ومن المستشرقين من قال: ((إن اختلاف الأسلوب بين العهد المكي والعهد المدني يُعدُّ انعكاساً واضحاً للبيئة التي وجد فيها، فالنصوص القرآنية تعكس طبيعة وبيئة وظروف كل مكان وكل زمان ـ فالأسلوب القرآني يمتاز في مكة بالشدة والعنف؛ لأن أهلها أجلاف بينما يمتاز في المدينة باللين والوضوح والصفح؛ لأن أهلها مستنيرون))(١).
لا شك أن هدف المستشرقين من هذا الكلام الذي يرمي إلى إثبات دعوى تأثر القرآن وأسلوبه بالبيئة التي نزل فيها هو القول بأن القرآن من كلام محمد ﷺ لا كلام الله تعالى. ويتجاهل المغالطون من المستشرقين الذين يعلمون جيداً مراحل تطور الدعوة الإسلامية من مكة إلى المدينة أن خطاب أهل المدينة لا يمكن أن يكون مماثلاً لخطاب أهل مكة، فتأسيس الدولة الإسلامية في المدينة في ظل بيئة جديدة قد أصبح يستدعي التفصيل في التشريع وبناء المجتمع الجديد، فلا غرو إذن أن يطنب القرآن بعدما كان يوجز، ويفصل بعدما كان يجمل. أما في مكة فقد كانت الآيات التي تنْزل تشتد في تسفيه أحلام المشركين ومقارعتهم بالحجج وتحديهم. فالأمر كان يتعلق بتأسيس أسس العقيدة الصحيحة وتدمير معالم العقائد الوثنية السائدة. كما أن طبيعة الأسلوب القرآني قد اختلفت من مكة إلى المدينة؛ نظراً لمراعاة حال الدعوة وتدرجها وليس في ذلك أدنى مراعاة لمدى تحضر أو تخلف الأقوام المخاطبين، كما رمى إلى ذلك زمرة المغالطين والمغرضين من المستشرقين.

(١) Henri Lammens; l'Islam، رضي الله عنeyrouth ١٩٤٣ p ٦٠.


الصفحة التالية
Icon