قوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ﴾ الخ، الفتح هو الظفر بالبلاد عنوة أو صلحاً، فشبه الظفر بالبلاد، لفتح الباب المغلق بجامع التمكن في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الفتح فتحنا بمعنى ظفرنا، أي مكناك من البلاد، وحذف المعمول ليؤذن بالعموم، وأسند إلى نون العظمة اعتناء بشأن الفتح، وإشارة إلى أن هذا الأمر لا يتيسر إلا بإرادة الله وتوفيقه. قوله: (قضينا بفتح مكة وغيرها) أي كخبير وحنين والطائف ونحوها، وهو جواب عما يقال: إن الآية نزلت في رجوعه من الحديبية عام ست، ومكة لم تفتح إلا في السنة الثامنة، فكيف عبر بالماضي؟ فأجاب: بأن التعبير بالماضي بالنسبة للقضاء الأزلي، والمعنى: حكما لك في الأزل بالفتح المبين وحينئذ فالتعبير بالماضي حقيقة، وأجيب أيضاً بأن التعبير بالماضي مجاز لتحقق الوقوع، نظير﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ﴾[الكهف: ٩٩، يس: ٥١].
وأجيب أيضاً: بأن الفتح على حقيقته، وأن المراد به صلح الحديبية، لأنه أصاب فيه ما لم يصب في غيره، قال الزهري: لقد كان فتح الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح، مشى الناس بعضهم على بعض، وعلموا وسمعوا من الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان، وإلا المسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف، وقال الشعبي في قوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ هو فتح الحديبية، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة غيرها، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس ا هـ. قوله: (عنوة) هذا مذهب مالك وأبي حنيفة، نظراً لكون النبي وأصحابه دخلوها قهراً، ووقوع القتال من بعض الصحابة لخالد بن الوليد وأصحابه في جهة وأسفلها، مذهب الشافعي أنها فتحت صلحاً نظراً للظاهر، وهو عدم حصول القتال من النبي، وتأمينه أبا سفيان، وهذا الخلاف يكاد أن يكون لفظياً. قوله: (بجهادك) متعلق بقوله: (بفتح مكة) وهو جواب عما يقال: إن الفتح ناشئ من الله، والمغفرة تكون للشخص، فكيف تترتب عليه، وإنما الشأن أن تترتب على ما يكون من الشخص؟ فأجاب: بأن الفتح وإن كان من الله، لكنه تترتب على فعل النبي وهو الجهاد، فصح أنه يترتب على الفتح المغفرة بهذا الاعتبار. قوله: (لترغب أمتك) علة لترتب الغفران على الفتح. قوله: (وهو مؤول) أي أن إسناد الذنب له صلى الله عليه وسلم مؤول، إما بأن المراد من ذنوب أمتك، أو هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو بأن المراد بالغفران، الإحالة بينه وبين الذنوب، فلا تصدر منه، لأن الغفر هو الستر، والستر إما بين العيد والذنب، أو بين الذنب وعذابه، فاللائق بالأنبياء الأول، وبالأمم الثاني، إن قلت: إن عصمة النبي عليه السلام من الذنوب، حاصلة بالفعل قبل النبوة وبعدها، فكيف تكون مرتبة على جهاده؟ أجيب: بأن المرتب اظهارها للخلق لا هي نفسها. قوله: (من الذنوب) أي صغيرها وكبيرها، عمدها وسهوها، قبل النوبة وبعدها. قوله: (للعلة الغائية) أي وهي المترتبة على آخر الفعل، وليست العلة باعثة لاستحالة الأغراض على الله تعالى في الأفعال والأحكام. قوله: (لا سبب) أي لأن السبب ما يضاف إليه الحكم، كالزوال لوجوب الظهر، والمغفرة ليست كذلك. قوله: (بالفتح المذكور) أي وهو فتح مكة وغيرها بجهادك. قوله: (يثبتك عليه) أي يديمك ويقويك عليه، أو المراد يزيدك في الهداية باتباع الشريعة وأحكام الدين. قوله: (ذا عز) جواب عما يقال: إن العزيز وصف للمنصور لا للنصر، وتوضيح جوابه أن فعيلاً صيغة نسبة، أي نصراً منسوباً للعز. قوله: (لا ذل معه) أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأما مطلق النصر، فيكون حتى لبعض الكفار في الدنيا.


الصفحة التالية
Icon