رَحْمَتِهِ، ثُمَّ وُصِفَ بِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ وَصْفٌ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا قبله لِأَنَّهُ ينبىء عَنْ عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ الْخُلُودِ، فَمَلِكُ ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَشِذُّ شَيْءٌ عَنِ الدُّخُولِ تَحْتَ مُلْكِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْتَهِي مُلْكُهُ وَلَا يَنْقَضِي، فَأَيْنَ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي يُفِيضُهَا النَّاسُ عَلَى أَعْظَمِ الْمُلُوكِ مِثْلَ مَلِكِ الْمُلُوكِ (شَاهَانْ شَاهْ) وَمَلِكِ الزَّمَانِ وَمَلِكِ الدُّنْيَا (شَاهْ جَهَانْ) وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ. مَعَ مَا فِي تَعْرِيفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الدِّينِ أَيِ الْجَزَاءِ مِنْ إِدْمَاجِ التَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ حُكْمِ اللَّهِ لِأَنَّ إِيثَارَ لَفْظِ الدِّينِ (أَيِ الْجَزَاءِ) لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مُعَامَلَةُ الْعَامِلِ بِمَا يُعَادِلُ أَعْمَالَهُ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الْخَاصُّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غَافِر: ١٧] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مَلِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ فَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الْعَدْلِ الصِّرْفِ وَصْفٌ لَهُ بِأَشْرَفِ مَعْنَى الْمُلْكِ فَإِنَّ الْمُلُوكَ تَتَخَلَّدُ مَحَامِدُهُمْ بِمِقْدَارِ تَفَاضُلِهِمْ فِي إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَقَدْ عَرَّفَ الْعَرَبُ الْمِدْحَةَ بِذَلِكَ. قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ الْمَلِكَ
عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيَّ مَلِكَ الشَّامِ:

وَكَمْ جَزَانَا بِأَيْدٍ غَيْرِ ظَالِمَةٍ عُرْفًا بِعُرْفٍ وَإِنْكَارًا بِإِنْكَارِ
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ يَمْدَحُ الْمَلِكَ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ اللَّخْمِيَّ مَلِكَ الْحِيرَةِ:
مَلِكٌ مُقْسِطٌ وَأَفْضَلُ مَنْ يَمْ شِي وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْهِ الْقَضَاءُ
وَإِجْرَاءُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى إِيمَاءٌ بِأَنَّ مَوْصُوفَهَا حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ الْكَامِلِ الَّذِي أَعْرَبَتْ عَنْهُ جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِأَنَّ تَقْيِيدَ مُفَادِ الْكَلَامِ بِأَوْصَافِ مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ الْمُفَادِ يُشْعِرُ بِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ وَبَيْنَ مُفَادِ الْكَلَامِ مُنَاسِبَةٌ تُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ مِثْلَ التَّعْلِيلِ فِي مَقَامِ هَذِهِ الْآيَةِ.
[٥] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
إِذَا أَتَمَّ الْحَامِدُ حَمْدَ رَبِّهِ يَأْخُذُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِإِظْهَارِ الْإِخْلَاصِ لَهُ انْتِقَالًا مِنَ الْإِفْصَاحِ عَنْ حَقِّ الرَّبِّ إِلَى إِظْهَار مراعة مَا يَقْتَضِيهِ حَقُّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ. فَهَذَا الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.
وَمُفَاتَحَةُ الْعُظَمَاءِ بِالتَّمْجِيدِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُخَاطَبُوا طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ. رَوَىُُ
وَفِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الصِّيَامِ خُصُوصِيَّةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَزَلَّفُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ بِالْأَكْلِ وَالتَّلْطِيخِ بِالدِّمَاءِ، فَكَانَ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُعْبَدُ بِالصَّوْمِ وَأَنَّهُ مُتَنَزِّهٌ عَنْ ضَرَاوَةِ الْأَصْنَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تَعْلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ فَإِنَّ التَّكْبِيرَ تَعْظِيمٌ يَتَضَمَّنُ شُكْرًا وَالشُّكْرُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بِفِعْلِ الْقُرْبِ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ وَأَيَّامِ الْفِطْرِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ الشُّكْرِ لُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ يَوْمَ الْفِطْرِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّكْبِيرِ إِذْ جَعَلَتْهُ مِمَّا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُفَصَّلٍ فِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ، وَمُجْمَلٌ فِي وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَعَدَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَحْوَالِ.
فَأَمَّا لَفْظُ التَّكْبِيرِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ كُلُّ قَوْلٍ فِيهِ لَفْظُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْمَشْهُورُ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ يُكَرِّرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا شَاءَ الْمَرْءُ زَادَ عَلَى التَّكْبِيرِ تَهْلِيلًا وَتَحْمِيدًا فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِذَا أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى التَّكْبِيرِ كَبَّرَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ وَاسِعٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُجْزِئُ غَيْرَ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ.
وَأَمَّا وَقْتُهُ: فَتَكْبِيرُ الْفِطْرِ يَبْتَدِئُ مَنْ وَقْتِ خُرُوجِ الْمُصَلِّي مَنْ بَيْتِهِ إِلَى مَحَلِّ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ وَمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّ الصَّلَاةِ قَطَعَ التَّكْبِيرَ، وَيُسَنُّ فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ افْتِتَاحُ الْأُولَى بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالثَّانِيَةِ بِسِتٍّ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ وَعَمِلَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ عهد النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَمَا بَعْدَهُ وَتَلَقَّاهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَفِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ وَالْأَمْرُ وَاسِعٌ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الْإِمَامُ فِي خُطْبَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيُكَبِّرُ مَعَهُ الْمُصَلُّونَ حِينَ تَكْبِيرِهِ وَيُنْصِتُونَ لِلْخُطْبَةِ فِيمَا سِوَى التَّكْبِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ النَّاسُ مِنْ وَقْتِ اسْتِهْلَالِ هِلَالِ الْفِطْرِ إِلَى انْقِضَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ التَّكْبِيرُ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْفِطْرِ فَهُوَ مَوْرِدُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] وَسَيَأْتِي. وَالِالْتِقَاءُ يُطْلَقُ كَذَلِكَ كَقَوْلِ أُنَيْفِ بْنِ زَبَّانَ:
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنَا لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: فِئَةٌ تُقاتِلُ تَفْصِيلٌ لِلْفِئَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ صَدْرُ جُمْلَةٍ لِلِاسْتِئْنَافِ فِي التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ، الْوَارِدِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَالْجَمْعِ.
وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩].
وَالْخطاب فِي: يَرَوْنَهُمْ كَالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ.
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: رَأْيَ الْعَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكُفَّارَ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالتَّلَاحُمِ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ، فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ فَانْهَزَمُوا. فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ جُعِلَتْ آيَةً لِمَنْ رَأَوْهَا وَتَحَقَّقُوا بَعْدَ الْهَزِيمَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا وَاهِمِينَ فِيمَا رَأَوْهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَسْرَةً لَهُمْ، وَتَكُونُ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ غَيْرَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَنْفَالِ [٤٤] بِقَوْلِهِ: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ فَإِنَّ تِلْكَ يُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ قَبْلَ التَّلَاحُمِ، حَتَّى يَسْتَخِفَّ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلِقَائِهِمْ، فَلَمَّا لَاقَوْهُمْ رَأَوْهُمْ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ فَدَخَلَهُمُ الرُّعْبُ وَالْهَزِيمَةُ، وَتَحَقَّقُوا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ انْكِشَافِ الْمَلْحَمَةِ فقد كَانَت إِرَادَة القلّة وَإِرَادَة الْكَثْرَةِ سَبَبَيْ نَصْرٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ رَأَوُا الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ، فَقَلَّلَهُمُ اللَّهُ فِي أَعْيُنِ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِمْ لَخَافُوا الْهَزِيمَةَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ هِيَ الْإِرَاءَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤٤] : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْله:
(مقليهم) رَاجِعًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَأَصْلُهُ تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْكُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَقُولِ.
نَاشِئًا عَنِ الْإِمْلَاءِ، كَانَ كَالْعِلَّةِ لَهُ، لَا سِيَّمَا وَازْدِيَادُ الْإِثْمِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَهُوَ حِينَ أَمْلَى لَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ بِهِ إِثْمًا، فَكَانَ الِازْدِيَادُ مِنَ الْإِثْمِ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالْعِلَّةِ، أَمَّا عِلَّةُ الْإِمْلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فَهِيَ شَيْءٌ آخَرُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ حِكْمَةِ خلق أَسبَاب الضلال وَأَهْلِهِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ الْحِكْمَةِ فِي شَأْنِهِ. وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَلَى حُسْبَانِ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ حَاصِلٌ، لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى التَّلَازُمِ بَيْنَ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ وَبَيْنَ ازْدِيَادِهِمْ مِنَ الْإِثْمِ فِي مدّة الْإِمْلَاء.
[١٧٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٧٩]
مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ مَا فِي مُصِيبَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْحِكَمِ النَّافِعَةِ دُنْيَا وَأُخْرَى، فَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمرَان: ١٦٦] بَيَّنَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ دَوَامَ اللَّبْسِ فِي حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاخْتِلَاطِهِمْ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ زَمَانًا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي مِثْلِهِ تَقْتَضِي بَقَاءَهُ وَذَلِكَ أَيَّامَ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ عَقِبَ هِجْرَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الِاقْتِنَاعِ مِنَ النَّاسِ بِحُسْنِ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَبْدَأَ الِانْشِقَاقُ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي النُّفُوسِ، وَقَرَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ الْمُقَامَ فِي أَمْنٍ، أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْهِيَةِ الِاخْتِلَاطِ وَأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَكْتُمُونَ نِفَاقَهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِقْبَالٍ، وَرَأَوُا انْتِصَارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَفْضَحَهُمْ وَيُظْهِرَ نِفَاقَهُمْ، بِأَنْ أصَاب الْمُؤمنِينَ يقرح الْهَزِيمَةِ حَتَّى أَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ فَرَحَهُمْ بِنُصْرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَجَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نِفَاقَهُمْ بَادِيًا لِلْعِيَانِ كَمَا قَالَ:
فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: «اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»
. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.
وَالتَّبْيِينُ بِقَوْلِهِ: مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. وَالْمَقْصِدُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مِنَ الرِّجَالِ مُسْتَضْعَفِينَ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِذِكْرِهِمْ ثُمَّ أُلْحِقَ بِذِكْرِهِمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لِأَنَّ وُجُودَهُمْ فِي الْعَائِلَةِ يَكُونُ عُذْرًا لِوَلِيِّهِمْ إِذَا كَانَ لَا يَجِدُ حِيلَةً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النِّسَاء:
٧٥]، وَإِعَادَةُ ذِكْرِهِمْ هُنَا مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي التَّهْيِئَةِ لِفَتْحِ مَكَّةَ.
وَجُمْلَةُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا حَالٌ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مُوَضِّحَةٌ لِلِاسْتِضْعَافِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ الِاسْتِضْعَافِ الَّذِي يَقُولُهُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً فِي الْخُرُوجِ إِمَّا لِمَنْعِ أَهْلِ مَكَّةَ إِيَّاهُمْ، أَوْ لِفَقْرِهِمْ:
وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أَيْ مَعْرِفَةً لِلطَّرِيقِ كَالْأَعْمَى.
