بِهِ مِنْ بَيْتِ زُهَيْرٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِمَّا أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْأَلْغَازِ وَالتَّمْلِيحِ وَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ.
النَّوْعُ الثَّانِي يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ الرَّاجِعَةَ إِلَى أَنَّ هَاتِهِ الْحُرُوفَ وُضِعَتْ بِتِلْكَ الْهَيْئَاتِ أَسْمَاءً أَوْ أَفْعَالًا وَفِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ أَرْبَعَةٌ.
التَّاسِعُ فِي عِدَادِ الْأَقْوَالِ فِي أَوَّلِهَا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ
أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَنُسِبَ لِسِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» بَابِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ مِنْ أَبْوَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ أَوْ لِلْخَلِيلِ وَنَسَبَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِلْأَكْثَرِ وَيُعَضِّدُهُ وُقُوعُ هَاتِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَتَكُونُ هَاتِهِ الْحُرُوفُ قَدْ جُعِلَتْ أَسْمَاءً بِالْعَلَامَةِ عَلَى تِلْكَ السُّوَرِ، وَسُمِّيَتْ بِهَا كَمَا نَقُولُ الْكُرَّاسَةَ ب وَالرِّزْمَةَ ج وَنَظَّرَهُ الْقُفَّالُ بِمَا سَمَّتِ الْعَرَبُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ كَمَا سَمَّوْا لَامَ الطَّائِيَّ وَالِدِ حَارِثَةَ، وَسَمَّوُا الذَّهَبَ عَيْنٌ، وَالسَّحَابَ غَيْنٌ، وَالْحُوتَ نُونْ، والجبل قَاف، وأقوال، وَحَاءُ قَبِيلَةٌ مِنْ مَذْحِجٍ، وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى الْعَنْسِيُّ أَوِ الْعَبْسِيُّ:

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ (١)
يُرِيدُ حم عسق [الشورى: ١، ٢] الَّتِي فِيهَا: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَيَبْعُدُ هَذَا الْقَوْلُ بُعْدًا مَا إِنِ الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمُسَمَّى وَقَدْ وَجَدْنَا هَذِهِ الْحُرُوفَ مَقْرُوءَةً مَعَ السُّوَرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّهُ اتِّحَادُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِثْلَ الم والر وحم. وَأَنَّهُ لَمْ تُوضَعْ أَسْمَاءُ السُّوَرِ الْأُخْرَى فِي أَوَائِلِهَا.
الْقَوْلُ الْعَاشِرُ وَقَالَ جَمَاعَةٌ إِنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلْقُرْآنِ اصْطُلِحَ عَلَيْهَا قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَيُبْطِلُهُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ بَعْضِهَا مَا لَا يُنَاسِبُهَا لَوْ كَانَتْ أَسْمَاءً لِلْقُرْآنِ، نَحْوَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: ١، ٢]، والم أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: ١، ٢].
الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ كُلَّ حُرُوفٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْهَا هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَا كهيعص يَا حم عسق وَسَكَتَ عَنِ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ فَيَرْجِعُ بِهَا إِلَى مَا يُنَاسِبُهَا أَنْ تَنْدَرِجَ تَحْتَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَيُبْطِلَهُ عَدَمُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ لِأَنْ يَكُونَُُ
_________
(١) الضَّمِير فِي يذكرنِي رَاجع لمُحَمد بن طَلْحَة السَّجَّاد بن عبيد الله الْقرشِي من بني مرّة بن كَعْب، وَأَرَادَ بحم سُورَة الشورى لِأَن فِيهَا: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى:
٢٣] فَكَانَت دَالَّة على قرَابَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش الَّذين مِنْهُم مُحَمَّد السَّجَّاد.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّهْرِ هُنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ حُكْمًا عَامًّا وَيَشْمَلُ كُلَّ شَهْرٍ خَاصٍّ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَلَى فَرْضِ كَوْنِ الْمَقْصُودِ شَهْرَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ شَهْرَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ.
وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ مُتَتَابِعَةٌ هِيَ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَحُرْمَتُهَا لِوُقُوعِ الْحَجِّ فِيهَا ذَهَابًا وَرُجُوعًا وَأَدَاءً، وَشَهْرٌ وَاحِدٌ مُفْرَدٌ وَهُوَ رَجَبٌ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَهْرُ الْعُمْرَةِ وَقَدْ حَرَّمَتْهُ مُضَرٌ كُلُّهَا وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: رَجَبُ مُضَرٍ، وَقَدْ أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التَّوْبَة: ٣٦].
وَقَوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ تَعْمِيم للْحكم وَلذَلِك عطفه ليَكُون كالحجة لما قبله من قَوْله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: ١٩١] وَقَوله:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ إِلَخ، فالجملة تذييل وَالْوَاو اعتراضية. وَمَعْنَى كَوْنِهَا قِصَاصًا أَيْ مُمَاثِلَةً فِي الْمُجَازَاةِ وَالِانْتِصَافِ، فَمَنِ انْتَهَكَهَا بِجِنَايَةٍ يُعَاقَبُ فِيهَا جَزَاءَ جِنَايَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحُرْمَةَ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِقَصْدِ الْأَمْنِ فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى غَدْرِ الْأَمْنِ أَوِ الْإِضْرَارِ بِهِ فَعَلَى الْآخَرِ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّاسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُرْمَةِ الْأَزْمِنَةِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ حُرْمَةَ الْمَكَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: ١٩١]، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْحُرُمَاتِ بِلَفْظِ (قِصَاصٍ) إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فَذْلَكَةٌ، وَسُمِّيَ جَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً مُشَاكَلَةً عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: ١٩٣].
وَقَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ يَشْمَلُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَفِي الْأَحْوَالِ كَكَوْنِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ أَمْرٌ بِالِاتِّقَاءِ فِي الِاعْتِدَاءِ أَيْ بِأَلَّا يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُنْتَقِمِ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَضَبٍ فَهُوَ مَظِنَّةُ الْإِفْرَاطِ.
وَقَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِكَلِمَةِ اعْلَمْ إِيذَانٌ بِالِاهْتِمَامِ بِمَا
سَيَقُولُهُ، فَإِنَّ قَوْلَكَ فِي الْخِطَابِ: اعْلَمْ إِنْبَاءٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَا سَيُلْقَى لِلْمُخَاطَبِ وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ
فَانْعَدَمَ اكْتِرَاثُهُمْ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمُ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ جَرَّأَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا الْإِعْرَاضِ. وَهَذَا الِاعْتِقَادُ مَعَ بُطْلَانِهِ مُؤْذِنٌ أَيْضًا بِسَفَالَةِ هِمَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ، فَكَانُوا لَا يُنَافِسُونَ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ. وَعَبَّرَ عَنِ الِاعْتِقَادِ بِالْقَوْلِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وأنّه قَول مُفْتَرًى مُدَلَّسٌ، وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ عَقِيدَةُ الْيَهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ مَا تَقَوَّلُوهُ عَلَى الدِّينِ وَأَدْخَلُوهُ فِيهِ، فَلذَلِك أُتِي بفي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ قَوْلُهُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: ٨٠]، وَكَانُوا أَيْضًا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ يَعْقُوبَ أَلَّا يُعَذِّبَ أَبْنَاءَهُ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَفَاسِدِ هَذَا الْغُرُورِ وَالِافْتِرَاءِ بِإِيقَاعِهَا فِي الضَّلَالِ الدَّائِمِ، لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَنْ غُرُورٍ فَالْإِقْلَاعُ عَنْهَا مَرْجُوٌّ، أَمَّا الْمَغْرُورُ فَلَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ إِقْلَاعٌ. وَقَدِ ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِغُرُورٍ كَثِيرٍ فِي تَفَارِيعِ دِينِهِمْ وَافْتِرَاءَاتٍ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ عَادَتْ عَلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ بِالْإِبْطَالِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجَالِ.
وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ أَيْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ غُرُورًا فَكَيْفَ حَالُهُمْ أَوْ جَزَاؤُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ وَوَفَّيْنَاهُمْ جَزَاءَهُمْ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّفْظِيعِ مَجَازًا.
«وَكَيف» هُنَا خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَى نَوْعِهِ السِّيَاقُ، وإِذا ظَرْفٌ مُنْتَصِبٌ بِالَّذِي عَمِلَ فِي مَظْرُوفِهِ: وَهُوَ مَا فِي كَيْفَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّفْظِيعِيِّ كَقَوْلِكَ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ، وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فِي سُورَة النِّسَاء [٤١].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤- سُورَةُ النِّسَاءِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ سُورَةَ النِّسَاءِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ». وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: «لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى» يَعْنِي سُورَةَ الطَّلَاقِ- أَنَّهَا شَارَكَتْ هَذِهِ السُّورَةَ فِي التَّسْمِيَةِ بِسُورَة النِّسَاء، وأنّ هَذِه السُّورَة تميّز عَن سُورَة الطَّلَاق باسم سُورَة النّساء الطُّولَى، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ صَرِيحًا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ «بَصَائِرِ ذَوي التَّمْيِيز» للفيروزآبادي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ النِّسَاءِ الْكُبْرَى، وَاسْمُ سُورَةِ الطَّلَاقِ سُورَةُ النِّسَاءِ الصُّغْرَى. وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ (١).
