، فلطمني لطمة كاد يقلع رأسي. فقلت له: لست بعائدٍ. قال: فاصطرعا فقلت: غلبه صاحبي بـ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾.
قال: فعلاه الشيخ فنفحه كما تنفح الفرس، وشق بطنه واستخرج منه كهيئة القنديل الأسود، فقال لي: يا عمرو هذا غشه #٤٩٤# وكفره. قلت له: فداك أبي وأمي ما لك ولهؤلاء القوم؟ فقال: يا عمرو إن الجارية التي رأيت في الخباء هي الفارعة ابنة المستورد وكان رجلاً من الجن، وكان مؤاخياً لي، وكان على دين المسيح عليه السلام، وهؤلاء قومها، يغزوني كل سنة منهم رجل فينصرني الله عليه بـ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾. فانطلقنا حتى أمعنا في البرية فقال: يا عمرو، قد رأيت ما كان مني وأنا جائع فالتمس لي شيئاً آكله فالتمست فما وجدت إلا بيض النعام، فأتيته به وهو نائمٌ قد توسد إحدى يديه وتحته سيفه، وهو سيف طوله سبعة أشبار وعرضه أقل من شبرين وهو الصمصامة، فأخرجت سيفه من تحته فضربته ضربة قطعته بين الساقين، فقال لي: يا غدار ما أغدرك، فلم أزل أضربه حتى قطعته إرباً إرباً، فغضب عمر رضي الله عنه وقال: أنا أقول كما قال العبد الصالح يا غدار ظفر بك رجل من المسلمين فأنعم عليك ثلاث مرات، ووجدته نائماً فقتلته؟ والله لو كنت مؤاخذك في الإسلام بما فعلت في الجاهلية لقتلتك أنا به، ثم أنشأ عمر يقول:
إذا قتلت أخا الإسلام تظلمه... أف لما جئته في سالف الحقب
#٤٩٥#
الحر يأنف مما أنت تفعله... تبا لما جئته في العجم والعرب
لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلت... أهل الجهالة والإشراك والصلب
لنالك اليوم مني سوء طالبة... يدعى لذائقها بالويل والحرب
ثم قال: ما كان في حديثه يا عمرو؟ قال: فأتية الخيمة فاستقبلتني الجارية فقالت: يا عمرو، وما فعل الشيخ؟ قلت: قتله الحبشي. قالت: كذبت، بل قتلته أنت يا غدار، ثم دخلت الخيمة وجعلت تبكيه وهي تقول:
عين جودي لفارس مغوار... واندبيه بواكفات غزار
سبع الحرب والفوارس يردى... ورئيس الفخار يوم الفخار
لهف نفسي على بقائك عمرو... وأسلمتك الحماة للأقدار
#٤٩٦#
بعدما جز ما به كنت تسمو... في زبيد ومعشر كفار
ولعمري لو رمته أنت حقا... رمت منه كصارم بتار
فجزاك المليك سوءاً وهوناً... عشت منه بذلة وصغار
فدخلت الخيمة أريد قتلها، فلم أر أحداً، كأن الأرض ابتلعتها، فاقتلعت الخيمة وسقت الماشية حتى أتيت بها قومي بني زبيد.


الصفحة التالية
Icon