وَجُمْلَةُ فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ الْفَاءُ فِيهَا لِلْفَصِيحَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ.
وَفِعْلُ عَسَى فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَرْجُو أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَإِذْ كَانَ اللَّهُ هُوَ فَاعِلُ الْعَفْوِ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُمْ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ بِالتَّعْيِينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ عَسَى هُنَا مَعْنًى مَجَازِيًّا بِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْ ذَنْبِهِمْ عَفْوٌ عَزِيزُ الْمَنَالِ، فَمُثِّلَ حَالُ الْعَفْوِ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ لَا يُقْطَعُ بِحُصُولِ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيقُ تَحَقُّقِ عُذْرِهِمْ، لِئَلَّا يَتَسَاهَلُوا فِي شُرُوطِهِ اعْتِمَادًا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ، فَإِنَّ عُذْرَ اللَّهِ لَهُمْ بِاسْتِضْعَافِهِمْ رُخْصَةٌ وَتَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى إِظْهَارِ الشِّرْكِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الْعَزِيمَةُ أَنْ يُكَلَّفُوا بِإِعْلَانِ الْإِيمَانِ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ جَلَبَ لَهُمُ التَّعْذِيبَ وَالْهَلَاكَ، كَمَا فَعَلَتْ سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ.
وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ مَحْمَلُ مَوَارِدِ عَسَى وَ (لَعَلَّ) إِذَا أُسْنِدَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَرَى كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ. وَوَقَعَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ الْفَرَّاءِ مَا حَاصِلُهُ: إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ وَكَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ وَلَمْ تَكُنْ حِكَايَةً لَهُ نَصَبْتَهَا (أَيْ فَتَحْتَ هَمْزَتَهَا)، مِثْلَ قَوْلِكَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاكَ شَرِيفٌ، تَفْتَحُ (أَنَّ) لِأَنَّهَا فَسَّرَتْ «كَلَامًا»، وَهُوَ مَنْصُوبٌ، (أَيْ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ قُلْتُ) فَمُفَسِّرُهُ مَنْصُوبٌ أَيْضًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَهُ إِعْرَابُ الْمُبَيَّنِ. فَالْفَرَّاءُ يُثْبِتُ لِحَرْفِ (أَنَّ) مَعْنَى التَّفْسِيرِ عِلَاوَةً عَلَى مَا يُثْبِتُهُ لَهُ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، فَصَارَ حَرْفُ (أَنَّ) بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ بِاطِّرَادٍ وَدَالًّا مَعَهُ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ تَارَةً وَعَلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ تَارَةً أُخْرَى بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْمَقَامِ. وَلَعَلَّ الْفَرَّاءَ يَنْحُو إِلَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ هُمَا حَرْفُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ، وَحَرْفُ (أَنْ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ النُّونِ الَّتِي تَكُونُ تَارَةً مَصْدَرِيَّةً وَتَارَةً تَفْسِيرِيَّةً فَفَتْحُ
هَمْزَتِهِ لِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِهِ مِنْ (أَنْ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ النُّونِ مَصْدَرِيَّةً أَوْ تَفْسِيرِيَّةً، وَتَشْدِيدُ نُونِهِ لِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِهِ مِنْ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ، وَأَصْلُهُ وَ (أَنْ إِنْ) فَلَمَّا رُكِّبَا تَدَاخَلَتْ حُرُوفُهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ أَصْلَ (لَنْ) (لَا أَنْ).
وَهَذَا بَيَانُ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ جُرْمٌ فَظِيعٌ، كَفَظَاعَةِ قَتْلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْمَقْصُودُ التَّوْطِئَةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] الْآيَةَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَا كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيَانٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ شَرْعٌ سَالِفٌ وَمُرَادٌ لِلَّهِ قَدِيمٌ، لِأَنَّ لِمَعْرِفَةِ تَارِيخِ الشَّرَائِعِ تَبْصِرَةً لِلْمُتَفَقِّهِينَ وَتَطْمِينًا لِنُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ وَإِزَالَةً لِمَا عَسَى أَنْ يَعْتَرِضَ مِنَ الشُّبَهِ فِي أَحْكَامٍ خَفِيَتْ مَصَالِحُهَا، كَمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لِلْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ أَنَّهُ مُدَاوَاةٌ بِمِثْلِ الدَّاءِ الْمُتَدَاوَى مِنْهُ حَتَّى دَعَا ذَلِكَ الِاشْتِبَاهُ بَعْضَ الْأُمَمِ إِلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الْقِصَاصِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُعَاقِبُونَ الْمُذْنِبَ بِذَنْبٍ آخَرَ، وَهِيَ غَفْلَةٌ دَقَّ مَسْلَكُهَا عَنِ انْحِصَارِ الِارْتِدَاعِ عَنِ الْقَتْلِ فِي تَحَقُّقِ الْمُجَازَاةِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ
فَاعِلَهُ مُؤَنَّثٌ تَقْدِيرًا، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ (أَنْ) وَصِلَتِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْفِتْنَةِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَذَلِكَ نَظِيرُ التَّأْنِيثِ فِي اسْمِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: ١٦٠]، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَمَّا كَانَتْ فِي مَعْنَى الْحَسَنَاتِ أُنِّثَ اسْمُ عَدَدِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّنا- بِالْجَرِّ- عَلَى الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِالنَّصْبِ- عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِهِ.