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِإِضَافَةٍ إِلَى النِّسَاءِ أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِأَحْكَامِ صِلَةِ الرَّحِمِ، ثُمَّ بِأَحْكَامٍ تَخُصُّ النِّسَاءَ، وَأَنَّ فِيهَا أَحْكَامًا كَثِيرَةً مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ: الْأَزْوَاجُ، وَالْبَنَاتُ، وَخُتِمَتْ بِأَحْكَامٍ تَخُصُّ النِّسَاءَ.
وَكَانَ ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ، لِمَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ، لِثَمَانِ أَشْهُرٍ خَلَتْ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا مُتَأَخِّرًا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: نَزَلَتْ بَعْدَ آلِ عِمْرَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي خِلَالِ سَنَةِ ثَلَاثٍ أَيْ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ الْأَنْفَالِ ثُمَّ
آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ سُورَةُ الْأَحْزَابِ، ثُمَّ الْمُمْتَحَنَةِ، ثُمَّ النِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَكُونُ سُورَةُ النِّسَاءِ نَازِلَةً بَعْدَ وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي هِيَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ أَوَّلِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي هُوَ فِي سَنَةِ سِتٍّ حَيْثُ تَضَمَّنَتْ سُورَةُ
_________
(١) صفحة ١٦٩ جُزْء ١ مطابع شركَة الإعلانات الشرقية بِالْقَاهِرَةِ سنة ١٣٨٤.
وَجُمْلَةُ «وَهُوَ مُحْسِنٌ» حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا اتِّصَافُهُ بِالْإِحْسَانِ حِينَ إِسْلَامِهِ وَجْهَهُ لِلَّهِ، أَيْ خَلَعَ الشِّرْكَ قَاصِدًا الْإِحْسَانَ، أَيْ رَاغِبًا فِي الْإِسْلَامِ لِمَا رَأَى فِيهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِحْسَانِ.
وَمَعْنَى وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَنَّهُ اتَّبَعَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ عَلَى أُسُسِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ بِهَا يَكْمُلُ مَعْنَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّهَا هِيَ: الْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَالْإِسْلَامُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ مُحْسِنٌ مُخْلِصٌ رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَنَى بِهِ التَّوْحِيدَ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ حَنِيفاً مَعْنَاهُ مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ أَوْ مُتَعَبِّدًا. وَإِذَا جَعَلْتَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ عَامِلٌ الصَّالِحَاتِ كَانَ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا عَطَفَ ثَنَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَدْحِ مَنِ اتَّبَعَ دِينَهُ زِيَادَةَ تَنْوِيهٍ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَالْخَلِيلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ صَاحِبِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخِلَالِ، وَهُوَ النَّوَاحِي الْمُتَخَلِّلَةُ لِلْمَكَانِ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النُّور: ٤٣] فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً [الْكَهْف: ٣٣]. هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي اشْتِقَاقِ الْخَلِيلِ. وَيُقَالُ: خِلٌّ وَخُلٌّ- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا- وَمُؤَنَّثُهُ: خُلَّةٌ- بِضَمِّ الْخَاءِ-، وَلَا يُقَالُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ-، قَالَ كَعْبٌ:
أَكْرِمْ بِهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ وَجَمْعُهَا خَلَائِلُ. وَتُطْلَقُ الْخُلَّةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ- عَلَى الصُّحْبَةِ الْخَالِصَةِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٥٤]، وَجَمْعُهَا خِلَالٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إِبْرَاهِيم: ٣١]. وَمَعْنَى اتِّخَاذِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا شدّة رضى اللَّهِ عَنْهُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْخُلَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ فَأُرِيدَ لوازمها وَهِي الرضى، وَاسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَذِكْرُهُ بِخَيْرٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِلَخْ تَذْيِيلٌ جُعِلَ كَالِاحْتِرَاسِ، عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيلِ لَازِمُ مَعْنَى الْخُلَّةِ، وَلَيْسَتْ هِيَ كَخُلَّةِ النَّاسِ مُقْتَضِيَةً الْمُسَاوَاةَ أَوِ التَّفْضِيلَ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْكِنَايَةُ عَنْ عُبُودِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي جُمْلَةِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَالْمُحِيط: الْعَلِيم.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْجِنْسَ وَتَكُونَ الصِّلَةُ إِيمَاءً إِلَى تَعْلِيلِ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ فَتَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَكْفُرُ. وَقَدِ اقْتَضَى هَذَا قَضِيَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: كَوْنُ الَّذِي يَتْرُكُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ التَّوْرَاةُ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى مُوسَى كَافِرًا، أَوْ تَارِكُ الْحُكْمِ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى الرُّسُلِ كَافِرًا وَالثَّانِيَةُ: قَصْرُ وَصْفِ الْكُفْرِ عَلَى تَارِكِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
فَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْأُولَى: فَالَّذِينَ يُكَفِّرُونَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يَأْخُذُونَ بِظَاهِرِ هَذَا. لِأَنَّ الْجَوْرَ فِي الْحُكْمِ كَبِيرَةٌ وَالْكَبِيرَةُ كُفْرٌ عِنْدَهُمْ. وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِكُفْرِ نِعْمَةٍ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَهِيَ عِنْدَهُمْ قَضِيَّةٌ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَقَعُ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَبَيَانُ إِجْمَالِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ الْقَاضِيَةِ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ بِالذُّنُوبِ، وَمَسَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ إِجْمَالَهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِمَنْ لَمْ يَحْكُمْ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَرَوَاهُ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ». فَعَلَى هَذَا تَكُونُ (مَنْ) مَوْصُولَةً، وَهِيَ بِمَعْنَى لَامِ الْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَمَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَرْكًا
مِثْلَ هَذَا التَّرْكِ، هُوَ تَرْكُ الْحُكْمِ الْمَشُوبُ بِالطَّعْنِ فِي صَلَاحِيَّتِهِ. وَقَدْ عُرِفَ الْيَهُودُ بِكَثْرَةِ مُخَالَفَةِ حُكَّامِهِمْ لِأَحْكَامِ كِتَابِهِمْ بِنَاءً عَلَى تَغْيِيرِهِمْ إِيَّاهَا بِاعْتِقَادِ عَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا لِأَحْوَالِهِمْ كَمَا فَعَلُوا فِي حَدِّ الزِّنَى فَيَكُونُ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي كَانَتْ هَذِهِ ذَيْلًا لَهَا فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ لِتَعْرِيفِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَلَيْسَ مُعَلِّلًا لِلْخَبَرِ. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ لِمُشَابَهَتِهِ بِالشَّرْطِ فِي لُزُومِ خَبَرِهِ لَهُ، أَيْ أَنَّ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُمُ الَّذِينَ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ الْكَافِرِينَ فَهُمْ هُمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَسَاءُوا الصُّنْعَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ مِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِهِ جَحْدًا لَهُ، أَوِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، أَوْ طَعْنًا فِي حَقِّيَّتِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِهِ حُكْمَ اللَّهِ بِتَوَاتُرٍ أَوْ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، سَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ
الْمَيِّتِ
مِنَ الْحَيِّ فِي سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. وَيُسَمِّي تِلْكَ الْحجَج آيَات كَقَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الْأَنْعَام: ٩٨]، وَكَمَا سَيَجِيءُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [٢] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها. وَذَكَرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَفْصِيلَ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرَّعْد: ٥]. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِاسْتِقْلَالِهِ بِالْخَلْقِ، كَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الْأَنْعَام: ١٠١- ١٠٥] إِلَخْ، وَكَقَوْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِأَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حُجَّةً عَلَى صِدْقِهِ فِي إِخْبَارِهِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَتَفَاصِيلِ الْمَوَاعِظِ وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَشَرْعِ الْأَحْكَامِ مَعَ كَوْنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَعْلُومَ الْأُمِّيَّةِ بَيْنَهُمْ قَدْ قَضَى شَبَابَهُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، جَعَلَهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَمَّاهُ آيَاتٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا [الْحَج: ٧٢] فَلَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ مَا يُنَاسِبُهَا.
