لذلك اقتضت حكمة الله أن يتدرج القرآن في انتزاع العقائد الفاسدة فينهى أولا عن عبادة غير الله فإذا ما أقلعوا عنه، أخذ في النهي عن منكر آخر وهكذا تدرج القرآن معهم في انتزاع المنكر الواحد كما حدث في تحريم الخمر فقد نزل فيه أول مانزل ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ فشربها قوم وتركها آخرون ثم إن بعض المسلمين صنع طعاماً ودعا أصحابه فأكلوا وشربوا ثم قام أحدهم ليصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها ونقص وزاد، فأنزل الله عز وجل ﴿ ياأيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ (النساء : ٤٣.)
فكانوا بعد ذلك يتركونها عند الصلوات وفي الأوقات القريبة منها حتى لايقعوا في مثل هذا الخلط، وبذلك صار من السهل تحريمها تحريماً باتاً، فقد صنع بعض المسلمين طعاماً فأكلوا وشربوا حتى لعبت الخمر برؤوسهم فتناشدوا الأشعار فتشاجروا حتى شج أحدهم رأس الآخر فقال الفاروق عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافياً فحرمها الله بعد ذلك تحريماً باتا حيث أنزل فيها ﴿ ياأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ إلى قوله ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ فقال عمر: انتهينا فمن ثم اقتضت الحكمة نزول القرآن مفرقا (١).
من الحكم كذلك: التدرج في تثبيت العقائد الصحيحة والأحكام التعبدية والعملية والآداب والأخلاق الفاضلة.