وَذِكْرُهُمُ الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنَصُّلِ مِنَ الشِّرْكِ، أَيْ لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُهُ. وَقَدْ كَذَبُوا وَحَلَفُوا عَلَى الْكَذِبِ جَرْيًا عَلَى سَنَنِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحْشَرُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحَيْرَةَ وَالدَّهْشَ الَّذِي أَصَابَهُمْ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُمَوِّهُونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعِقَابِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ صُدُورِ الْكَذِبِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِيقَةِ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الْحَقَائِقَ تَظْهَرُ لَهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا تَظْهَرُ لَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ أُخْبِرُوا عَنْ أُمُورِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، فَذَكَرَ مِنْهَا قَوْلَهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاء: ٤٢] وَقَوْلَهُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ
. فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُلْ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا.
وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جَعَلَ حَالَهُمُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ بِمَنْزِلَة الْمشَاهد، لصدور عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ سَامِعَهُ أَوْ أَمَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ حَاضِرٌ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَيْفَ لِمُجَرَّدِ الْحَالِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَالنَّظَرُ إِلَى الْحَالَةِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى أَصْحَابِهَا حِينَ تَكَيُّفِهِمْ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ نَظَائِرُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٠]. وَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّظَرَ هُنَا نَظَرًا
و (لِكُلِّ شَيْءٍ) مُرَادٌ بِهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ، أَيِ الْمُهِمَّاتُ الْمُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِهَا فِي أَحْوَالِ الدِّينِ. فَتَكُونُ (كُلُّ) مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٥]. أَوْ فِي مَعْنَى الْعَظِيمِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَأَنَّهُ جَمَعَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا.
أَوْ يُرَادُ بِالشَّيْءِ: الشَّيْءُ الْمُهِمُّ، فَيَكُونُ مِنْ حَذْفِ الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: ٧٩]، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٣٨].
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ رَجَاء أَن تؤمنوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ إِيتَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ أَنَّ الْمُنْتَفِعِينَ بِهِ هُمْ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَعَلَّهُمْ إِنْ تَحَرَّوْا فِي أَعْمَالِهِمْ، عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْإِيمَانَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِلِقَاءِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَزْمِنَةٍ طَوِيلَةٍ: مِنْ أَطْوَارِ مُجَاوَرَةِ الْقِبْطِ، وَمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالتَّغَرُّبِ وَالْخَصَاصَةِ وَالِاسْتِعْبَادِ، مَا رَفَعَ مِنْهُمُ الْعِلْمَ، وَأَذْوَى الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ، فَنَسُوا مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَفْسَدُوا، حَتَّى كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ، فَأَرَادَ اللَّهُ إِصْلَاحَهُمْ بِبَعْثِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيَرْجِعُوا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةِ لِقَائِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِي أَنْ يَلْقَوْهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَكَذَلِكَ كَانَ سَلَفُهُمْ عَلَى هُدًى وَصَلَاحٍ، فَدَخَلَ فِيهِمْ مَنْ أَضَلَّهُمْ وَلَقَّنَهُمُ الشِّرْكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِم محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرُدَّهُمْ إِلَى الْهُدَى وَيُؤْمِنُوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْبَعْث وَالْجَزَاء.
ورَحْمَةِ اللَّهِ: إحسانه وإيتاؤه الْخَبَر.
وَالْقُرْبُ حَقِيقَتُهُ دُنُوُّ الْمَكَانِ وَتَجَاوُرُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرَّجَاءِ مَجَازًا يُقَالُ: هَذَا قَرِيبٌ، أَيْ مُمْكِنٌ مَرْجُوٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦، ٧] فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَالْقَرِيبُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْجُوِّ الْحُصُولِ وَلَيْسَ بِقُرْبِ مَكَانٍ. وَدَلَّ قَوْلُهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ، أَيْ وَأَحْسِنُوا لِأَنَّهُمْ إِذَا دعوا خوفًا وطعما فَقَدْ تَهَيَّأُوا لِنَبْذِ مَا يُوجِبُ الْخَوْفَ، وَاكْتِسَابِ مَا يُوجِبُ الطَّمَعَ، لِئَلَّا يَكُونَ الْخَوْفُ وَالطَّمَعُ كَاذِبِينَ، لِأَنَّ مَنْ خَافَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْمَخُوفِ، وَمَنْ طَمَعَ لَا يَتْرُكُ طَلَبَ الْمَطْمُوعِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْإِحْسَانِ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ رَحْمَةُ اللَّهِ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ ضِدِّ الْمُحْسِنِينَ رِفْقًا بِالْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَا يَظُنُّ بِهِمْ أَنْ يُسِيئُوا فَتَبْعُدُ الرَّحْمَةُ عَنْهُمْ.
وَعَدَمُ لِحَاقِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِوَصْفِ قَرِيبٌ مَعَ أَنَّ مَوْصُوفَهُ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، وَجَّهَهُ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَة، وَأَشَارَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَجُلُّهَا يَحُومُ حَوْلَ تَأْوِيلِ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ بِمَا يُرَادِفُهُ مِنِ اسْمٍ مُذَكَّرٍ، أَوِ الِاعْتِذَارِ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَوْصُوفِ بِهِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ التَّأْنِيثِ كَمَا هُنَا، وَأَحْسَنُهَا- عِنْدِي- قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا إِذَا أُطْلِقَ عَلَى قَرَابَةِ النَّسَبِ أَوْ بُعْدِ النَّسَبِ فَهُوَ مَعَ الْمُؤَنَّثِ بِتَاءٍ وَلَا بُدَّ، وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى قُرْبِ الْمَسَافَةِ أَوْ بُعْدِهَا جَازَ فِيهِ مُطَابَقَةُ مَوْصُوفِهِ وَجَازَ فِيهِ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:
٨٣] وَقَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب: ٦٣]. وَلَمَّا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي هَذِه الْآيَة عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ قُرْبِ الْمَسَافَةِ جَرَى عَلَى الشَّائِعِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْفُرُوقِ الْعَرَبِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ بِقدر الْإِمْكَان.
