﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ الآية هذه السورة مدنية نزلت في غزوة بني المصطلق وكانت من عبد الله بن أبي بن سلول وأتباعه وسبب نزولها مذكور في قصة طويلة من مضمونها: أن اثنين من الصحابة ازدحما على ماء وذلك في غزوة بني المصطلق فشج أحدهما الآخر فدعا المشجوج بالأنصار والشاج بالمهاجرين فقال عبد الله بن أبي ما حكى الله عنه من قوله: ﴿ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ ﴾ وقوله: ﴿ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ ﴾ وعني بالأعز نفسه كلاماً قبيحاً فسمعه زيد بن أرقم فنقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلام رسول الله عبد الله فحلف ما قال شيئاً من ذلك فاتهم زيد فأنزل الله تعالى: ﴿ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ تصديقاً لزيد وتكذيباً لعبد الله ومناسبتها لما قبلها أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة بما كان حاصلاً عن المنافقين واتبعهم ناس من المؤمنين في ذلك وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان وقت مجاعة جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإِيمان وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم: " لا تنفقوا " كانوا هم أصحاب أموال والمهاجرين فقراء قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا لله تعالى.﴿ قَالُواْ نَشْهَدُ ﴾ يجري مجرى اليمين ولذلك تلقى بما تلقى به القسم وكذا فعل اليقين والعلم يجري مجرى القسم بقوله: إنك لرسول الله، وأصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق وذاك بالاعتقاد فأكذبهم الله تعالى وفضحهم بقوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾.
أي لم تواطىء قلوبهم ألسنتهم على تصديقك واعتقادهم أنك غير رسول الله فهم كاذبون عند الله وعند من خبر ما لهم أو كاذبون عند أنفسهم إذ كانوا يعتقدون أن قولهم إنك لرسول الله كذب وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُْ ﴾ إيذاناً أن الأمر كما نطقوا به من كونه رسول الله حقاً. ولو لم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب فوسطت الجملة بينهما ليزول ذلك التوهم.﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ ﴾ سمي شهاداتهم تلك إيماناً ولما ذكر أنهم كاذبون أتبعه بموجب كذبهم وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم.﴿ فَصَدُّواْ ﴾ أي أعرضوا وصدوا اليهود المشركين عن الدخول في الإِسلام.﴿ ذَلِكَ ﴾ أي الحلف الكاذب والصدّ المقتضيان لهم سوء العمل بسبب إيمانهم ثم كفرهم.﴿ فَطُبِعَ ﴾ أي ختم على قلوبهم ومعنى آمنوا نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون ثم كفروا أي ظهر كفرهم بما نطقوا به بعد﴿ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ﴾ الخطاب للرسول أو للسامع أي لحسنها ونضارتها وجمالها وهم رؤساء المنافقين.﴿ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ وذلك لفصاحة ألسنتهم وجهارة أصواتهم فكان منظرهم يروق ومنطقهم يخلب. شبهوا بالخشب لعزوب افهامهم وفراغ قلوبهم من الإِيمان والجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور ويدل عليه يحسبون كل صيحة عليهم وعليهم في موضع المفعول الثاني ليحسبون أي واقعة عليهم وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب.﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ﴾ لما صدّق الله زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن سلول مقت الناس ابن سلول ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم أمض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكاراً لهذا الرأي وقال لهم لقد أشرتم علي بالإِيمان فآمنت وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد ويستغفر مجزوم على جواب الأمر ورسول الله يطلبه عاملان أحدهما يستغفر والآخر تعالوا فاعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله ولىّ رؤوسهم على سبيل الاستهزاء واستغفار الرسول لهم هو استتابتهم من النفاق فيستغفر لهم إذ كان استغفاره متسبباً عن استتابتهم فيتوبون.﴿ يَصُدُّونَ وَهُم ﴾ عن المجيء ويصدون جملة حالية وهم مستكبرون جملة حالية أيضاً ولما سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون البتة سوى بين استغفاره لهم وعدمه.﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ﴾ لما سمع عبد الله ولد عبد الله بن أبي وكان رجلاً صالحاً هذه الآية جاء إلى أبيه فقال: يا أبت أنت والله الذليل ورسول الله العزيز فلما دنا إلى المدينة جرد السيف عليه ومنعه الدخول حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيما قال له وراءك والله له تدخلها حتى تقول رسول الله الأعز وأنا الأذل فلم يزل حبيساً في يده حتى أذن له الرسول عليه السلام بتخليته وفي هذا الحديث أنه قال له لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك قال: أفاعل أنت قال: نعم. فقال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.﴿ لاَ تُلْهِكُمْ ﴾ لا تشغلكم.﴿ أَمْوَالُكُمْ ﴾ بالسعي في نمائها.﴿ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ ﴾ بالسرور بهم والنظر في مصالحهم في حياتكم وبعد مماتكم.﴿ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾ هو عام في الصلاة والثناء على الله بالتسبيح والتحميد وغير ذلك.﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد.﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ حيث آثروا العاجل على الآجل والفاني على الباقي.﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ المراد الزكاة وقيل عام في كل مفروض ومندوب.﴿ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ ﴾ أي هلا أخرت موتي إلى زمان قليل.﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ هو منصوب على جواب الرغبة وقرأ الجمهور.﴿ وَأَكُن ﴾ مجزوماً قال الزمخشري: عطفاً على محل فاصدّق كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع لأن التقدير ان تؤخرني أصدق وأكن هذا مذهب أبو علي الفارسي وأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا وهو أنه جزم أكن على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ولا موضع هنا لأن الشرط ليس بظاهر وإنما يعطف على الموضع حيث يظهر الشرط كقوله تعالى:﴿ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾[الأعراف: ١٨٦] ويذرهم فمن قرأ بالجرم عطف على موضع فلا هادي له لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً " انتهى ". والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثرة والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود.﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ ﴾ فيه تحريض على المبادرة بأعمال الطاعات حذراً أن يجيء الأجل وقد فرط ولم يستعد للقاء الله تعالى وقرأ الجمهور: تعلمون بتاء الخطاب للناس كلهم وأبو بكر بالياء خص الكفار بالوعيد ويحتمل العموم.


الصفحة التالية
Icon