أَمَّا الْجَهَلَةُ وَالضَّالُّونَ فَهُمْ يَرُومُونَ آيَاتٍ مِنْ عَجَائِبِ التَّصَارِيفِ الْخَارِقَةِ لِنِظَامِ الْعَالَمِ، يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ عَلَامَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ اقتراحهم بِأَن يحييهم إِلَيْهَا إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ صَدَقَ الرَّسُولُ فِيمَا بَلَّغَ عَنْهُ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَاطَرَةِ لِيَزْعُمُوا أَنَّ عَدَمُ إِجَابَتِهِمْ لِمَا اقْتَرَحُوهُ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُصَدِّقِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ. وَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِالنُّزُولِ مَعَهُمْ إِلَى هَذَا الْمَجَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ مَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَمَدْلُولِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٧] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ فَهُمْ جَعَلُوا إِيمَانَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ تَنْزِيلَ آيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً. فَقَدْ قَالُوا:
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] وَقَالُوا:
وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فَهُوَ أَيْضًا عِبْرَةً وَعِظَةً، لِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْقُوَّةِ
وَالرِّفْعَةِ، وَلِجَعْلِ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالسَّعْيِ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لِمَنْ قَصَّرَ عَنْهَا وَالرِّفْقِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ.
وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ لِيُخْبِرَكُمْ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ دَرَجَاتِ النِّعَمِ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَيْفَ يَضَعُ أَهْلَ النِّعْمَةِ أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدَّرَجَاتِ. وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِتَفَاوُتِ النِّعَمِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِتَقْرِيبِهِ.
وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَكْوِينِ الرِّفْعَةِ فِي أَرْبَابِهَا تَشْبِيهًا لِلتَّكْوِينِ بِإِعْطَاءِ الْمُعْطِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ.
وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: ١٥٥]. وَالْمُرَادُ بِهِ ظُهُورُ مَوَازِينِ الْعُقُولِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ بمواهب الله فِيهَا وَمَا يَسَّرَهُ لَهَا مِنَ الْمُلَائَمَاتِ وَالْمُسَاعَدَاتِ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَرَاتِبَ النّاس، وَلَكِن سمّى ذَلِكَ بَلْوَى لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ، أَيْ لِيَعْلَمَهُ اللَّهُ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْلَمُهُ عِلْمَ الْمُقَدَّرَاتِ، فَهَذَا مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَمَلُ وَالِامْتِثَالُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ صِفَةِ سَرِيعُ الْعِقابِ وَصفَة لَغَفُورٌ لِيُنَاسِبَ جَمِيعَ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ.
لَتُوُهِّمَ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لَهُ، وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُهُمْ، عَلَى الَّذِي هُوَ وَصْفُ رَبِّهِمْ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِالْفِعْلِ.
وَلَمَّا قَدَّمَ إِنْذَارَهُمْ بِغَضَبِ اللَّهِ عَادَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُجَادِلُوا فِي شَأْنِ أَصْنَامِهِمْ. وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُحَاجَّةُ.
وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ، أَيْ هِيَ مُجَرَّدُ أَسْمَاءٍ لَيْسَتْ لَهَا الْحَقَائِقُ الَّتِي اعْتَقَدُوهَا وَوَضَعُوا لَهَا الْأَسْمَاءَ لِأَجْلِ اسْتِحْضَارِهَا، فَبِذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْمَوْضُوعَةُ مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ، لِانْتِفَاءِ الْحَقَائِقِ الَّتِي وَضَعُوا الْأَسْمَاءَ لِأَجْلِهَا. فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ تُوضَعُ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ التَّسْمِيَةِ، وَهُمْ إِنَّمَا وَضَعُوا لَهَا الْأَسْمَاءَ وَاهْتَمُّوا بِهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْإِلَهِيَّةِ جُزْءًا مِنَ الْمُسَمَّى الْمَوْضُوعِ لَهُ الِاسْمُ، وَهُوَ الدَّاعِي إِلَى التَّسْمِيَةِ، فَمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مُلَاحَظَةٌ لِمَنْ وَضَعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةُ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مُنْتَفِيَةً كَانَتِ الْأَسْمَاءُ لَا مُسَمَّيَاتٍ لَهَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهَا لَهُ ذَوَاتٌ وَأَجْسَامٌ كَالتَّمَاثِيلِ وَالْأَنْصَابِ، وَمَا لَمْ تَكُنْ لَهُ ذَاتٌ، فَلَعَلَّ بَعْضَ آلِهَةِ عَادٍ كَانَ مُجَرَّدَ اسْمٍ يَذْكُرُونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَلَا يَجْعَلُونَ لَهُ تِمْثَالًا وَلَا نُصُبًا، مِثْلُ مَا كَانَتِ الْعُزَّى عِنْدَ الْعَرَبِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا بَيْتًا وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهَا نُصُبًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: ٢٣].
وَذَكَرَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ أَنَّ عَادًا اتَّخَذُوا أَصْنَامًا ثَلَاثَةً وَهِيَ (صَمُودٌ) - بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بِوَزْنِ زَبُورٍ. وَصُدَاءُ- بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مَضْبُوطًا بِخَطِّ الْهَمَذَانِيِّ مُحْشِي «الْكَشَّافِ» فِي نُسْخَةٍ مِنْ حَاشِيَتِهِ الْمُسَمَّاةِ «تَوْضِيحَ الْمُشْكِلَاتِ» وَمَنْسُوخَةٌ بِخَطِّهِ، وَبِدَالٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ضَبْطِ الدَّالِ بِالتَّشْدِيدِ أَوْ بِالتَّخْفِيفِ:
وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْأَصَمُّ، وَابْنُ الْمُنِيرِ، وَالْجُبَّائِيُّ.
وَوُصِفَتِ النَّفْسُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِدْمَاجِ بَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، لِأَنَّ كَوْنَهَا وَاحِدَةً أَدْعَى لِلِاعْتِبَارِ إِذْ يَنْسَلُّ مِنَ الْوَاحِدَةِ أَبْنَاءٌ كَثِيرُونَ حَتَّى رُبَّمَا صَارَتِ النَّفْسُ الْوَاحِدَةُ قَبِيلَةً أَوْ أُمَّةً، فَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَذْكِيرٌ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ حَيْثُ بَثَّهُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ فِي الْكَلَامِ اسْتِخْدَامًا فِي ضَمِيرَيِ تَغَشَّاها وَمَا بَعْدَهُ إِلَى قَوْلِهِ:
فِيما آتاهُما وَبِهَذَا يَجْمَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بَيْنَ كِلَا الرَّأْيَيْنِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الْأُنْثَى بِفِعْلِ جَعَلَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جَعْلُ الْأُنْثَى زَوْجًا لِلذَّكَرِ، لَا الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ خَلَقَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ مِنْها لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ: مِنْ نَوْعِهَا، وَقَوْلُهُ: مِنْها صِفَةٌ لِ زَوْجَها قُدِّمَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ لِلِاهْتِمَامِ بِالِامْتِنَانِ بِأَنْ جَعَلَ الزَّوْجَ وَهُوَ الْأُنْثَى مِنْ نَوْعِ ذَكَرِهَا وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ مُطَّرِدَةٌ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَسْكُنَ إِلَيْها تَعْلِيلٌ لِمَا أَفَادَتْهُ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ.
وَالسُّكُونُ مَجَازٌ فِي الِاطْمِئْنَانِ وَالتَّأَنُّسِ أَيْ: جَعَلَ مِنْ نَوْعِ الرَّجُلِ زَوْجَهُ لِيَأْلَفَهَا وَلَا يَجْفُوَ قُرْبَهَا، فَفِي ذَلِكَ مِنَّةُ الْإِينَاسِ بِهَا، وَكَثْرَةُ مُمَارَسَتِهَا لِيَنْسَاقَ إِلَى غِشْيَانِهَا، فَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ التَّنَاسُلَ حَاصِلًا بِغَيْرٍ دَاعِي الشَّهْوَةِ لَكَانَتْ نَفْسُ الرَّجُلِ غَيْرَ حَرِيصَةٍ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ نَسْلِهِ، وَلَوْ جَعَلَهُ حَاصِلًا بِحَالَةِ أَلَمٍ لَكَانَتْ نَفْسُ الرَّجُلِ مُقِلَّةً مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ إِلَّا لِلِاضْطِرَارِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّرَدُّدِ، كَمَا يَنْصَرِفُ إِلَى شُرْبِ الدَّوَاءِ وَنَحْوِهِ الْمُعَقِّبَةِ مَنَافِعَ، وَفَرَّعَ عَنْهُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ مَا يَحْدُثُ عَنْ بَعْضِ سُكُونِ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجِهِ وَهُوَ الْغِشْيَانُ.
وَصِيغَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى التَّكَلُّفِ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّكَلُّفَ يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ.
وَ (حَتَّى) غَايَةٌ لِفِعْلِ أَذِنْتَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْفِيِّ فَالْمَعْنَى: لَا مُقْتَضِيَ لِلْإِذْنِ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ.
وَفِي زِيَادَةِ لَكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَتَبَيَّنَ زِيَادَةُ مُلَاطَفَةٍ بِأَنَّ الْعِتَابَ مَا كَانَ إِلَّا عَنْ تَفْرِيطٍ فِي شَيْءٍ يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ صَدَقُوا: الصَّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، وَبِالْكَافِرِينَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ صدقُوا الْمُؤْمِنُونَ.
