﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ هذه السورة مكية وسبب نزولها" أنه عليه السلام لما جاءه الملك وهو في غار حراء بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني "فعلى هذا نزلت يا أيها المزمل قالت عائشة رضي الله عنها: نودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملاً بكساء ومناسبتها لآخر ما قبلها أن في آخر تلك عالم الغيب الآيات فاتبعه بقوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴾ إعلاماً بأنه عليه السلام ممن ارتضاه من الرسل وخصه بخصائص وكفاه شر أعدائه. قال الزمخشري:﴿ نِّصْفَهُ ﴾ بدل من الليل. و ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ إستثناء من نصف كأنه قال: قم أقل من نصف الليل والضمير في منه وعليه عائد على النصف والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه " انتهى ". فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول لأنه على تقديره قم أقل من نصف الليل كان قوله: أو انقص من نصف الليل تكراراً وإذا كان نصفه بدلاً من قوله: إلا قليلا فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو الليل لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول إذ التقدير إلا قليلا نصف الليل وهذا لا يصح له معنى البتة وإن عاد الضمير على الليل فلا فائدة في الاستثناء من الليل إذ كان يكون أحضر وأوضح وأبعد من الإِلتباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه وقد أبطلنا قول من قال إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه وأن التقدير قم الليل نصفه إلا قليلا منه أي من النصف وأيضاً ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليلا والضمير في نصفه عائد على الليل إطلاق القليل على النصف ويلزم أيضاً أن يصير التقدير إلا نصفه فلا تتمه أو أنقص من النصف الذي لا تقومه أو زاد على النصف الذي لا تقومه وهذا معنى لا يصح وليس المراد من الآية قطعاً. وقال الزمخشري: وإن شئت جعلت نصفه بدلاً من قليلاً فكان تخييراً بين ثلاث بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل فإِن شئت قلت لما كان معنى قم الليل إلا قليلاً نصفه إذا أبدلت النصف من الليل ثم أقل من نصف الليل رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل أو قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلاً فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني: بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قيل أو أنقص منه قليلاً نصفه وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل أو زد عليه قليلاً نصفه ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع " انتهى ". وما أوسع خيال هذا الرجل فإِنه يجوز ما يقرب وما يبعد والقرآن لا ينبغي بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلاً من الليل أو من قليلاً الزمخشري كما ذكرنا وابن عطية أورده مورد الاحتمال وأبو البقاء قال أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً من قليلاً لأنه قال أو أنقص منه قليلاً أو زاد عليه والهاء فيها للنصف فلو كان الاستثناء من النصف لكان التقدير قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص منه قليلاً فالقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يتحصل " إنتهى ". وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل ولم يذكر غيره وقال ابن عطية: وقد يحتمل عندي قوله إلا قليلاً أن يكون استثناء من القيام فيجعل الليل إسم جنس ثم قال إلا قليلا أي الليالي التي تحل بقيامها عند العذر البين ونحوه وهذا النظر يحسن مع القول بالندب " انتهى ". وهذا خلاف الظاهر وقيل المعنى أو نصفه كما تقول أعطه درهماً درهمين ثلاثة تريد أو درهمين أو ثلاثة " انتهى ". وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه وقال التبريزي: الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قال: قم ثلثي الليل إلا قليلا ثم جعل نصفه بدلاً من قليلاً فصار القليل مفسراً بالنصف من الثلثين وهو القليل من الكل فقوله أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين إلا قليلاً أي ما دون نصفه أو زد عليه أي على الثلثين فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعاً على الثلثين وقال أبو عبد الله الرازي قد أكثر الناس في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان وذكر كلاماً طويلاً ملفقاً يوقف عليه في كتابه والذي يظهر أن المأمور به أولاً قيام جميع الليل إلا ما ينطلق عليه قليل كساعة أو غيرها ثم قوله: نصفه على إضمار قم ثانياً وجاء بعد ذلك التخيير بين قليل من النصف أو زائد على النصف فالمستثنى أولاً غير أحد المخير فيه وهو النقص من النصف فقد اختلفت جهتا القليل الأول بالنسبة إلى جميع الليل والثاني بالنسبة إلى النصف.﴿ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ هو القرآن وثقله بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة.﴿ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ ﴾ ساعاته لأنها تنشأ شيئاً بعد شىء وقال ابن عباس: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة وما كان قبلها فليس بناشئة وقرىء:﴿ وَطْأً ﴾ والمعنى أنها أشد مواطأة أي يواطىء القلب فيها اللسان.