إن تشبع المستشرقين بمنهج الأثر والتأثر راجع إلى كون هذا المنهج قد طبق بصورة صارمة في بيئتهم، ذلك أن النهضة الأوروبية قد تأسست على الحضارة اليونانية التي تعدُّ الميراث القديم للفكر الغربي، وهكذا كلما أنشئ مذهب فكري وديني جديد وجد له نظير في الحضارة اليونانية القديمة، ومن خلال هذا تم تطبيق هذا المنهج على كل معطيات التراث الإسلامي ومنها حقل القرآنيات، وذلك من غير اكتراث بأصالة التراث الإسلامي ذي الأصول والأسس الواضحة المؤسسة على معايير دينية أصيلة، مستمدة مباشرة من الوحي الإلهي المنَزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
المبحث الرابع: المنهج الافتراضي
إذا كان المستشرقون في منهجهم التشكيكي في الوقائع القطعية يشككون-كما سبق أن رأينا- فيما هو أدنى إلى الصدق، فإنهم في أخذهم بالمنهج الافتراضي يصدقون ما هو أدنى وأقرب إلى الكذب.
ولعل أبرز حقل قرآني مارس فيه القوم هذا المنهج هو ما تعلق بترتيب الآيات والسور في القرآن، إذ نجد معظم المستشرقين قد أبدوا في مسألة ترتيب الآيات على وجه الخصوص موقفاً مخالفاً لما هو مقرر لدى المسلمين من كون ترتيب الآيات أمراً توقيفياً لا خلاف فيه(١) فهم إذن، وانطلاقاً من منهجهم التاريخي الذي يفترض ترتيباً منطقياً يقبله العقل البشري، حاولوا افتراض ترتيبات جديدة يحكمها الهوى المجرد، وهذا الترتيب الجديد الذي قادهم إليه سلوكهم للمنهج التاريخي قد علق عليه المستشرقون أخطر النتائج في حقل القرآنيات، واتخذوه أكبر مدخل للطعن في صحة القرآن، وتضارُب أحكامه وخضوعه إلى الظروف الزمانية والمكانية.

(١) يعد نولدكه الذي كان مقتنعا أشد الاقتناع بضرورة ترتيب القرآن زمنيا أول من رسم لنفسه منهجا جديدا تأثر به معظم من أتى بعده فأصبح موضوع هذا الترتيب يشغل أذهان المستشرقين جميعا.


الصفحة التالية
Icon