[٤٤]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٤]
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ [التَّوْبَة: ٤٣]. وَمَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣] أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا تُثِيرُهُ جُمْلَةُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ [التَّوْبَة: ٤٣] وَالِاعْتِبَارَاتُ مُتَقَارِبَةٌ وَمَآلُهَا وَاحِدٌ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتُنْفِرُوا أَنْ لَا يَسْتَأْذِنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّخَلُّفِ
عَنِ الْجِهَادِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْأَعْذَارِ: كَالْعُمْيِ، فَهُمْ لَا يَسْتَنْفِرُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَخَلَّفُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ تَخَلَّفُوا وَلَمْ يَسْتَأْذِنُوا فِي التَّخَلُّفِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى نِيَّةِ اللِّحَاقِ بِالْجَيْشِ بَعْدَ خُرُوجِهِ.
وَالِاسْتِئْذَانُ: طَلَبُ الْإِذْنِ، أَيْ فِي إِبَاحَةِ عَمَلٍ وَتَرْكِ ضِدِّهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِبَاحَةِ أَنْ تَقْتَضِيَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ.
وَالِاسْتِئْذَانُ يُعَدَّى بِ (فِي). فَقَوْلُهُ: أَنْ يُجاهِدُوا فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِ (فِي) الْمَحْذُوفَةِ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ أَنْ مُطَّرِدٌ شَائِعٌ.
وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِئْذَانُ يَسْتَلْزِمُ شَيْئَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، كَمَا قُلْنَا، جَازَ أَنْ يُقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ فِي كَذَا وَاسْتَأْذَنْتُ فِي تَرْكِ كَذَا. وَإِنَّمَا يُذْكَرُ غَالِبًا مَعَ فِعْلِ الِاسْتِئْذَانِ الْأَمْرُ الَّذِي يَرْغَبُ الْمُسْتَأْذِنُ الْإِذْنَ فِيهِ دُونَ ضِدِّهِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ كِلَيْهِمَا صَحِيحًا.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يُونُس: ٥٧]. وَفِيهِ قَطْعٌ لِعُذْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالتَّمَرُّدِ بِأَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِالْكُفْرِ دُونَ الشُّكْرِ وَجَعَلُوا رِزْقَهُمْ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ فِي حِينِ قَابَلَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْفَرَحِ وَالشُّكْرِ فَانْتَفَعُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
[٦١]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ [يُونُس: ٦٠] عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، لِأَنَّ فَصْلَ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ بِالتَّذْيِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ نُقِلَ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالثَّوَابِ لِلرَّسُولِ عَلَى مَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ أَمْرِ الله وتدبير شؤون الْمُسْلِمِينَ وَتَأْيِيدِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَبِالثَّوَابِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِمُ الرَّسُولَ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَجَاءَ هَذَا الْوَعْدُ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِحُصُولِ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ عَمَلَهُمْ وَعَمَلَ النَّبِيءِ مَا كَانَ إِلَّا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَلِيلِ أَعْمَالِهِ وَتَسْلِيَةً عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَكْذِيبٍ وَأَذًى، لِأَنَّ اطِّلَاعَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَعِلْمَهُ بِأَنَّهُ فِي مَرْضَاتِهِ كَافٍ فِي التَّسْلِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨]، وَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ ابْتِدَاءً إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَا الْأُولَى وَمَا الثَّانِيَةُ نَافِيَتَانِ.
«الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ
النُّبُوءَةِ»

. وَقَدْ بَيَّنَ تَحْدِيدُ هَذِهِ النِّسْبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَدِيثِ فِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوءَةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ وَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ يَرَاهَا أَوْ تُرَى لَهُ».
وَإِنَّمَا شُرِطَتِ الْمُرَائِي الصَّادِقَةُ بِالنَّاسِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ الِارْتِيَاضَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شَاغِلٌ لِلنَّفْسِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ارْتِقَاءَاتٌ وَكَمَالَاتٌ فَهِيَ مُعِينَةٌ لِجَوْهَرِ النَّفْسِ عَلَى الِاتِّصَالِ بِعَالَمِهَا الَّذِي خُلِقَتْ فِيهِ وَأُنْزِلَتْ مِنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ تُبْعِدُهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَتُبَلِّدُهَا وَتُذَبْذِبُهَا.
وَالرُّؤْيَا مَرَاتِبُ:
مِنْهَا أَنْ: تَرَى صُوَرَ أَفْعَالٍ تَتَحَقَّقُ أَمْثَالُهَا فِي الْوُجُودِ مثل رُؤْيا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَظَنُّهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ الْيَمَامَةُ فَظَهَرَ أَنَّهَا الْمَدِينَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَدِينَةَ وَجَدَهَا مُطَابِقَةً لِلصُّورَةِ الَّتِي رَآهَا، وَمِثْلَ رُؤْيَاهُ امْرَأَةً فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقيل لَهُ اكشفها فَهِيَ زَوْجُكَ فَكَشَفَ فَإِذَا هِيَ عَائِشَةُ، فَعَلِمَ أَنْ سَيَتَزَوَّجَهَا. وَهَذَا النَّوْعُ نَادِرٌ وَحَالَةُ الْكَشْفِ فِيهِ قَوِيَّةٌ.
وَمِنْهَا أَن ترى صور تَكُونُ رُمُوزًا لِلْحَقَائِقِ الَّتِي سَتَحْصُلُ أَوِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْوَاقِعِ، وَتِلْكَ مِنْ قَبِيلِ مُكَاشَفَةِ النَّفْسِ لِلْمَعَانِي وَالْمَوَاهِي وَتَشْكِيلِ الْمُخَيِّلَةِ تِلْكَ الْحَقَائِقَ فِي أَشْكَالٍ مَحْسُوسَةٍ هِيَ مِنْ مَظَاهِرَ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ الَّذِي تَخْتَرِعُهُ أَلْبَابُ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْتَرِعُهُ الْأَلْبَابُ فِي حَالَةِ هَدُوِّ الدِّمَاغِ مِنَ الشَّوَاغِلِ الشَّاغِلَةِ، فَيَكُونُ أَتْقَنَ وَأَصْدَقَ. وَهَذَا أَكْثَرُ أَنْوَاعِ الْمَرَائِي. وَمِنْه رُؤْيا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَشْرَبُ مِنْ قدح لبن حَتَّى رَأَى الرِّيَّ فِي أَظْفَارِهِ ثُمَّ أَعْطَى فَضْلَهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَتَعْبِيرُهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ.
وَالصَّدِيدُ: الْمُهْلَةُ، أَيْ مِثْلُ الْمَاءِ يَسِيلُ مِنَ الدُّمَّلِ وَنَحْوِهِ، وَجَعَلَ الصَّدِيدَ مَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ فِي الْإِسْقَاءِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَاءِ أَنْ يُسْقَى. وَالْمَعْنَى: وَيُسْقَى صَدِيدًا عِوَضَ الْمَاءِ إِنْ طَلَبَ الْإِسْقَاءَ، وَلذَلِك جعل صَدِيدٍ عَطْفَ بَيَانٍ لِ ماءٍ. وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ يُسْقى عَلَى جُمْلَةِ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ لِأَنَّ السَّقْيَ مِنَ الصَّدِيدِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ.
وَالتَّجَرُّعُ: تَكَلُّفُ الْجَرْعِ، وَالْجَرْعِ بَلْعُ الْمَاءِ.
وَمَعْنَى يُسِيغُهُ يَفْعَلُ سَوْغَهُ فِي حَلْقِهِ. وَالسَّوْغُ انْحِدَارُ الشَّرَابِ فِي الْحَلْقِ بِدُونِ غُصَّةٍ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرَابُ غَيْرَ كَرِيهِ الطَّعْمِ وَلَا الرِّيحِ، يُقَالُ سَاغَ الشَّرَابُ، وَشَرَابٌ سَائِغٌ. وَمَعْنَى لَا يَكادُ يُسِيغُهُ لَا يُقَارِبُ أَنْ يُسِيغَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسِيغَهُ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١].
وَإِتْيَانُ الْمَوْتِ: حُلُولُهُ، أَيْ حُلُولُ آلَامِهِ وَسَكَرَاتِهِ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَةٌ لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، أَيْ فَيَسْتَرِيحُ.
وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ، أَيْ يَنْتَظِرُهُ عَذَابٌ آخَرُ بَعْدَ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.
وَالْغَلِيظُ: حَقِيقَتُهُ الْخَشِنُ الْجِسْمِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ بِجَامِعِ الْوَفْرَةِ فِي كُلٍّ، أَيْ عَذَابٌ لَيْسَ بِأَخَفِّ مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي سُورَة هود [٥٨].

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٠]

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
انْتِقَالٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِدَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْخَلْقِ التَّصَرُّفَ الْغَالِبَ لَهُمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ، عَلَى انْفِرَادِهِ بِرُبُوبِيَّتِهِمْ، وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ.
كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُهَا بِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ فَهُوَ خَلَقَهُمْ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاهُمْ كَرْهًا عَلَيْهِمْ أَوْ يَرُدُّهُمْ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُونَهَا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدًّا لِذَلِكَ وَلَا خَلَاصًا مِنْهُ، وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ بِأَوْضَحِ مَظْهَرٍ.
وَابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [سُورَة النَّحْل: ٦٥]. وَأَمَّا إِعَادَةُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا دُونَ الْإِضْمَارِ فَلِأَنَّ مَقَامَ الِاسْتِدْلَالِ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ اسْمِ الْمُسْتَدَلِّ- بِفَتْحِ الدَّالِ- عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ تَصْرِيحًا
وَاضِحًا.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلِيًّا لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي الْإِثْبَاتِ، نَحْوَ:
أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً.
فَهَذِهِ عِبْرَةٌ وَهِيَ أَيْضًا مِنَّةٌ، لِأَنَّ الْخَلْقَ وَهُوَ الْإِيجَادُ نِعْمَةٌ لِشَرَفِ الْوُجُودِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَفِي التَّوَفِّي أَيْضًا نِعَمٌ عَلَى الْمُتَوَفِّي لِأَنَّ بِهِ تَنْدَفِعُ آلَامُ الْهَرَمِ، وَنِعَمٌ عَلَى نَوْعِهِ إِذْ بِهِ يَنْتَظِمُ حَالُ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْبَاقِينَ بَعْدَ ذَهَابِ مَنْ قَبْلَهُمْ، هَذَا كُلُّهُ بِحَسَبِ الْغَالِبِ فَرْدًا وَنَوْعًا، وَاللَّهُ يَخُصُّ بِنِعْمَتِهِ وَبِمِقْدَارِهَا مَنْ يَشَاءُ.
وَلَمَّا قوبل «ثمَّ توفّاكم» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ فِي إِبَّانِ الْوَفَاةِ، وَهُوَ السِّنُّ الْمُعْتَادَةُ الْغَالِبَةُ لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ نَادِرٌ.
وَالْأَرْذَلُ: تَفْضِيلٌ فِي الرَّذَالَةِ، وَهِيَ الرَّدَاءَةُ فِي صِفَاتِ الِاسْتِيَاءِ.
تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَصِيغَةِ الْحَصْرِ الْمُقْتَضِيَةِ قَصْرَ نَفْسِهِ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ لَسْتُ رَبًّا مُتَصَرِّفًا أَخْلُقُ مَا يُطْلَبُ مِنِّي، فَكَيْفَ آتِي بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَكَيْفَ أَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ يُخْلَقْ فِيهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ قَالَ بِأَلْفٍ بَعْدَ الْقَافِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي- عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لجواب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً عَلَى طَريقَة الِالْتِفَات.
[٩٤، ٩٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٥]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
بَعْدَ أَنْ عُدَّتْ أَشْكَالُ عِنَادِهِمْ وَمَظَاهِرُ تَكْذِيبِهِمْ أُعْقِبَتْ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الْجُحُودِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهِيَ تَوَهُّمُهُمُ اسْتِحَالَةَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ لِلنَّاسِ بِرِسَالَةٍ بَشَرًا مِثْلَهُمْ. فَذَلِكَ التَّوَهُّمُ هُوَ مَثَارُ مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ، فَالَّذِينَ هَذَا أَصْلُ مُعْتَقَدِهِمْ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، وَمَا قَصْدُهُمْ مِنْ مُخْتَلَفِ الْمُقْتَرَحَاتِ إِلَّا إِرْضَاءُ أَوْهَامِهِمْ بِالتَّنَصُّلِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، فَلَوْ أَتَاهُمُ الرَّسُولُ بِمَا سَأَلُوهُ لَانْتَقَلُوا فَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ، أَوْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَمَعَ مَا فِي هَذَا مِنْ بَيَانِ أَصْلِ كُفْرِهِمْ هُوَ أَيْضًا رَدٌّ بِالْخُصُوصِ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: ٩٣] إِلَى آخِرِهِ.
وَالْأَمْرُ هُنَا: الشَّأْنُ، وَإِضَافَةُ (أَمْرِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِإِفَادَةِ مَزِيدِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ وَهُوَ أَمْرُ الرِّسَالَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.
وَالتَّيْسِيرُ: جَعْلُ الشَّيْءِ يَسِيرًا، أَيْ ذَا يُسْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [١٨٥].
ثُمَّ سَأَلَ سَلَامَةَ آلَةِ التَّبْلِيغِ وَهُوَ اللِّسَانُ بِأَنْ يَرْزُقَهُ فَصَاحَةَ التَّعْبِيرِ وَالْمَقْدِرَةَ عَلَى أَدَاءِ مُرَادِهِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةً، فَشَبَّهَ حُبْسَةَ اللِّسَانِ بِالْعُقْدَةِ فِي الْحَبْلِ أَوِ الْخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ سُرْعَةَ اسْتِعْمَالِهِ.
وَالْعُقْدَةُ: مَوْضِعُ رَبْطِ بَعْضِ الْخَيْطِ أَوِ الْحَبْلِ بِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ، وَهِيَ بِزِنَةِ فُعْلَةٍ بِمَعْنى مفعول كقضة وَغَرْفَةٍ أُطْلِقَتْ عَلَى عُسْرِ النُّطْقِ بِالْكَلَامِ أَوْ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِ اللِّسَانِ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا حُبْسَةٌ.
يُقَالُ: عَقِدَ اللِّسَانُ كَفَرِحَ، فَهُوَ أَعْقَدُ إِذَا كَانَ لَا يُبِينُ الْكَلَامَ. وَاسْتَعَارَ لِإِزَالَتِهَا فِعْلَ الْحِلِّ الْمُنَاسِبِ الْعُقْدَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ.
وَزِيَادَةُ لِي بَعْدَ اشْرَحْ وَبَعْدَ يَسِّرْ إِطْنَابٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لِأَنَّ الْكَلَامَ مُفِيدٌ بِدُونِهِ. وَلَكِنْ سُلِكَ الْإِطْنَابُ لِمَا تُفِيدُهُ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ، أَيِ اشْرَحْ صَدْرِي لِأَجْلِي وَيَسِّرْ أَمْرِي لِأَجْلِي، وَهِيَ اللَّامُ الْمُلَقَّبَةُ لَامَ التَّبْيِينِ الَّتِي تُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْبَيَانِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ صَدْرِي وأَمْرِي وَاضِحٌ أَنَّ الشَّرْحَ وَالتَّيْسِيرَ مُتَعَلِّقَانِ بِهِ فَكَانَ قَوْله لِي فيهمَا زِيَادَةَ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] وَهُوَ هُنَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ هَذَا الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فَلِيَحْصُلَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ فَيُفِيدُ مَفَادَ التَّأْكِيدِ مِنْ أَجْلِ تَكَرُّرِ الْإِسْنَادِ.
مُتَّبِعِيهِ وَيَرْقُبُونَ مَا يَنْتَابُهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَصَابَهُمُ الْخَيْرُ عَقِبَ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ دِينَهُمُ الْقَدِيمَ لَيْسَ بِحَقٍّ وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِأَنَّهَا لَوْ قَدَرَتْ لَانْتَقَمَتْ مِنْهُمْ عَلَى نَبْذِ عِبَادَتِهَا وَظَنُّوا أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ شَرٌّ مِنْ شُرُورِ الدُّنْيَا الْعَارِضَةِ فِي الْحَيَاةِ الْمُسَبَّبَةِ عَنْ أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ سَخِطُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَانْخَلَعُوا عَنْهُ. وَتَوَهَّمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ أَصَابَتْهُمْ بِسُوءٍ غَضَبًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ عِبَادَتَهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عَادٍ إِذْ قَالُوا لِرَسُولِهِمْ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٤].
فَالْعِبَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ مُرَادٌ بِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ [الْحَج: ١٢].
وَالظَّاهِر أَن هَذِه الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنَتَجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتِجْ خَيْلُهُ قَالَ:
هَذَا دِينُ سُوءٍ.
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُبْطِنِينَ الْكُفْرَ فَلَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ. وَمِمَّنْ يَصْلُحُ مِثَالًا لِهَذَا الْفَرِيقِ الْعُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى يَصِحُّوَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ وَفَرُّوا، فَأَلْحَقَ بِهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَبَ فِي أَثَرِهِمْ حَتَّى لَحِقُوا بِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا.
الذِّمَّةِ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَامْنَعْ مِنْ ذَلِكَ وَحِلْ دُونَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَرَى الذِّمِّيَّةُ عُرْيَةَ الْمُسْلِمَةِ».
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ كَالْمُسْلِمَةِ وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ فِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ كَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا تَرَى مِنَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَقِيلَ: هِيَ كَالْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ.
وَأَمَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ فَهُوَ رخصَة لِأَن فِي سَتْرَ الْمَرْأَةِ زِينَتَهَا عَنْهُمْ مَشَقَّةٌ عَلَيْهَا.
لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِمْ عَلَيْهَا. وَلِأَنَّ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لَهَا وَازِعٌ لَهُ وَلَهَا عَنْ حُدُوثِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَهُمَا، وَالْإِسْلَامُ وَازِعٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَصِفَ الْمَرْأَةَ لِلرِّجَالِ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ فَهُمْ صِنْفٌ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ تَشْتَرِكُ أَفْرَادُهُ فِي الْوَصْفَيْنِ وَهْمَا التَّبَعِيَّةُ وَعَدَمُ الْإِرْبَةِ.
فَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ فَهِيَ كَوْنُهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ بَيْتِ الْمَرْأَةِ وَلَيْسُوا مِلْكَ يَمِينِهَا وَلَكِنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى بَيْتِهَا لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ أَوْ لِلْخِدْمَةِ.
وَالْإِرْبَةُ: الْحَاجَةُ. وَالْمُرَادُ بِهَا الْحَاجَةُ إِلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ. وَانْتِفَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ تَظْهَرُ فِي الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَرَخَّصَ اللَّهُ فِي إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِنَظَرِ هَؤُلَاءِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنِ النِّسَاءِ مَعَ السَّلَامَةِ الْغَالِبَةِ مَنْ تَطَرُّقِ الشَّهْوَةِ وَآثَارِهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْخَصِيِّ غَيْرِ التَّابِعِ هَلْ يُلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ عَنِ السَّلَفِ.
وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْفَرَسِ: أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ دُخُولِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الشَّرْطَانِ التَّبَعِيَّةُ وَعَدَمُ الْإِرْبَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.
وَمَعْنَى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أَيْ كَانَ إِقْبَالُهُمْ على الْقُرْآن وَالْعِبَادَة أَكْثَرَ مِنْ إِقْبَالِهِمْ عَلَى الشِّعْرِ. وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَهُمْ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الشُّعَرَاءِ وَقَالُوا الشِّعْرَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْتِصَارِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَقَدْ قَالُوا شِعْرًا كَثِيرًا فِي ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الْأَنْصَارِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدُ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلُ لَبِيَدٍ، وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَسُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ بِمُقْتَضِي كَوْنَ بَعْضِ السُّورَةِ مَدَنِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ السُّورَةِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلشِّعْرِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَحَالَةٌ مَأْذُونَةٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذَمَّهُ لَيْسَ لِكَوْنِهِ شِعْرًا وَلَكِنْ لِمَا حَفَّ بِهِ مِنْ مَعَانٍ وَأَحْوَالٍ اقْتَضَتِ الْمَذَمَّةَ، فَانْفَتَحَ بِالْآيَةِ لِلشِّعْرِ بَابُ قَبُولٍ وَمَدْحٍ فَحَقٌّ عَلَى أَهْلِ النَّظَرِ ضَبْطُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ قَبُولِهِ أَوْ إِلَى جَانِبِ مَدْحِهِ، وَالَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ رَفْضِهِ. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى الْحَالَةِ الْمَمْدُوحَةِ قَوْلُهُ:
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، وَإِلَى الْحَالَةِ الْمَأْذُونَةِ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وَكَيْفَ وَقَدْ أَثْنَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ الشِّعْرِ مِمَّا فِيهِ مَحَامِدُ الْخِصَالِ واستنصت أَصْحَابه
لشعر كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ مِمَّا فِيهِ دِقَّةُ صِفَاتِ الرَّوَاحِلِ الْفَارِهَةِ، عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِحَسَّانَ فِي مُهَاجَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «كَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ..» وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ». وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ فِي سُورَةِ يس [٦٩]. وَأَجَازَ عَلَيْهِ كَمَا أَجَازَ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ فَخَلَعَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ، فَتِلْكَ حَالَةٌ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ جَاءَ مُؤْمِنًا.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ، أَوْ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ قَالَتْهَا الْعَرَبُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ»

وَكَانَ يَسْتَنْشِدُ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَقَالَ: «كَادَ أُمَيَّةُ أَنْ يسلم»، وَأمر حسّانا بِهِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ». وَقَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «لَكَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ».
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: ٥٥]. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ شَيْبَانَ التَّمِيمِيُّ:
وَنُقَاتِلُ الْأَعْدَاءَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَعَلَى بَصَائِرِنَا وَإِنْ لَمْ نُبْصِرْ
وَالْأَوْفَقُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمِلَانِ مُرَادَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) هُوَ قَصْرُ الْجِهَادِ عَلَى الْكَوْنِ لِنَفْسِ الْمُجَاهِدِ، أَيِ الصَّالِحِ نَفْسِهِ إِذِ الْعِلَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ بَلْ بِأَحْوَالِهَا، أَيْ جِهَادٍ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ لَا لِنَفْعٍ يَنْجَرُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ بِأَدَاةٍ (إِنَّمَا) قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ- حِينَ يُجَاهِدُونَ الْجِهَادَ بِمَعْنَيَيْهِ- مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُنْجَرَّةِ إِلَى أَنْفُسِ الْمُجَاهِدِينَ وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الرَّدُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقَصْرِ بِتَعْلِيلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ من الْجِهَاد نَافِعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ نَفْعَهُ لِلْأُمَّةِ.
فَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّأْكِيدِ هُنَا هُوَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» وَتَقَدَّمَ غير مرّة.
[٧]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٧]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: ٤] لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا مَا هُوَ وَعْدٌ وَبِشَارَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَعَ مَا أَفْضَى إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْوَعْدِ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: ٦] فَإِنَّ مَضْمُونَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الْآيَةَ يُفِيدُ بَيَانَ كَوْنِ جِهَادِ مَنْ جَاهَدَ لِنَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: ٦ وَسُلِكَ بِهَا طَرِيقُ الْعَطْفِ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ مِنْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْجَزَاءِ الْحَسَنِ

[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ٤]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
لَمَّا كَانَ الرَّكْنُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَرْكَانِ هُدَى الْكِتَابِ هُوَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلْإِلَهِ وَإِبْطَالُ الشِّرْكِ عَقِبَ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ بِإِثْبَاتِ هَذَا الرُّكْنِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً لِإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ بِالِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ قَطْعًا لِدَابِرِ عَقِيدَةِ الشَّرِيكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ جُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَأَنَّهُ الِانْفِرَادُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْمَعْنِيُّونَ بِالْخَبَرِ، وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
وَالْوَلِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَاءِ، بِمَعْنَى: الْعَهْدِ وَالْحَلِفِ وَالْقَرَابَةِ. وَمِنْ لَوَازِمِ حَقِيقَةِ الْوَلَاءِ النَّصْرُ وَالدِّفَاعُ عَنِ الْمَوْلَى. وَأُرِيدَ بِالْوَلِيِّ: الْمُشَارِكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.
وَالشَّفِيعُ: الْوَسِيطُ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ. وَالْمُشْرِكُونَ زَعَمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ ثُمَّ قَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣].
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ دُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضمير لَكُمْ، و (دون) بِمَعْنَى غَيْرُ، ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَلِيٍّ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: لَا وَلِيَّ لَكُمْ وَلَا شَفِيعَ لَكُمْ غَيْرُ اللَّهِ فَلَا وِلَايَةَ لِلْأَصْنَامِ وَلَا شَفَاعَةَ لَهَا إِبْطَالًا لِمَا زَعَمُوهُ لِأَصْنَامِهِمْ مِنَ الْوَصْفَيْنِ إِبْطَالًا رَاجِعًا إِلَى إِبْطَالِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥].
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
كَأَنَّ سَائِلًا اسْتَعْظَمَ هَذَا الْعَذَابَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِاعْتِبَارِ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: هَلْ جُزُوا بِغَيْرِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ.
وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ يُجْزَوْنَ لِأَنَّ (جَزَى) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى، كَمَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ بِالْبَاء عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى: عَوَّضَهُ.
وَجُعِلَ جَزَاؤُهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مِثْلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُعَادَلَةِ فِيمَا يُجَاوِزُونَهُ بِمُسَاوَاةِ الْجَزَاءِ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي جُوزُوا عَلَيْهَا حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦].
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ مُمَاثِلًا فِي الْمِقْدَارِ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مُقَدِّرُ الْحَقَائِقِ وَالنِّيَّاتِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ وِفاقاً فِي النَّوْعِ فَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَغْلَالِ فِي الْأَعْنَاقِ مَنْعٌ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي أنفسهم فَنَاسَبَ نَوعه أَن يكون جَزَاء على مَا عبّدوا بِهِ أَنْفُسِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥] وَمَا تَقَبَّلُوهُ مِنِ اسْتِعْبَادِ زُعَمَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ إِيَّاهُمْ قَالَ تَعَالَى:
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَاب: ٦٧].