تِلْكَ الْمَشِيئَةَ الْمُمْتَنِعَةَ، وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بِأَنَّهُ انْعَكَسَتْ حَالُهُ فَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ رَكَنَ
وَمَالَ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَلَبِّسِ بِالنَّقَائِصِ وَالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، بِحَالِ مَنْ كَانَ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ فَنَزَلَ مِنِ اعْتِلَاءٍ إِلَى أَسْفَلَ، فَبِذِكْرِ الْأَرْضِ عُلِمَ أَنَّ الْإِخْلَادَ هُنَا رُكُونٌ إِلَى السُّفْلِ أَيْ تَلَبُّسٌ بِالنَّقَائِصِ وَالْمَفَاسِدِ.
وَاتِّبَاعُ الْهَوَى تَرْجِيحُ مَا يَحْسُنُ لَدَى النَّفْسِ مِنَ النَّقَائِصِ الْمَحْبُوبَةِ، عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْحَقُّ وَالرُّشْدُ، فَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارٌ لِلِاخْتِيَارِ وَالْمَيْلِ، وَالْهَوَى شَاعَ فِي الْمَحَبَّةِ الْمَذْمُومَةِ الْخَاسِرَةِ عَاقِبَتُهَا.
وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَمْثِيلُهُ بِالْكَلْبِ اللَّاهِثِ، لِأَنَّ اتِّصَافَهُ بِالْحَالَةِ الَّتِي صَيَّرَتْهُ شَبِيهًا بِحَالِ الْكَلْبِ اللَّاهِثِ تَفَرَّعَ عَلَى إِخْلَادِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ، فَالْكَلَامُ فِي قُوَّةٍ أَنْ يُقَالَ: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَصَارَ فِي شَقَاءٍ وَعِنَادٍ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِلَخْ.
وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لَفْظَ الْمَثَلِ بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ مَأْلُوفٌ بِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧]، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ التَّشْبِيهَ هُنَا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمُتَعَارَفِ فِي التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، فَهَذَا الضَّالُّ تَحَمَّلَ كُلْفَةَ اتِّبَاعِ الدِّينِ الصَّالِحِ وَصَارَ يَطْلُبُهُ فِي حِينٍ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ فَلَقِيَ مِنْ ذَلِكَ نَصَبًا وَعَنَاءً، فَلَمَّا حَانَ حِينُ اتِّبَاعِ الْحَقِّ ببعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَمَّلَ مَشَقَّةَ الْعِنَادِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ فِي وَقْتٍ كَانَ جَدِيرًا فِيهِ بِأَنْ يَسْتَرِيحَ مِنْ عَنَائِهِ لِحُصُولِ طِلْبَتِهِ فَكَانَتْ حَالَتُهُ شَبِيهَةً بِحَالَةِ الْكَلْبِ الْمَوْصُوفِ بِاللَّهَثِ، فَهُوَ يَلْهَثُ فِي حَالَةِ وُجُودِ أَسْبَابِ اللَّهَثِ مِنَ الطَّرْدِ وَالْإِرْهَابِ وَالْمَشَقَّةِ وَهِيَ حَالَةُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَفِي حَالَةِ الْخُلُوِّ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ وَهِيَ حَالَةُ تَرْكِهِ فِي دَعَةٍ وَمُسَالَمَةٍ، وَالَّذِي يُنَبِّهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُهُ أَوْ تَتْرُكْهُ.
وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَان حَالَة تصلح لِلتَّشْبِيهِ بِهَا فِي الْحَالَتَيْنِ غَيْرُ حَالَةِ الْكَلْبِ اللَّاهِثِ، لِأَنَّهُ يَلْهَثُ إِذَا أَتْعَبَ وَإِذَا كَانَ فِي دَعَةٍ، فَاللَّهَثُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَثَ حَالَةٌ تُؤْذِنُ بِحَرَجِ الْكَلْبِ مِنْ جَرَّاءِ عُسْرِ تَنَفُّسِهِ عَنِ اضْطِرَابِ بَاطِنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِاضْطِرَابِ بَاطِنِهِ، سَبَبٌ آتٍ مِنْ غَيْرِهِ
وَمَعْنَى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ انْتِفَاءُ الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ وَالنَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ: إِمَّا وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا كَالزَّكَاةِ، وَإِمَّا وُجُوبًا عَارِضًا كَالنَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَالنَّفَقَةِ فِي نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ وُلَاةُ الْعَدْلِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: يُنْفِقُونَها عَائِدٌ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَالْوَعِيدُ مَنُوطٌ بِالْكَنْزِ وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ، فَلَيْسَ الْكَنْزُ وَحْدَهُ بِمُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي مَعْرِضِ أَحْكَامِ ادِّخَارِ الْمَالِ، وَفِي مَعْرِضِ إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ، وَلَا هِيَ فِي تَعْيِينِ سُبُلِ الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ الَّتِي يَجِبُ الْإِخْرَاجُ لِأَجْلِهَا مِنَ الْمَالِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَى تَأْوِيلِ الْكَنْزِ بِالْمَالِ الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ حِينَ وُجُوبِهَا، وَلَا إِلَى تَأْوِيلِ الْإِنْفَاقِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا إِلَى تَأْوِيلِ سَبِيلِ اللَّهِ بِالصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْعُمُومَ بَلْ أُرِيدَ بِهِ الْعَهْدُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّهَا نَسَخَتْهَا آيَةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ سَابِقٌ عَلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَوَقَعَ فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنِ الْكَنْزِ، أَيِ الْمَذْمُومِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ فِي آيَةِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْآيَةَ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ- يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ»
فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْضُ مَالِهِ وَبَعْضُ كَنْزِهِ، أَيْ فَهُوَ الْكَنْزِ الْمَذْمُومِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَيْسَ كُلُّ كَنْزٍ مَذْمُومًا.
