…وحتى لا ينخرم ما بنى عليه ابن تيمية حكمه ـ من أن السلف لم يكن يعرف لديهم معارضة القرآن بالعقل والرأي والذوق، أو الوجد والقياس ـ يناقش كيفية ظهور البدع الأولى، فيبين أن بدعة الخوارج لم تكن نتيجة معارضتهم القرآن الكريم بالرأي أو العقل أو القياس أو الوجد أو شيء من ذلك، بل كانت نتيجة سوء فهمهم للقرآن الكريم لا غير. وفي ذلك يقول ابن تيمية "وكانت البدع الأولى مثل " بدعة الخوارج " إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ كان المؤمن هو البر التقي، قالوا : فمن لم يكن برا تقيا فهو كافر، وهو مخلد في النار، ثم قالوا : وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله "(١).
…وحتى لا تضيع المقاييس أو تلتبس بغيرها، يبين الأصل والقاعدة المنهجية، الفاصلة والمميزة بين منهج أهل السنة في البحث العلمي، وبين منهج أهل البدعة، فأهل السنة لا يتكلمون في شيء من الدين إلا اتباعا لما جاء به أهل الرسول ( فإذا أراد العالم السني معرفة شيء من الدين نظر في الكتاب والسنة، فهما المعين والمصدر الذي لا ينضب، وهما اللذان يمدانه بالمعرفة الحقيقية التي لا يحتاج بعدها إلى أي معرفة أخرى. كيف لا وهي معرفة تفجرت من عرش الرحمن، ورشحت على لسان الرسول الكريم ( أما أهل البدعة فهم يجعلون آراءهم ومواجيدهم وعقولهم وأذواقهم، هي الأصل الذي يستمدون منه تصورهم للوجود كله، ثم ينظرون في الكتاب والسنة فإن وجدوا فيهما ما يوافق مذهبهم، أو هواهم أو مواجيدهم، اتخذوه حجة على صحة مذهبهم وسلامة منزعهم، وإن وجدوهما يخالفان ما ذهبوا إليه، أعرضوا عنهما بدعوى تفويض أمره إلى الله تعالى، أو حرفوهما بدعوى التأويل.