وَمِنْ غُرَرِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ عَرَفَةَ لَمَّا كَانَ عَرَضَ عَلَيْهِ فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٧١] فَسَأَلَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: هَلْ يَسْتَقِيمُ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُؤَيِّدُ فِعْلَ الْأُمَرَاءِ أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمُحَارِبِينَ وَنَحْوِهِمْ مَغْلُولِينَ مِنْ أَعْنَاقِهِمْ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فِي حَدِّ الْفَاحِشَةِ) فَأَجَابَهُ الشَّيْخُ بِأَنْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا لِأَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا أَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا بُدَّ لِجَوَازِهِ من دَلِيل.
[٣٤]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٣٤]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤)
اعْتِرَاضٌ لِلِانْتِقَالِ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا مُنِيَ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
وَكَذَلِكَ قَامَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قامُوا فَقالُوا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٤].
وَقِيلَ: إِنَّ الِانْطِلَاقَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ وَانْصَرَفَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ عَنْ مَجْلِسِ أَبِي طَالِبٍ. والْمَلَأُ: سَادَةُ الْقَوْمِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَائِلُ ذَلِكَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ مِنَ الْقَائِلِينَ أَبَا جَهْلٍ، وَالْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ.
وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّ الِانْطِلَاقَ إِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ فِي الشُّرُوعِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الشُّرُوعُ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرٍ بِكَلَامٍ مَقُولٍ، وَإِنْ كَانَ الِانْطِلَاقُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَقَدْ تَضَمَّنَ انْطِلَاقَهُمْ عَقِبَ التَّقَاوُلِ بَيْنَهُمْ بِكَلَامِهِمُ الْبَاطِلِ هَذَا ساحِرٌ [ص: ٤] إِلَى قَوْله: عُجابٌ [ص: ٥] يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْطَلَقُوا مُتَحَاوِرِينَ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ. وَلَمَّا أُسْنِدَ الِانْطِلَاقُ إِلَى الْمَلَأِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا لِيَنْطَلِقُوا إِلَّا لِتَدْبِيرٍ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا تَحَاوُرًا وَتُقَاوُلًا احْتِيجَ إِلَى تَفْسِيره بِجُمْلَةِ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِلَخْ. وَالْأَمْرُ بِالْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، أَيِ انْصَرِفُوا عَنْ هَذَا الْمَكَانِ مَكَانِ الْمُجَادَلَةِ، وَاشْتَغِلُوا بِالثَّبَاتِ عَلَى آلِهَتِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي
الِاسْتِمْرَارِ عَلَى دِينِهِمْ كَمَا يُقَالُ: كَمَا سَارَ الْكِرَامُ، أَيِ اعْمَلْ كَمَا عَمِلُوا، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ الْمُعْتَادَةُ سِيرَةً.
وَالصَّبْرُ: الثَّبَاتُ وَالْمُلَازَمَةُ، يُقَالُ: صَبَرَ الدَّابَّةَ إِذَا رَبَطَهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ الثَّبَاتُ عِنْدَ حُلُولِ الضُّرِّ صَبْرًا لِأَنَّهُ مُلَازَمَةٌ لِلْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ بِحَيْثُ لَا يَضْطَرِبُ بِالْجَزَعِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: ٤٢]..
وَحَرْفُ عَلى يَدُلُّ عَلَى تَضْمِينِ اصْبِرُوا مَعْنَى: اعْكُفُوا وَاثْبُتُوا، فَحَرْفُ عَلى هُنَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة:
٥]. وَلَيْسَ هُوَ حَرْفَ عَلى الْمُتَعَارَفَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الصَّبْرِ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: ١٠] فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى (مَعَ)، وَلِذَلِكَ يَخْلُفُهُ اللَّامُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِعِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الْقَلَم: ٤٨]، وَلَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى عِبَادَةِ
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَسُولًا وَهُمْ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَيُوسُفُ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى وَهَارُونُ وَعِيسَى وَيُونُسُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاثْنَا عَشَرَ نَبِيئًا وَهُمْ: دَاوُدُ وَسليمَان وَأَيوب وزكرياء وَيَحْيَى وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ وَإِدْرِيسُ وَآدَمُ وَذُو الْكِفْلِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَلُقْمَانُ وَنَبِيئَةٌ وَهِيَ مَرْيَمُ. وَوَرَدَ بِالْإِجْمَالِ دُونَ تَسْمِيَةٍ صَاحِبُ مُوسَى الْمُسَمَّى فِي السّنة خضراء وَنَبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ صَمْوِيلُ وَتُبَّعٌ.
وَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ مُطَالَبِينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ بِصَرِيحِ وَصْفِ النُّبُوءَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَتِهِمْ لِمَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرُوا فِيهَا وَعِدَّتُهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ رَسُولٍ وَنَبِيءٍ، وَقَدِ اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَى قَوْله: وَلُوطاً [الْأَنْعَام: ٨٣- ٨٦] عَلَى أَسْمَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ وَذُكِرَ أَسْمَاءُ سَبْعَةٍ آخَرِينَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَقَدْ جَمَعَهَا مَنْ قَالَ:
حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ بِأَنْبِيَاءَ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا
فِي تِلْكَ حُجَّتُنَا مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وَهُم
إِدْرِيسُ هُودٌ شُعَيْبٌ صَالِحٌ وَكَذَا ذُو الْكِفْلِ آدَمُ بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَوْنِ يُوسُفَ رَسُولًا تَرَدُّدًا بَيَّنْتُهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣٤]، وَأَن فِي نبوءة الْخِضْرِ وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ تَرَدُّدًا. واخترت إِثْبَات نبوءتهم لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَقَدِ اشْتُهِرَتْ فِي النُّبُوءَةِ، وَفِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَلَّمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَلَا يَجِبُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِوُقُوعِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوءَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ.
وَلَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَةِ رِسَالَةِ مُعَيَّنٍ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَنْ بَلَغَ الْعِلْمُ بِنُبُوءَتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغَ الْيَقِينِ لِتَوَاتُرِهِ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ.
وَلَكِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى ذِكْرِ نُبُوءَةِ نَبِيءٍ بِوَصْفِهِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن صَرِيحًا وَجب (١) عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمَا عَلِمَهُ.
_________
(١) فِي المطبوعة (وَجِيء).
مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ قَرِينٌ لِلِاهْتِمَامِ بضمير مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أَيْ قَرِينٌ لَهُ مُقَارَنَةً تَامَّةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ يَعْقُوب بياء الْغَائِبِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ على الرَّحْمنِ.
[٣٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٧]
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: ٣٦] أَيْ مُقَارَنَةَ صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ.
وَضَمِيرَا إِنَّهُمْ وَ (يَصُدُّونَ) عَائِدَانِ إِلَى شَيْطاناً [الزخرف: ٣٦] لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابَ شَرْطٍ اكْتَسَبَ الْعُمُومَ تَبَعًا لِعُمُومِ مَنْ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ مِثْلُ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ عَلَى خلاف بَين أيمة أُصُولِ الْفِقْهِ فِي عُمُومِ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهُ لَا يَجْرِي هُنَا لِأَنَّ عُمُومَ شَيْطاناً تَابِعٌ لِعُمُومِ مَنْ إِذْ أَجْزَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ تَجْرِي عَلَى حُكْمِ أَجْزَاءِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَقَرِينَةُ عُمُومِ النَّكِرَةِ هُنَا لَا تَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ لَا لِمُطْلَقِ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي (يَصُدُّونَهُمْ) عَائِدٌ إِلَى مَنْ لِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ عَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْشُو عَن ذكر الرحمان نُقَيِّضْ لَهُمْ شَيَاطِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْطَانٌ.
وَضَمِيرَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ (يَصُدُّونَهُمْ)، أَيْ وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ عَنِ السَّبِيلِ أَنْفُسَهُمْ مُهْتَدِينَ.
وَقَدْ تَتَشَابَهُ الضَّمَائِرُ فَتَرُدُّ الْقَرِينَةُ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، وَيَجُوزُ إِبْقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ وَعْدٌ لِكُلِّ مَنْ يَكُونُ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ ذِكْرُ (مِنْ) تَحْذِيرًا وَهُوَ لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ لِجَمِيعِهِمْ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَصْحَاب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ خِيرَةُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَعْنَى: أَلَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَنَّ كُفَّارَكُمْ لَا يَنَالُهُمُ الْعِقَابُ الَّذِي نَالَ أَمْثَالَهُمْ من الْأُمَم السالفة.
وفِي الزُّبُرِ صِفَةُ بَراءَةٌ، أَيْ كَائِنَةٌ فِي الزُّبُرِ، أَيْ مَكْتُوبَةٌ فِي صَحَائِفِ الْكُتُبِ.