وَشَذَّ أَبُو ذَرٍّ فَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِ الْكَانِزِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْكَنْزِ، وَعَلَى عُمُومِ الْإِنْفَاقِ، وَحَمَلَ سَبِيلَ اللَّهِ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ، فَقَالَ بِتَحْرِيمِ كَنْزِ الْمَالِ، وَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَ وَلا يُنْفِقُونَها عَلَى مَعْنَى مَا يُسَمَّى عَطْفُ التَّفْسِيرِ، أَيْ عَلَى مَعْنَى الْعَطْفِ لِمُجَرَّدِ الْقَرْنِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، فَكَانَ أَبُو ذَرٍّ بِالشَّامِ يَنْهَى النَّاسَ عَلَى الْكَنْزِ وَيَقُولُ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِمَكَاوٍ مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجَنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَهُوَ أَمِيرُ الشَّامِ، فِي خِلَافَةِ
عُثْمَانَ: إِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: نَزَلَتْ فِيهِمْ وَفِينَا، وَاشْتَدَّ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ عَلَى النَّاسِ وَرَأَوْهُ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

[سُورَة يُونُس (١٠) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٣]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣)
لَمَّا سَبَقَ تَقْسِيمُ الْمُشْرِكِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الْأَصْنَامِ إِلَى مَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَنْ يُوقِنُ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا شَيْءَ، وَتَقْسِيمُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ يُؤْمِنُ بِصِدْقِهِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِصِدْقِهِ كَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْسِيمَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّلَقِّي مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَهُ وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى كَلَامِهِ، وَقِسْمٍ لَا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَهُ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّمُونَهُ وَيَنْظُرُونَ سَمْتَهُ. وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ مَسْلَكٌ عَظِيمٌ إِلَى الْهُدَى لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ النَّبِيءِ وَإِرْشَادِهِ يُنِيرُ عُقُولَ الْقَابِلِينَ لِلْهِدَايَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ النَّبِيءِ أَوْ رُؤْيَةِ هَدْيِهِ مُؤْذِنًا بِبُلُوغِهِمُ الْغَايَةَ فِي الضَّلَالَةِ مَيْئُوسًا مِنْ نُفُوذِ الْحَقِّ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورِ كَلَامِهِ عَنْ قُوَّةِ الْإِبْلَاغِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَنَّ التَّوَسُّمَ فِي سَمْتِهِ الشريف وَدَلَائِل نبوءته الْوَاضِحَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَافٍ فِي إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَيْهِ بِشَرَاشِرِهَا، فَمَا عُدِمَ انْتِفَاعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُعَايِنُونَ ذَاتَهُ الشَّرِيفَةَ بِمُعَايَنَتِهَا إِلَّا لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ إِيَّاهُ وَحَسَدِهِمْ، وَقَدْ أَفَادَ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ
بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُسْتَمِعِينَ إِلَيْهِ وَالنَّاظِرِينَ إِلَيْهِ هُنَا اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَطُوِيَتْ جُمْلَةُ: وَلَا يَنْتَفِعُونَ أَوْ نَحْوُهَا لِلْإِيجَازِ بِدَلَالَةِ التَّقْسِيمِ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ.
وَالْحِرْمَانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ مَعَ ذَلِكَ التَّكَرُّرِ أَعْجَبُ.
فَجُمْلَةُ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مَعَ مَا طُوِيَ فِيهَا. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ بَيَانٌ لِسَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِسَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْحَالَةُ الْغَرِيبَةُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَمِعِينَ بِمَنْزِلَةِ صُمٍّ لَا يَعْقِلُونَ فِي أَنَّهُمْ حُرِمُوا التَّأَثُّرَ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنَ الْكَلَامِ
وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْغَوْا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمْ وَمَنْ تابَ مَعَكَ.
وَالطُّغْيَانُ أَصْلُهُ التَّعَاظُمُ وَالْجَرَاءَةُ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥]. وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَرَاءَةُ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا أُمِرُوا بِهِ، قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [طه:
٨١]. فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ كِتَابِهِ كَمَا نَهَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَدْ شَمِلَ الطُّغْيَانُ أُصُولَ الْمَفَاسِدِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ جَامِعًا لِأَحْوَالِ مَصَادِرِ الْفَسَادِ مِنْ نَفْسِ الْمُفْسِدِ وَبَقِيَ مَا يُخْشَى
عَلَيْهِ مِنْ عَدْوَى فَسَادِ خَلِيطِهِ فَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: ١١٣].
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: جَعَلَ اللَّهُ الدِّينَ بَيْنَ لَاءَيْنِ وَلا تَطْغَوْا وَلا تَرْكَنُوا [هود:
١١٣].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اسْتِئْنَافٌ لِتَحْذِيرِ مَنْ أَخْفَى الطُّغْيَانَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ وَصْفُ بَصِيرٌ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِدَلَالَةِ مَادَّتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الْبَيِّنِ وَدَلَالَةِ صِيغَتِهِ على قوته.
