نيل المرام من تفسير آيات الأحكام، ص : ٣٦٩
و هو حديث صالح للاحتجاج به، كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد.
وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتب أو السنة، ولكنه قصّر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولا أولياء، لأنه رأي في شرع اللّه، وللناس عنه غنى بكتاب اللّه سبحانه وسنّة رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل، إنما هو رخصة للمجتهد، يجوز له أن يعمل به ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزله منزلة مسائل الشرع.
وبهذا يتضح لك أتم إيضاح ويظهر لك أكمل ظهور، أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء، والعامل بها على شفا جرف هار.
فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفى ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده، ظلمات بعضها فوق بعض «١». انتهى.
وقد قيل : إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلا، بل علل اللّه سبحانه النهي عن العمل بما ليس يعلم بقوله :
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ : أشار إلى الثلاثة الأعضاء، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال الزجاج : إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك.
وأنشد ابن جرير «٢» مستدلا على عدم جواز هذا، قول الشاعر «٣» :
ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى والعيش بعد أولئك الأيام
و اعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام، وتبعه غيره على ذلك الخطأ كصاحب «الكشاف».
(١) انظر : أقوال المفسرين في «الطبري» (١٥/ ٨٦)، ابن كثير (٥/ ٧٢)، البحر المحيط (٦/ ٣٦)، والقرطبي (١٠/ ٢٦٢)، ومجاز أبي عبيدة (١/ ٣٧٩).
(٢) انظر : تفسير الطبري (١٥/ ٨٧).
(٣) البيت في «ديوانه» (ص ٥٥١).