والتعبير البليغ هو الذي يراعي مقتضى الحال؛ لأن المقصود من الكلام إفادة المخاطب والتأثير فيه، وإذا لم يراع المتكلم المقام الذي هو فيه لم يبلغ ما يصبو إليه من الإفادة والتأثير، قال ابن خلدون: (اعلم أن الكلام الذي هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه في إفادة المعنى، وأما إذا كان مهملاً فهو كالموات الذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان، لأنهم يقولون: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال... ، ثم اعلم أنهم إذا قالوا: الكلام المطبوع؛ فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته، من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب ليس المقصود منه النطق فقط؛ بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، ويدل به عليه دلالة وثيقة)(١).
وقديماً وحديثاً جعل العلماء رعاية مقتضى الحال من المقاييس المهمة التي يقاس بها الكلام ليتبين حسنه من قبحه، على قدر ما فيه من الرعاية أو عدمها، لأن جوهر البلاغة هو في مطابقة الحال، كما استقر تعريف البلاغيين لها، حيث عرفوا بلاغة الكلام بأنها مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته(٢)، قال الخطيب القزويني: (ومقتضى الحال مختلف، فإن مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام، إلى غير ذلك... ، وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب، وانحطاطه بعدم مطابقته له)(٣).

(١) مقدمة ابن خلدون: ١/٢٨٥.
(٢) ينظر: الإيضاح، للقزويني، مع شروح التلخيص: ١/١٢٢.
(٣) المصدر السابق: ١/١٢٤.


الصفحة التالية
Icon