وَأفَاد هَذَا الْكَلَام تَرْدِيدَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْاِتِّصَافُ بِالْخَيْرِ الْإِلَهِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣]، وَإِمَّا الْمُسَامَحَةُ وَالْعَفْوُ عَمَّا يَقْتَرِفُهُ الْمَرْءُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»
. وَالْمَعْنَى انْتِفَاءُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فَلَا مَأْمَنَ لَهُمْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا حَلَّ بأمثالهم.
وَالْآيَة توذن بِارْتِقَابِ عَذَابٍ يَنَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ عَذَابُ الْجُوعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: ١٠] كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٦].
[٤٤، ٤٥]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : الْآيَات ٤٤ إِلَى ٤٥]
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)
أَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِإِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ. وَالْاِسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ فَهُوَ إِنْبَاءٌ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا نَزَلَ قَبْلَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ إِنْذَارٌ بِهَزِيمَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ لِوُجُودِ عَلَامَةِ الْاِسْتِقْبَالِ.
وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ وَآخَرِينَ مَفْعُولًا مَعَهُ. وَالْوَاوُ لِلْمَعِيَّةِ وَيَتَنَازَعُهُ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَة وَهِي «يَتْلُوا وَيُزَكِّي، وَيُعَلِّمُ». وَالتَّقْدِيرُ: يَتْلُو عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَّابَ وَالْحِكْمَةَ مَعَ آخَرِينَ.
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْجُمُعَة: ٢] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَوْ بَيْنَ الضَّمَائِرِ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ وآخَرِينَ: جَمْعُ آخَرَ وَهُوَ الْمُغَايِرُ فِي وَصْفٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَإِذْ قَدْ جَعَلَ آخَرِينَ هُنَا مُقَابِلًا لِلْأُمِّيِّينَ كَانَ مُرَادًا بِهِ آخَرُونَ غَيْرُ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ الْمَعْنِيِّينَ بِالْأُمِّيِّينَ.
فَلَوْ حَمَلْنَا الْمُغَايِرَةَ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، أَيْ مُغَايِرِينَ لِلَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ الرَّسُولُ، وَجَعَلْنَا قَوْلَهُ: مِنْهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَقُلْنَا: أُرِيدَ وَآخَرِينَ مِنَ الْعَرَبِ غَيْرِ الَّذِينَ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، أَيْ عَرَبًا آخَرِينَ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةِ، وَهُمْ بَقِيَّةُ قبائل الْعَرَب ناكده مَا
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ يَزِيدُ آخِرُهُمْ عَلَى الْأَوَّلِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ فَتَلَاهَا فَلَمَّا بَلَغَ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ؟
وَهَذَا وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرِينَ.
وَالَّذِي يَلُوحُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ لِيُفِيدَ أَنَّ آخَرِينَ صَادِقٌ عَلَى أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا أَمَةُ فَارِسَ، وَأَمَّا شُمُولُهُ لِقَبَائِلِ الْعَرَبِ فَهُوَ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ مِمَّا شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْأُمِّيِّينَ.
ثُمَّ بِنَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ. فلنا أَنْ نَجْعَلَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعَانِيهَا فَنَجْعَلُ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِ (مِنْ) عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ كانُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْجُمُعَة: ٢]، فَالْمَعْنَى: وَآخَرِينَ مِنَ الضَّالِّينَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَيُزَكِّيهِمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَلَنَا أَنْ نَجْعَلَ (مِنَ) اتِّصَالِيَّةً كَالَّتِي
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ١٥٩].
وَالْمَعْنَى: وَآخَرِينَ يَتَّصِلُونَ بِهِمْ وَيَصِيرُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْهُمْ
الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ الظَّالِمِينَ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِمِ الْحِرْمَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ لِظُلْمِهِمْ، أَيْ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ، فَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
وَالضَّلَالُ، مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرَائِقِ الْمَكْرِ الَّذِي خَشِيَ نُوحٌ غَائِلَتَهُ فِي قَوْلِهِ:
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح: ٢٢]، أَيْ حُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكْرِهِمْ وَلَا تَزِدْهُمْ إِمْهَالًا فِي طُغْيَانِهِمْ عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ تُضَلِّلَهُمْ عَنْ وَسَائِلِهِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَوْ أَرَادَ إِبْهَامَ طُرُقِ النَّفْعِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَنْكَسِرَ شَوْكَتُهُمْ وَتَلِينَ شَكِيمَتُهُمْ نَظِيرَ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس:
٨٨].
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الضَّلَالَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ لِظُهُورِ أَنَّهُ يُنَافِي دَعْوَةَ نُوحٍ قَوْمَهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ فَكَيْفَ يَسْأَلُ اللَّهُ أَنْ يَزِيدَهُمْ مِنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَذَابِ الْمُسَبَّبِ عَنِ الضَّلَالِ، أَيْ فِي عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَذَابُ الْإِهَانَةِ وَالْآلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ فَتَكُونُ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً وَيُقَدَّرُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ: وَقُلْنَا لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَزِدْ فِي دُعَائِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا، فَالزِّيَادَةُ مِنْهُ تَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَعِنَادًا. وَبِهَذَا يَبْقَى الضَّلَالُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، فَصِيغَةُ النَّهْيِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّأْيِيسِ مِنْ نَفْعِ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ. وَأَعْلَمَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُ مُهْلِكُهُمْ بِقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا الْآيَة [نوح: ٢٥] وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود:
٣٦، ٣٧].
أَلَا تَرَى أَنَّ خِتَامَ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ مُتَّحِدُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ هُنَا أُغْرِقُوا وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
[٢٥]
[سُورَة نوح (٧١) : آيَة ٢٥]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَضْحَكُونَ إِلَى الْبَاعِثِ عَلَى الضَّحِكِ بِحَرْفِ مِنَ هُوَ الْغَالِبُ فِي تَعْدِيَةِ أَفْعَالِ هَذِهِ الْمَادَّةِ عَلَى أَنَّ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ تُشَبِّهُ الْحَالَةَ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الضَّحِكِ بِمَكَانٍ يَصْدُرُ عَنْهُ الضَّحِكُ، وَمِثْلُهُ أَفْعَالُ: سَخِرَ مِنْهُ، وَعَجِبَ مِنْهُ.
وَمَعْنَى يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ: يَضْحَكُونَ مِنْ حَالِهِمْ فَكَانَ الْمُشْركُونَ لبطرهم يهزأوون بِالْمُؤْمِنِينَ وَمُعْظَمُهُمْ ضِعَافُ أَهْلِ مَكَّةَ فَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ فِي نَوَادِيهِمْ حِينَ يَتَحَدَّثُونَ بِحَالِهِمْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ الضَّحِكِ حَالَةً خَاصَّةً مِنْ أَحْوَالٍ كَانَ الْمَجْرُور اسْم تِلْكَ الْحَالَةِ نَحْوَ: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها [النَّمْل: ١٩] وَإِذَا كَانَ مَجْمُوعُ هَيْئَةِ الشَّيْءِ كَانَ الْمَجْرُورُ اسْمَ الذَّاتِ صَاحِبَةِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ اسْمَ الذَّاتِ أَجْمَعُ لِلْمَعْرُوفِ مِنْ أَحْوَالِهَا نَحْوَ:
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠]. وَقَوْلِ عَبْدِ يَغُوثَ الْحَارِثِ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ كَأَن لم ترى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيًّا
وَالتَّغَامُزُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَمْزِ وَيُطْلَقُ عَلَى جَسِّ الشَّيْءِ بِالْيَدِ جَسًّا مَكِينًا، وَمِنْهُ غَمْزُ الْقَنَاةِ لِتَقْوِيمِهَا وَإِزَالَةُ كُعُوبِهَا.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمْزَ رِجْلِي فَقَبَضْتُهُمَا»
. وَيُطْلَقُ الْغَمْزُ عَلَى تَحْرِيكِ الطَّرْفِ لِقَصْدِ تَنْبِيهِ النَّاظِرِ لِمَا عَسَى أَنْ يَفُوتَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ فِي الْمَقَامِ وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ يَصِحُّ حَمْلُ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَضَمِيرُ مَرُّوا
يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا فَيَكُونُ ضَمِيرُ بِهِمْ
عَائِدًا إِلَى
الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، وَأَمَّا ضَمِيرُ يَتَغامَزُونَ
فَمُتَمَحِّضٌ لِلْعَوْدِ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَالْمَعْنَى: وَإِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَغَامَزُ الْمُجْرِمُونَ حِينَ مُرُورِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ وَإِذَا مَرَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بِالَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ فِي عَمَلِهِمْ وَفِي عُسْرِ حَالِهِمْ يَتَغَامَزُ الْمُجْرِمُونَ حِينَ مُرُورِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَغَامَزُونَ مِنْ دُونِ إِعْلَانِ السُّخْرِيَةِ بِهِمُ اتِّقَاءً لَتَطَاوُلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ بِالسَّبِّ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَانُوا كَثِيرًا بِمَكَّةَ حِينَ نُزُولِ


الصفحة التالية
Icon