﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، هذه السورة مكية بلا خلاف وفي الصحيح للحاكم عنه صلى الله عليه والسلم أنه قال: لقد أنزلت علي عشر آيات * ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ ﴾[الحج: ٧٧] الآية، وفيها لعلكم تفلحون، وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله: قد أفلح المؤمنون اخبار بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح وقوله: أو ما ملكت أريد بما النوع كقوله:﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾[النساء: ٣] وهو مختص بالإِناث بإِجماع وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها وخالتها خلاف ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد من الأزواج ومملوكات النساء وانتصابه على أنه مفعول بأبتغى أي خلاف ذلك ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والجمهور على تحريم الاستمناء وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة وقد ذكر عن بعض العرب فعل ذلك وأنشد لهم فيه أبيات ذكر بعض ذلك في النوادر لأبي علي * والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإِنسان والخشوع والمحافظة متغايران بدأ أولاً بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية وثني بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيآتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي الجامعون لهذه الأوصاف.﴿ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ ﴾ الاحقاء أن يسموا وراثاً دون من عداهم ثم ترجم الوارثين بقوله:﴿ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ ﴾ فجاء بفخامة وجزالة لإِرثهم لا تخفى على الناظر وتقدّم الكلام في الفردوس في آخر الكهف.﴿ هُمْ فِيهَا ﴾ يدل على تأنيث الفردوس.﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ ﴾ لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة.﴿ مِّن طِينٍ ﴾ قال ابن عباس: هو آدم لأنه أنسل من الطين.﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ ﴾ عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر.﴿ نُطْفَةً ﴾ هو المني.﴿ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ هي الرحم وتقدم تفسير العلقة والمضغة.﴿ عِظَاماً ﴾ دليل على أن المضغة تصير بنفسها عظاماً وقرىء: عظماً.﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ قال ابن عباس وجماعة: هو نفخ الروح فيه وقيل خروجه إلى الدنيا وتبارك فعل ماض لا يتصرف ومعناه تعالى وتقدّس. و ﴿ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾ أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل أضافتها محضة أم غير محضة أعربه بدلاً والإِشارة بقوله: بعد ذلك إلى هذا التطوير والإِنشاء خلقاً أي وانقضاء مدة حياتكم.﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولاً ثم بالاعدام ثم بالإِيجاد.﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ ﴾ لما ذكر ابتداء خلق الإِنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه وسبع طرائق قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض يقال طارق النعل جعله على نعل وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر.﴿ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي جعلنا مقره في الأرض وعن ابن عباس أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل وفي قوله: فأسكناه دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على ذهابه والباء في به للتعدية أي على إذهابه كان الفعل لازماً فصار بالباء متعدياً كما قال تعالى:﴿ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾[البقرة: ٢٠] أي لأذهب سمعهم ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال:﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ ﴾ وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون كأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ووصف النخل والعنب بقوله: لكم فيها إلى آخره لأن ثمرها جامع بين أمرين أحدهما أنه فاكهة يتفكه بها والآخر أنه طعام يؤكل رطباً ويابساً رطباً وتمراً وعنباً وزبيباً والزيتون فإِن دهنه صالح للاصطباح والاصطباغ جميعاً والضمير في ولكم عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات وعطف وشجرة على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كبيرة بالشام * تخرج من طور سيناء الطور الجبل أضيف إلى سيناء والظاهر أنه علم اسم بقعة امتنع من الصرف للعلمية والتأنيث وقرىء: بفتح السين وكسرها وقرىء:﴿ تَنبُتُ ﴾ بفتح التاء وضم الباء ويكون بالدهن حالاً أي ملتبسة بالدهن وقرىء: تنبت فالباء في بالدهن زائدة أي تنبت الدهن فيكون مفعولاً به.﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ ﴾ تقدّم الكلام عليه في النحل.﴿ وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ ﴾ من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ونبه على أغزر فوائدها وألزمها وهو الشرب والأكل وأدرج باقي المنافع في قوله: ولكم فيها منافع كثيرة ثم ذكر ما يكاد يختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر قال ذو الرمة: سفينة بر تحت خدي زمامها يريد صيدح ناقته الفلكمعطوف على قوله: وعليها أعيد معه حرف الجر.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ الآية لما ذكر أولاً بدأ الإِنسان وتطوره في تل الأطوار وما امتن به عليه مما جعله سبباً لحياتهم وإدراك مقاصدهم ذكر أمثالاً لكفار قريش من الأمم السالفة المنكرة لإِرسال الله تعالى رسلاً المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله وابتدأ بقصة نوح صلى الله عليه وسلم لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولاً آدم في قوله من سلالة من طين ولقصته أيضاً مناسبة بما قبلها إذ قبلها وعلى الفلك تحملون فذكر قصة من صنع الفلك أولاً وأنه كان سبب نجاة من آمن وهلك من لم يكن فيه فالفلك من نعمة الله كل هذه القصص يحذر بها قريشاً نقم الله تعالى ويذكرهم نعمه.﴿ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله:﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[يونس: ٧٨] والإِشارة في بهذا إلى إفراد الله بألوهية وترك الأصنام.﴿ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ معلوم عندهم أنه ليس بمجنون.﴿ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ ﴾ أي انتظروا حاله حين يتجلى أمره وعاقبة خبره فدعا ربه بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه وتقدّم تفسير أكثر الألفاظ التي في هود ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإِغراق وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم فكان الأمر له وحده وان كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك ثم أمره أن يدعوه بأن ينزله منزلاً مباركاً قيل: قال ذلك عند الركوب في السفينة وقيل: عند الخروج منها.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن في ما جرى على هذه أمة نوح لدلائل وعبرا.﴿ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾[القمر: ١٥].
﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾ الآية، ذكر هذه القصة عقيب قصة قوم نوح فظهر أن هؤلاء هم قوم هود وهو قول الأكثرين.﴿ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ ﴾ أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها.﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ ﴾ أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين وكان العطف مشعراً بعلية التكذيب والكفر أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا انعمنا بالإِيمان وتصديق من أرسلته إليهم وأن يكون جملة حالية أي وقد أترفناهم أي كذبوا في هذه الحال ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي كذبوا في حال الإِحسان إليهم وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإِيمان بي والتصديق لرسلي.﴿ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ﴾ تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم وأن لا مزية له عليهم والظاهر أن ما موصولة في قوله مما تشربون وأن العائد محذوف تقديره مما تشربون منه فحذف منه لوجود من الداخلة على الموصول قال الزمخشري: إذن واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم " انتهى " ليس إذن واقعاً في جزاء الشرط بل واقعاً بين انكم والخبر وانكم والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة ولو كانت إنكم والخبر جواباً للشرط لزمت الفاء في انكم بل لو كانت بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ واختلف المعربون في تخريج إنكم الثانية فالمنقول عن سيبويه أن انكم بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد وخبر انكم الأولى محذوفة لدلالة خبر الثانية عليه تقديره انكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا.