﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ ﴾ هذه السورة مدنية نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ومنها ما نزل في حجة الوداع ومنها ما نزل عام الفتح وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة أو في سفر أو بمكة فهو مدني ومناسبة افتتاحها لآخر ما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال فبين في هذه السورة احكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل أوفوا، يقال: وفي وأوفا ووفا. والعقود جمع عقد وهو ما التزمه الانسان من مطلوب شرعي وهو عام يندرج تحته ما ربط الانسان على نفسه أو مع صاحب له. مما يجوز شرعاً وأصل العقود في الإِجرام ثم توسع فيه فأطلق في المعاني.﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ ﴾ هذا تفصيل بعد عموم. وبهيمة الانعام هي الانعام نفسها أو ما يشبهها من الوحش المباح أكله كالظباء والمها وبقر الوحش والابل والأرنب مما لا ناب له.﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ هذا استثناء من بهيمة الانعام. وما يتلى عليكم مبهم مفسر بقوله:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ﴾[المائدة: ٣].
الآية. وبما ثبت في السنة تحريمه. وما في موضع نصب لأنه استثناء من موجب، وهو قوله: ﴿ أُحِلَّتْ ﴾.
وموضع ما نصب على الاستثناء ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة. وقال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إلا عاطفة، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجال إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد. " انتهى ". وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة، لأن الذي قبله موجب فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد، على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلا ما يتلى، وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله: وذلك لا يجوز عند البصريين ظاهره الإِشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف، وقوله: إلا من نكرة هذا الاستثناء مبهم لا ندري من أي شيء هو، وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصري ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصري البتة وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون المنعوت نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت فلم يفرق بينهما في الحكم ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها من الإِعراب على طريقة البدل حيث يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ اتفق الجمهور على نصب غير، واتفق من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال، واختلفوا في صاحب الحال. فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال الجمهور: الزمخشري وابن عطية وغيرهما هو الضمير المجرور في أحل لكم. وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من: أحل المقام مقامه المفعول به وهو الله. وقال بعضهم: هو الضمير المجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم هو استثناء من بهيمة الانعام وان قوله: غير محلي الصيد استثناء آخر منه، فالاستثناءان معاً هما من بهيمة الانعام وهي المستثنى منها والتقدير إلا ما يتلى عليكم الا الصيد وأنتم محرمون بخلاف قوله:﴿ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾[الحجر: ٥٨، الذاريات: ٣٢]، على أن يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإِحرام لأنه مستثنى من المحظور إذ كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإِباحة وهذا وجه ساقط فإِذن معناه أحلت لكم بهيمة الانعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. قال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير وقدروا تقديرات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على إطراده متمكن استثناء بعد استثناء. انتهى كلامه. وهو أيضاً ممن خلط على ما نبيّنه، فاما قول الأخفش ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة غير اعتراضية بل هي منشئة أحكاماً وذلك لا يجوز وفيه تقييد الإِيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم وهم مأمورون بإِيفاء العقود بغير قيد، ويصير التقدير أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم فإِذا لم توجد هذه الحال فلا توفوا بالعقود. واما قول الجمهور فهو مردود من هذا الوجه الأخير إذ يصير المعنى أحلت لكم بهيمة الانعام في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم وهم قد أحلت لهم بهيمة الانعام في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال إذا أريد ببهيمة الانعام أنفسها وإن أريد بها الظباء وبقر الوحش وحمرة. فيكون المعنى وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا، ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. وأما قول من جعله حالاً من الفاعل وقدره وأحل الله لكم بهيمة الانعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم قال كما تقول: أحل لكم كذا غير مبيحة لك يوم الجمعة وهو فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً فلا يجوز وقوع الحال منه. لو قلت: أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ولأنه بتقييد إحلاله تعالى بهيمة الانعام إذا أريد بها ثمانية الا الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها. وأما قول من جعله حالاً من الضمير في عليكم فالذي يتلى لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم بل هو ما يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها. وأما ما نقله القرطبي عن البصريين فإِن كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى فنقول: إنما عرض الإِشكال في الآية من جعلهم غير محلي الصيد حالاً من المأمورين بإِيفاء العقود أو من المحلل لهم أو من المحلّل وهو الله أو من المتلو