قوله: ﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ﴾ اختلف المفسرون في هذه اللام، فقيل: هي متعلقة بقوله:﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴾[الفيل: ٥] في السورة قبلها، كأنه قال: أهلك أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما ألفوا من رحلتي الشتاء والصيف. قال الزمخشري: وهو بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به، ولهذا جعل أبي بن كعب هذه السورة سورة الفيل واحدة، ولم يفصل بينهما في مصحفة ببسملة، ورد هذا القول بأن الصحابة أجمعت على أنهما سورتان منفصلتان، بينهما بسملة، وقيل: متعلقة بمحذوف تقديره فعل ذلك، أي إهلاك أصحاب الفيل ﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ﴾ وقيل: تقديره أعجبوا، والمعنى أعجبوا ﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ ﴾ وتركهم عبادة رب هذا البيت، وقيل: متعلقة بما بعدها تقديره: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، أي لجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة، وإنما دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، كأنه قال: إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لإيلافهم، فإنها أظهر نعمة عليهم، وعليه درج المفسر، و ﴿ قُرَيْشٍ ﴾ مشتق إما من التقرش وهو التجمع، سموا بذلك لاجتماعهم بعد افتراقهم، قال الشاعر: أبونا قريش كان يدعى مجمعاً به جمع الله القبائل من فهرأو من التقريش، يقال: قرش يقرش بمعنى فتش، لكونهم كانوا يفتشون على ذوي الخلات ليسدوا خلتهم، قال الشاعر: أيها الشامت المقرش عنا رحلتي عند عمرو فهل له ابقاءوقال ابن عباس: سميت باسم دابة في البحر يقال لها القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلوا ولا تعلى، قال الشاعر: وقريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشاسلطت بالعلو في لجة البحـ ـر على سائر البحور جيوشاتأكل الغث والسمين ولا تتـ ـرك فيه لذي الجناحين ريشاهكذا في الكتاب حي قريش يأكلون البلاد أكلاً كشيشاولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا يملأ الأرض خيلة ورجالاًيحشرون المطلي حشراً كميشا وهو مصروف هنا إجماعاً، لكونه مراداً به الحي، إذ لو أريد به القبيلة لامتنع صرفه. سيبويه في معد وثقيف وقريش وكنانة: هذه للإحياء أكثر، وإن جعلتها اسماً للقبائل فهو جائز حسن، واختلف القراء في قوله الإيلاف فبعضهم قرأ لإيلاف بإثبات الياء قبل اللام الثانية، وبعضهم قرأ بحذفها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو قوله: ﴿ إِيلاَفِهِمْ ﴾، ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين، أن القراء اختلفوا في سقوط الباء وثبوتها في الأول، مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطّاً، واتفقوا على اثبات الياء في الثاني، مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطّاً، فهو أدل دليل على أن القراءة سنة متبعة مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا اتباعاً لمجرد الخط. قوله: (تأكيد) أي لفظي، و ﴿ رِحْلَةَ ﴾ مفعول للأول، عليه، قيل بدل، لأنه أطلق المبدل منه، وقيد البدل، وهو ﴿ رِحْلَةَ ﴾.
قوله: (وهو مصدر آلف بالمد) أي أن ايلاف الثاني، وكذا الأول على قراءة اثبات الياء مصدر آلف بالمد كأكرم، يقال: آلفته أؤلفه ايلافاً، وأما على قراءة حذف الياء، فهو صدر لألف ثلاثياً، ككتب كتاباً. قوله: ﴿ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ ﴾ مفعول به بالمصدر، والمصدر مضاف لفاعله، أي لأن ألفوا رحلة، والأصل رحلتي الشتاء والصيف، وإنما أفرد لأمن اللبس، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد المناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير، حتى كان فقيرهم كغنيهم، واتبع هاشماً على ذلك إخوته، فكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكانت تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار، بجاه هؤلاء الإخوة، أي بأمانهم الذي أخذوه من ملك كل ناحية من هذه النواحي، والرحلة بالكسر اسم مصدر بمعنى الارتحال وهو الانتقال، وأما بالضم فهو الشيء الذي يرتحل إليه مكاناً أو شخصاً. قوله: (وهم ولد النضر بن كنانة) أي فكل من ولده النضر فهو قرشي، دون من لم يلده النضر وإن ولده كنانة، وهذا هو الصحيح، وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فمن يلده فهر فليس بقرشي وإن ولده النضر قال العراقي: أما قريش فالأصح فهر جماعها والأكثرون النضرفالحاصل أن بني فهو قرشيون اتفاقاً، وبنو كنانة الذين يلدهم النضر ليسوا بقرشيين، واختلف في بن النضر وبني مالك، وفهر هو الجد الحادي ع شر من أجداده صلى الله عليه وسلم، والنضر هو الثالث عشر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عوف بن مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، إلى آخر النسب الشريف. قوله: (والفاء زائدة) أي ولهذا جاز تقديم معمول ما بعده عليها، وقيل: إنها ليست زائدة، بل هي واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لإيلافهم، فإنها أظهر نعمة عليهم. قوله: (أي من أجله) أشار بذلك إلى أن ﴿ مِّنْ ﴾ تعليلية، والكلام على حذف مضاف، والتقدير: أطعمهم من أجل إزالة الجوع عنهم، وآمنهم من أجل إزالة الخوف عنهم، وقيل: إن ﴿ مِّنْ ﴾ بمعنى بدل، ولا يحتاج لتقدير مضاف. والمعنى: فأطعمهم بدل الجوع، وآمنهم بدل الخوف، نظير قوله تعالى:﴿ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ ﴾[التوبة: ٣٨] وقيل: ﴿ مِّنْ ﴾ بمعنى بعد، وقيل في معنى الآية: أنهم لما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال:" اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف "فاشتد عليهم القحط، وأصابهم الجهد والجوع، فقالوا: يا محمد ادع لنا فإنا مؤمنون، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخصبت البلاد، وأخصب بأهل مكة بعد القحط والجهد، وهذا حجة من يقول: إن السورة مدنية. قوله: (وخافوا جيش الفيل) أي وهذا وجه مناسبتها لما قبلها، وذلك أنه بعد أن ذكر لهم أسباب خوفهم، امتن عليهم بإزالتها كأنه قال: قد أزلنا عنكم ما تكرهون من الخوف والجوع، فالواجب عليكم أن تشكروا تلك النعم، وتصرفوها في مصارفها، وقيل: آمنهم من خوف الجذام، لا يصيبهم ببلدهم الجذام، وقيل: آمنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، وكل حاصل.