وقد عَلِمْنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلَّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإعجاز البديع، والاختصار اللطيف؛ وضمَّنه من الحلاوة، وجلله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمهِ وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيرت عقولهم فيها.
وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته، في حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته(١)، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه.
وقبيحٌ _لعمري_ بالفقيه المؤتم به؛ والقارئ المهتدَى بهديه، والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته، وتمام آلته في مجادلته، وشدة شكيمته في حِجَاجه(٢) وبالعربي الصليب(٣)، والقرشي الصريح(٤) _ ألا يعرف إعجاز كتاب الله _تعالى_ إلا من الجهة التي يعرفه منها الزنجي(٥) والنبطي(٦) أو أن يستدل عليه بما استدل به الجاهل الغبي+(٧).
إلى أن قال ×: =ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة؛ منها أن صاحب العربية إذا أخل بطلبه، وفرَّط في التماسه، ففاتته فضيلته، وَعَلقَتْ به رذيلةُ فَوْتِهِ _ عفّى على جميع محاسنه، وعمَّى(٨) سائر فضائله؛ لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد، وآخر رديء؛ ولفظٍ حسن، وآخر قبيح؛ وشعر نادر، وآخر بارد _ بان جهله، وظهر نقصه.

(١) _ النصاعة هنا: الوضوح.
(٢) _ شديد الشكيمة: أبيّ لا ينقاد. والحِجَاج: مصدر حاجه: إذا غلبه في الحجة.
(٣) _ الصليب: الخالص النسب.
(٤) _ الصريح: الخالص النسب.
(٥) _ الزنجي : بفتح الزاي وكسرها: واحد الزنوج وهم جيل من السودان.
(٦) _ النبطي: واحد النبط بفتحتين وهم جيل من العجم كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين.
(٧) _ كتاب الصناعتين ص١_٢.
(٨) _ عَمَّى: أخفى. والسائر: الباقي.


الصفحة التالية
Icon