وأدرك شمول هذه الدعوة صحابته رضي الله عنهم، فأرسل الخلفاء الجيوش لحماية دعاة الإسلام ممن يريد منعهم من التبليغ الواجب الذي كلفت به هذه الأمة، فحققت تلك الجيوش أوسع الفتوحات، في مدة لا يزال المؤرخون يقفون أمامها حائرين.
وانتشر الإسلام بين العجم في مختلف الأقطار، وفتحوا له قلوبهم وصدورهم، وصاروا من الدعاة إليه، وربَّوا أبناءهم عليه، وأقبلوا يتعلمون أحكامه ويدرسون تعاليمه.
وأدرك الجيل الأول من أولئك العجم منزلة اللغة العربية في القرآن الكريم، وأدركوا أهميتها، فقاموا بتنشئة أبنائهم عليها، وتحصيل علوم الدين الإسلامي، أما هم –وقد كاد الركب يفوتهم بعد أن تقدم بهم العمر، ورسخت العجمة في ألسنتهم- فاكتفوا بتعلم ما هو ضروري من الدين بباعث العقيدة وضرورة إقامة الفريضة، فتعلموا من القرآن ما يقيمون به الصلاة المفروضة، ويتعبدون بتلاوته (١).
وقد أدرك أبو حنيفة رحمه الله تعالى (٨٠-١٥٠ه‍) طائفة منهم لم تستقم ألسنتهم بالعربية، فسوغ لهم من قبيل الرخصة الدينية فحسب، أن يقرؤوا معاني سورة الفاتحة على أنها دعاء حتى تقوم ألسنتهم، فلما رأى الألسنة استقامت ولانت وخشي حدوث بدعة مع انقراض الجيل الأول وكون الجيل الثاني من الأجيال التي نشأت في دار الإسلام وتعلمت لغته، رجع عن رأيه رحمه الله تعالى (٢).
ومن يومئذ لم يزل علماء المسلمين -رحمهم الله تعالى- يدعون إلى تعلم اللغة العربية ووجوب الصلاة وقراءة القرآن بها لا بغيرها.
ومع مرور الأيام فترت العزائم وضعف الإيمان وصارت الأمة الإسلامية –أو كادت- غثاء كغثاء السيل، وتداعت الأمم عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها وذهبوا يتقاسمونها فيما بينهم.

(١) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: د/فهد الرومي، ١/٤١٣-٤١٤ (بتصرف).
(٢) القرآن المعجزة الكبرى: محمد أبو زهرة، ص٥٢١.


الصفحة التالية
Icon