عليهم وغرهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء وقدروه هم انه اسم فاعل من أحل وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول وأنه جمع حذف منه النون للإِضافة وأصله غير محلين الصيد وأنتم حرم إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف فلا يقدر فيه حذف النون بل حذف التنوين وإنما يزول الاشكال ويتضح المعنى بأن يكون قول: محلي الصيد من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، فكذلك هذا أصله غير الصيد المحل والمحل، صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف ووصف الصيد بأنه محل على وجهين، أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرجل، أي دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم. والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حل أي حلالاً بتحليل الله، وذلك أن الصيد على قسمين حلال وحرام ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ألا ترى إلى قول بعضهم أنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً وقد تجوزت العرب وأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحل ولا حرمة نحو قول الشاعر: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا   ما كذب الليث عن أقرانه صدقاًوعثّر اسم موضع. وقال آخر: وقد ذهبت سلمى بعقلك كله   فهل غير صيد أحرزته حبائلهوقال امرؤ القيس: وهو نضيد قلوب الرجال   وأفلت منها ابن عمر وحجرومجيء أفعل البلوغ على الوجهين المذكورين كثير من لسان العرب فمن مجيىء أفعل البلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرجل وأعرق وأشأم وأيمن وأتهم وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض وأبقلت وأغدّ البعير وألبنت الشاة وغيرها، وأجرت الكلبة وأصرم النخل وأبلت الناقة وأحصد الزرع وأجرب الرجل وانجبت المرأة. وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل أو صار ذا حل اتضح كونه استثناء ثانياً، ولا يكون استثناء من استثناء إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكم لأن المستثنى من المحلل محرم والمستثنى من المحرم محلل. بل إذا كان المعنى بقوله: بهيمة الانعام الانعام أنفسها فيكون استثناء منقطعاً وإن كان المراد الظباء وبقر الوحوش وحمرة ونحوها فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل استثناء الصيد الذي بلغ الحل في حال كونهم محرمين. فإِن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، ففيه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم وإن كان حلالاً لغيره فأجرى أن حرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ﴾[المائدة: ٣]، الآية. استثناء منقطعاً إذ لا تختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقرة ونحوها فتصير لكن ما يتلى عليكم أي تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الانعام الانعام والوحوش فيكون الاستثناء ان راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلي الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول وإذا لم يمكن ذلك وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيداً إلا عمراً إلا بكراً. فإِن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يعكر عليه كونه كتب في رسم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء وكون القراء وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك أيضاً. قلت: لا يعكر على هذا التخريج لأنهم كتبوا كثيراً من رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: كتبهم لا أذبحنه ولا أوضعوا منه بألف بعد لام الألف، وكتبهم بأييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ونقصهم منه ألفاً، وكتبهم الصلحت ونحوه بإِسقاط الفين. وهذا كثير في الرسم وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو بتقطع النفس فوقفوا على الرسم كما وقفوا على سندع من قوله تعالى:﴿ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ ﴾[العلق: ١٨]، من غير واو اتباعاً للرسم على أنه يمكن توجيه كتبه بالياء والوقف عليه بها بأنه جاء ذلك على لغة الازد إذ يقفون على بزيدي بإِبدال التنوين ياء فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة وهذا توجيه شذوذ رسمي ورسم المصحف مما لا يقاس عليه. وقرأ ابن أبي عبلة غير بالرفع وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله: بهيمة الانعام، ولا يلزم من الوصف بغير ان يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية: لأن غير محلي الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً. " انتهى ". ولا يحتاج إلى هذا التكليف على تخريجنا محل الصيد وأنتم حرم، جملة حالية. وحرم: جمع حرام. ويقال: أحرم الرجل أي دخل في الإِحرام بحج أو عمرة أو بهما فهو محرم. وحرام وأحرم الرجل دخل في الحرم. قال الشاعر: فقلت لها فيىء إليك فإنن   حرام وإني بعد ذلك لبيبُأي ملب. ويحتمل الوجهين قوله: وأنتم حرم إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم وعلى من كان كان أحرم بالحج أو العمرة وهو قول الفقهاء، وقال الزمخشري: وأنتم حرم حال من محلي الصيد، كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الانعام في حال امتناعكم عن الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم. " انتهى ". وقد بينا فساد هذا القول بأن الانعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ هذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإِيفاء العقود وتحليل بهيمة الانعام والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في الاضطرار واستثناء الصيد في حالة الإِحرام، وتضمن ذلك حله لغير المحرم. فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾، فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، لا ما تقوله المعتزلة من مراعاة المصالح.


الصفحة التالية
Icon