﴿ وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ أي أشد استقامة على الصواب لأن الأصوات هادئة فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه.﴿ سَبْحَاً ﴾ أي تصرفا وتقلبا في المهمات كما يتردّد السابح في:﴿ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ ﴾ أي دم على ذكره وهو يتناول كل ذكر من تسبيح وتهليل وغيرهما وانتصب.﴿ تَبْتِيلاً ﴾ على أنه مصدر على غير الصدر وحسن ذلك كونه فاصلة وقرىء رب بالرفع خبر مبتدأ محذوف وبالجر على البدل.﴿ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾ لأن من انفرد بالإِلٰهية لم يتخذ وكيلاً إلا هو واصبر واهجرهم قيل منسوخ بآية السيف.﴿ وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين.﴿ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ ﴾ أي حضارة العيش وكثرة المال والولد والنعمة بالفتح التنعم وبالكسر الإِنعام وما ينعم به وبالضم المبرة يقال: نعم ونعمة عين.﴿ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ وعيد لهم بسرعة الانتقام منهم والقليل موافاة آجالهم وقيل وقعة بدر.﴿ إِنَّ لَدَيْنَآ ﴾ أي ما يضاد نعمتهم.﴿ أَنكَالاً ﴾ قيوداً في أرجلهم.﴿ وَجَحِيماً ﴾ ناراً شديد الاتقاد.﴿ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ ﴾ قال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل.﴿ تَرْجُفُ ﴾ تضطرب.﴿ كَثِيباً ﴾ أي رملاً مجتمعاً.﴿ مَّهِيلاً ﴾ أي رخواً ليناً ولما هدد المكذبين بأهوال يوم القيامة ذكرهم بحال فرعون وكيف أخذه الله تعالى إذ كذب موسى عليه السلام وإنه إن دام تكذيبهم أهلكهم الله تعالى فقال:﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ ﴾ والخطاب عام للأسود والأحمر وقيل لأهل مكة.﴿ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ كما قال تعالى:﴿ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ ﴾[النحل: ٨٩] والوبيل الرديء العقبى من قولهم كلأ وبيل أي وخم لا يستمر الثقلة أي لا ينزل في المريء.﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ ﴾ الآية يوماً منصوب بتتقون نصب المفعول به على المجاز أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا والضمير في يجعل لليوم أسند إليه الجعل لما كان واقعاً فيه على سبيل المجاز والجملة من قوله يجعل صفة ليوم والشيب مفعول ثان ليجعل أي يصير الصبيان شيوخاً وهو كناية عن شدّة هول ذلك اليوم ويقال في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم إذا تفاقمت أسرعت بالشيب والظاهر أن الضمير في وعده عائد على اليوم فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل وإن لم يجر له ذكر قريباً لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو الله تعالى.﴿ إِنَّ هَـٰذِهِ ﴾ السورة أو الانكال وما عطف عليه أي والأخذ الوبيل أو آيات القرآن المتضمنة شدّة يوم القيامة.﴿ تَذْكِرَةٌ ﴾ أي موعظة.﴿ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ ﴾ بالتقريب إليه بالطاعة.﴿ أَنَّكَ تَقُومُ ﴾ أي تصلي وهذه الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمرار استعماله في أمر قيام الليل إما على الوجوب وإما على الندب على الخلاف الذي سيق.﴿ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ ﴾ أي زماناً هو أقل من ثلثي الليل واستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة إذا دنت بين الشيئين قل ما بينهما من الإِحياز وإذا بعدت كثر ذلك وقرىء نصفه بالنصب والجر فأما قراءة الكسر فمعطوف على ثلثي الليل ومن قرأ بالنصف فمعطوف على أدنى فأما الجر فالمعنى أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين ومرة أدنى من النصف ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقادير الزمان وتقدير الزمان حقيقة هو لله تعالى.﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي رجع بكم من الثقل إلى الخفة وأمركم بقيام ما تيسر وطائفة معطوف على الضمير المستكن في يقوم وحسنه الفصل بينهما وطائفة من الذين معك دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع إذ لو كان فرضاً عليهم لكان التركيب والذين معك إلا ان اعتقد أن منهم من كان يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فتمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع.﴿ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ﴾ أي هو وحده العالم بمقادير الساعات.﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ ﴾ عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل وإذا كان المراد فاقرؤوا في الصلاة ما تيسر فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ بل إذا قرأ ما تيسر له وسهل عليه أجزأه وقدره أبو حنيفة بآية.﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ ﴾ بيان لحكمة النسخ وهو تعذر القيام على المرض والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله.﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ كرر ذلك على سبيل التوكيد ثم أمر بعمودي الإِسلام البدني والمالي ثم قال:﴿ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ ﴾ العطف يشعر بالتغاير فقوله: وآتوا الزكاة أمر بأداء الواجب وأقرضوا أمر بالصدقات التي يتطوع بها واحتمل هو أن يكون فصلاً وأن يكون توكيد الضمير النصب في تجدده.﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ﴾ أمر بالاستغفار.