مما جعلهم يدفعون ناشئتهم إلى حفظه وإتقان تلاوته، ويلحقون أبناءهم بحلقاته منذ الصغر، ويقدمون الاهتمام به على غيره من سائر العلوم فإذا ما أتم المتعلم ذلك، شرع في طلب الحديث ومعرفة الخلاف في المسائل الفقهية، ثم سائر العلوم الأخرى بحسب ميوله وقدرته (١).
الأمر الذي مكّنهم من حسن التفقه، ومنحهم المهارة اللازمة، فأبدعوا وكتبوا المؤلفات الكثيرة الغزيرة، وأورثوا الأمة تراثاً فقهياً ضخماً لا زال أهل العلم والمشتغلون بالفقه يردونه، ويلتقطون أطايبه وينهلون منه الآراء الناضجة والاجتهادات الفائقة، والنظرات الصائبة، والقواعد المحكمة، ويتطلبون فيه ما يُعينهم على الإجابة عن النوازل المستجدة، والمسائل الشائكة، وحل المشكلات المستعصية، والتصدي لإصلاح المجتمع، وتلمس سبل النجاح في الحياة، فكانت هذه المؤلفات بحق معيناً لا ينضب، وكنزاً لا يفنى، ومنجماً علمياً لا يخفت بريقه وتألقه.
وكشفت عما كان عليه سلف هذه الأمة من وعي وإدراك وقدرة على فهم الواقع، واستشراف للمستقبل : درؤوا به عن الأمة فتنة الانفلات الفقهي قروناً طويلة، حتى إذا طال الأمد أصبح لهذه الفوضى دعاتها ومسوقوها باسم شعارات مختلقة وأسماء براقة.
المطلب الأول: أثر تعلم القرآن الكريم في الحث على المبادرة إلى التفقه
أمر الله تعالى المسلم أن يلتحق بركب الفقهاء، وأن ينضم إلى سلكهم، وينخرط في سبيلهم؛ ليكون منهم وفي معيّتهم ما أمكنه ذلك، قال سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [سورة آل عمران: ٧٩] (٢).
(٢) أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه ١/٥١ عن مجاهد.