ذلك الكتاب نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب المنزل علوا كبيرا كما قال تعالى في فاتحة سورة الزخرف: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.
ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام وذلك من وجوه ثلاثة:
أحدها : أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ولا ريب أن القرآن كلام فتأويل إنزاله بالإعلام رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه ومفهوم من تحققه.
ثانيها : أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي ﷺ هو إعلام الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء الله دلالة البشر عليه من هذا الحق.
ثالثها : أن تفسير الإنزال بالإعلام ينسجم مع القرآن بأي إطلاق من إطلاقاته وعلى أي تنزل من تنزلاته.
تنزلات القرآن
...
٢- تنزلات القرآن
شرف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة تنزلات:
أ- التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ. ودليله قول سبحانه: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾. وكان هذا الوجود في اللوح بطريقة وفي وقت لا يعلمهما إلا الله تعالى ومن أطلعه على غيبه. وكان جملة لا مفرقا لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه. ولأن أسرار تنجيم القرآن على النبي ﷺ لا يعقل تحققها في هذا التنزل.
وحكمة هذا النزول ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه وإقامته سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدر وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين. فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته. ولا ريب أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي ويبعث الطمأنينة إلى نفسه والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته وشؤونه في عباده كما يحمل الناس على السكون والرضا تحت سلطان القدر والقضاء ومن هنا تهون عليهم الحياة بضرائها وسرائها كما قال جل شأنه: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ا. هـ من سورة الحديد.@