[١١٣]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٣]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣)
الرُّكُونُ: الْمَيْلُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَفِعْلُهُ كَعَلِمَ. وَلَعَلَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّكْنِ- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- وَهُوَ الْجنب، لأنّ المائل يُدْنِي جَنْبَهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُمَالِ إِلَيْهِ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٤- سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
أُضِيفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَى اسْمِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا غَيْرُهُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا فِي كَلَامِ أَصْحَابِهِ فِي خَبَرٍ مَقْبُولٍ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَرَى فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّورِ أَنَّهَا مِنَ السُّورِ ذَوَاتِ الر. وَقَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الَّتِي جَاءَتْ قِصَصُهُمْ فِيهَا، أَوْ إِلَى مَكَانِ بِعْثَةِ بَعْضِهِمْ وَهِيَ سُورَةُ الْحِجْرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُضَفْ سُورَةُ الرَّعْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا متميزة بفاتحها بِزِيَادَةِ حَرْفِ مِيمٍ عَلَى أَلْفٍ وَلَامٍ وَرَاءٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ قَتَادَةَ إِلَّا آيَتَيْ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً- إِلَى قَوْلِهِ- وَبِئْسَ الْقَرارُ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢٨]، وَقِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٠]. نَزَلَ ذَلِكَ فِي الْمُشْرِكِينَ فِي قَضِيَّةِ بَدْرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَوَهُّمًا كَمَا سَتَعْرِفُهُ.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّوَرُ بَعْدَ سُورَةِ الشُّورَى وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ عُدَّتِ السَبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ فِي النُّزُولِ.
وَعُدَّتْ آيَاتُهَا أَرْبَعًا وَخمسين عِنْد الْمَدَنِيين، وخمسا وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ، وَإِحْدَى وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَاثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ..
وَتَغَيَّرَ الْأُسْلُوبُ هُنَا فَصَارَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ هُوَ الِامْتِنَانُ بِالنِّعَمِ مُدْمَجًا فِيهِ الِاعْتِبَارُ بِالْخَلْقِ. فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَقِبَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.
وَابْتُدِئَ بِالنِّعَمِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِجْمَالًا ثُمَّ ذُكِرَتْ مُهِمَّاتٌ مِنْهَا.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وُجُودَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ (أَحَدُهُمَا فِعْلُهُ الْخَيْرُ وَالْآخَرُ فِعْلُهُ الشَّرُّ) أَعْقَبَهُ هُنَا بِأَنَّ الْخَيْرَ وَالضُّرَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُعْطِي النِّعْمَةَ وَهُوَ كَاشِفُ الضُّرِّ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا لَابَسَكُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَكُمْ، ومِنْ نِعْمَةٍ لِبَيَانِ إِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ.
و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ اللَّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَصْدُرُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَنْ صِفَةِ قُدْرَتِهِ أَوْ عَنْ صِفَةِ فِعْلِهِ عِنْدَ مُثْبِتِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَلَمَّا كَانَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُغْنِيًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِي كَمَا هُوَ شَأْنُهَا الْغَالِبُ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ اللَّجَأَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ حُصُولِ الضُّرِّ أَعْجَبُ إِخْبَارًا مِنَ الْإِخْبَارِ
بِأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَالْمَقْصُودُ: تَقْرِيرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ مُدَبِّرُ أَسْبَابِ مَا بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ يَخْلُقُ إِلَّا هُوَ، وَإِنَّهُمْ لَا يَلْتَجِئُونَ إِلَّا إِلَيْهِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ، وَهُوَ ضِدُّ النِّعْمَةِ.
مِنْ بَهْجَةٍ وَسُرُورٍ بِتَمَامِ دَعْوَتِهِ وَانْتِظَامِ أُمَّتِهِ، ذَلِكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ أَعْدَاؤُهُ، وَعَذَابُ الْمَمَاتِ أَنْ يَمُوتَ مَكْمُودًا مُسْتَذَلًّا بَيْن كُفَّارٍ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ فَازُوا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفُوا عَلَى السُّقُوطِ أَمَامَهُ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَضِعْفَ الْمَماتِ فِي اسْتِمْرَارِ ضِعْفِ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ حَتَّى الْمَمَاتِ.
فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ضِعْفِ الْمَمَاتِ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رَكَنَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَاجْتِلَابًا لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ فِي نَظَرِهِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الِاجْتِهَادِ عِقَابٌ فِي الْآخِرَةِ إِذِ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةٍ فِي التَّكْلِيفِ، وَقَدْ سوغ الله لنبيئه الِاجْتِهَاد وَجعل للمخطىء فِي اجْتِهَادِهِ أَجْرًا كَمَا قَرَّرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٨].
وَأَمَّا مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَأَرْزَاؤُهَا فَهِيَ مُسَبَّبَةٌ عَلَى أَسْبَابٍ مَنِ الْأَغْلَاطِ وَالْأَخْطَاءِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّفَادِي مِنْهَا حُسْنُ النِّيَّةِ إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا قَدْ أَخْطَأَ وَجْهَ الصَّوَابِ، فَتَدَبَّرْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي تَدَبُّرَ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَلِهَذَا خُولِفَ التَّعْبِيرُ الْمُعْتَادُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَعُبِّرَ هُنَا بِ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَأَذَقْناكَ.
وَمَوْقِعُهَا تَحْقِيقُ عَدَمِ الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْإِذَاقَةِ. وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ عَدَمَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ أَهَمُّ مِنْ إِذَاقَتِهِ، فَرُتْبَتُهُ فِي الْأَهَمِّيَّةِ أَرْقَى. وَالنَّصِيرُ: النَّاصِرُ الْمُخَلِّصُ مِنَ الْغَلَبَةِ أَوِ الَّذِي يَثْأَرُ لِلْمَغْلُوبِ، أَيْ لَا تَجِدُ لِنَفْسِكَ مَنْ يَنْتَصِرُ لَكَ فَيَصُدُّنَا عَنْ إِلْحَاقِ ذَلِكَ بِكَ أَوْ يَثْأَرُ لَك منا.
