لا يمكن للفقه أن ينمو ويزدهر إلا في ظل بيئة (١) فكرية ونفسية متوازنة، تعين على التبصر والتفقه وتيسر الطريق إلى حسن الفهم وتمنح العقل القدرة على الانطلاق والإبداع.
وفي القرآن الكريم من السمات والخصائص ما يسهم في توفير البيئة الفقهية وإيجاد المكان الملائم للمتفقه، فالأمر بطاعة الله ورسوله يتكرر في القرآن، ويتردد صداه في نفس المتفقه كما في قوله تعالى :﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: من الآية٥٩] فلا يخرج عن الدليل الشرعي قيد أنملة، ولا يعارض النص برأيه واجتهاده أو يصادمه بقياسه واستحسانه، والقرآن الكريم ذو وجوه كثيرة (٢) مما يُساعد على توسيع دائرة نظر المتفقه، ويدفعه إلى معالجة المسائل من جوانبها المختلفة، ويُفيء على عقله النماء والخصوبة، والقدرة على استدعاء جميع الاحتمالات. ويتعلم من القرآن المناظرة والمجادلة للاسترشاد ومعرفة الحق(٣)، والفقيه في أمس الحاجة إلى ترويض عقله وشحذ تفكيره، وتقويم حجته (٤). كما يتعلم منه حسن النظر، وإعمال الفكر والمزاوجة بين الألفاظ وتكثير المعاني وتثبيتها وربط بعضها ببعض (٥)، ويتربى بفضله على التدرج والموازنة بين المصالح والمفاسد(٦)، وكف النفس عن
(٢) ابن عبدالبر، الجامع ٢/٥٦ عن أبي الدرداء.
(٣) ينظر: ابن القيم، التبيان ١٥٦، وبدائع الفوائد ٤/١٥٤٠.
(٤) ينظر: الخطيب، الفقيه والمتفقه ٢/٦٢، وابن عبدالبر، الجامع ٢/١١٣، ١٢٠، ١٣١ أما ما نهى عنه النبي- ﷺ - وحذر منه السلف، فهو جدال الدفع والجحود. ينظر: ابن عبدالبر، الجامع٢/١١٣، وابن رجب، فضل علم السلف ٤٨.
(٥) ينظر: ابن المنادي، متشابه القرآن ٢٢٩.
(٦) ينظر: الخطيب، الفقيه والمتفقه ٢/١٠١، والعلائي، المجموع ١/١٢٩.