سورة البقرة اتجهت الجهود بعد الهجرة إلى تكوين المجتمع الإسلامى الأول فى المدينة المنورة، لقد نجح المسلمون أفرادا فى مقاومة فتن الوثنية، وهاهم أولاء قد خلصوا بدينهم، ووجدوا دارا تجمع أمتهم، وتقيم دولتهم.. لكنهم فوجئوا بعداوة من نوع آخر، عداوة اليهود الذين حسبوا الدين حكرا على جنسهم، فتجهموا للمنافسين الجدد، وشرعوا يستعدون لمقاومتهم، ويتآمرون سرا وعلنا على الكيد لهم.. والقبائل اليهودية التى استوطنت البقاع الخصبة فى الحجاز، بدأت حياتها فارة بعقائدها من بطش الرومان، وقد عاشت بين العرب الأميين مترفعة عليهم، فما حاولت محاربة الأصنام، ولا أنشأت دعوة إلى الله، ولا عرضت تعاليم السماء لتغنى عن تعاليم الأرض.. كلا، لقد نأت بنفسها، واستراحت إلى مواريثها، وظنت أن الدين امتياز لها، ما ينبغى أن يشركهم فيه أحد!! فهل بقيت على هذا الشعور عندما ظهر الإسلام؟ لا، لقد رفضته، وقلبت له الأمور… وحاول النبى الخاتم أن يستلين جانبهم، ويتعاون على الخير معهم، بيد أن حقدهم غلب، وبدأ شرهم ينمو، فكان المسلمون فى مهجرهم الذى ظفروا به يبنون بيد، ويقاومون بأخرى! يؤسسون مجتمعهم وفق إشارات الوحى، ويدفعون عنه أعداء لا يخفى لهم ضغن!! فى هذا الجو نزلت سورة البقرة أطول سور القرآن الكريم وأحفلها بالتعاليم المنوعة... وبطريق التلميح أشارت إلى زيف ما بأيدى اليهود " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " كأن الكتب الأخرى موضع ريبة، وكأن ما فيها من خليط لا يصنع تقوى، ولا يزكى سيرة ! وخلال المتقين التى أحصتها سورة البقرة كثيرة، فقد تكررت مادة التقوى خلال السورة بضعا وثلاثين مرة، لا تشبهها فى ذلك سورة أخرى، والتقوى هى الصفة الجامعة التى طلبت من سائر الأمم فى شتى الرسالات " ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله.. " ص _٠١٢