الصَّحِيحِ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الَخَصِمُ»
. وَمِمَّا جَرَّهُ الْإِشْرَاكُ إِلَى الْعَرَبِ مِنْ مَذَامِّ الْأَخْلَاقِ الَّتِي خَلَطُوا بِهَا مَحَاسِنَ أَخْلَاقِهِمْ أَنَّهُمْ رُبَّمَا تُمُدِّحُوا بِاللَّدَدِ، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي رِثَاءِ الْبَعْضِ:
إِنَّ تَحْتَ الْأَحْجَارِ حَزْمًا وَعَزْمًا وَخَصِيمًا أَلَدَّ ذَا مِغْلَاقِ
وَقَدْ حَسُنَ مُقَابَلَةُ الْمُتَّقِينَ بِقَوْمٍ لُدٍّ، لِأَنَّ التَّقْوَى امْتِثَالٌ وَطَاعَةٌ وَالشِّرْكَ عِصْيَانٌ وَلَدَدٌ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ عَنْ عِنَادٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣].
وَإِيقَاعُ لَفْظِ الْقَوْمِ عَلَيْهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّدَدَ شَأْنُهُمْ، وَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي تَقَوَّمَتْ مِنْهَا قَوْمِيَّتُهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَة يُونُس [١٠١].
[٩٨]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٩٨]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
لَمَّا ذُكِرُوا بِالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ أُتْبِعَ بِالتَّعْرِيضِ بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ لِجَبَرُوتِهَا وَتَعَنُّتِهَا لِتَكُونَ لَهُمْ قِيَاسًا وَمَثَلًا. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [مَرْيَم: ٩٧] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَنِذَارَةِ الْمُعَانِدِينَ، لِأَنَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ نِذَارَةٌ لَهُمْ وَبِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاقْتِرَابِ إِرَاحَتِهِمْ مِنْ ضُرِّهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى مَا تَصِفُونَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ هُوَ مَجْرُورُ (عَلَى)، أَيْ عَلَى إِبْطَالِ مَا تَصِفُونَ بِإِظْهَارِ بُطْلَانِكُمْ لِلنَّاسِ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَا يَتَّبِعُوكُمْ، أَوْ عَلَى إِبْطَالِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذَاهُمْ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَتَأْلِيبِ الْعَرَبِ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى مَا تَصِفُونَ وَمَا تَصَدَّرُ بِهِ أَقْوَالُكُمْ مِنَ الْأَذَى لَنَا. فَالْوَصْفُ هُنَا هُوَ الْأَقْوَالُ الدَّالَّةُ عَنِ الْأَوْصَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَهُمْ وَصَفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِ ذَمٍّ كَقَوْلِهِمْ: مَجْنُونٌ وَسَاحِرٌ، وَوَصَفُوا الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ شِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَشَهَرُوا ذَلِكَ فِي دَهْمَائِهِمْ لِتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِ.
عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُؤَيِّدُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَحَدًا مِنَ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْإِفْكِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ الرِّوَايَاتِ: إِمَّا لِعَفْوِ عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ، وَإِمَّا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْإِفْكِ كَانَ تَخَافُتًا وَسِرَارًا وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهِ وَلَكِنَّهُمْ أَشَاعُوهُ فِي أَوْسَاطِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْإِفْكِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَكَيْفَ سَمِعَتِ الْخَبَرَ مِنْ أُمِّ مِسْطَحٍ وَقَوْلَهَا: أَوَ قَدْ تُحُدِّثَ بِهَذَا وَبَلَغَ النَّبِيءَ وَأَبَوَيَّ؟!. وَقِيلَ: حَدَّ حَسَّانَ وَمِسْطَحًا وَحِمْنَةَ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ فَرِيقٌ: إِنَّهُ لَمْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُبَيًّا جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ أَيْضًا.
وَالْإِفَاضَةُ فِي الْقَوْلِ مُسْتَعَارٌ مِنْ إِفَاضَةِ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ، أَيْ كَثْرَتِهِ فِيهِ. فَالْمَعْنَى: مَا أَكْثَرْتُمُ الْقَوْلَ فِيهِ وَالتَّحَدُّثَ بِهِ بَيْنكُم.
[١٥]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ١٥]
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ ب أَفَضْتُمْ [النُّور: ١٤] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ وَمِنَ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ هُوَ إِلَيْهَا اسْتِحْضَارُ صُورَةِ حَدِيثِهِمْ فِي الْإِفْكِ وَبِتَفْظِيعِهَا.
وَأَصْلُ تَلَقَّوْنَهُ تَتَلَقَّوْنَهُ بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا. وَأَصْلُ التَّلَقِّي أَنَّهُ التَّكَلُّفُ لِلِقَاءِ الْغَيْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَة: ٣٧] أَيْ عَلِمَهَا وَلَقَّنَهَا، ثُمَّ يُطْلَقُ التَّلَقِّي عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ بِالْيَدِ مِنْ يَدِ الْغَيْرِ كَمَا قَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا تَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ..»
الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ بِتَشْبِيهِ التَّهَيُّؤِ لِأَخْذِ الْمُعْطَى

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٥٣ إِلَى ١٥٤]

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
أَجَابُوا مَوْعِظَتَهُ بِالْبُهْتَانِ فَزَعَمُوهُ فَقَدَ رُشْدَهُ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ وَاخْتَلَقُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ سِحْرٍ شَدِيدٍ. فَالْمُسَحَّرُ: اسْمُ مَفْعُولٍ سَحَّرَهُ إِذَا سَحَرَهُ سِحْرًا مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، ومِنَ الْمُسَحَّرِينَ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالتَّسْحِيرِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُسَحَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦].
وَلَمَّا تَضَمَّنُ قَوْلُهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ أَيَّدُوا تَكْذِيبَهُ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَذَلِكَ فِي زَعْمِهِمْ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ فِي زَعْمِهِمْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَخْلُوقًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ كَأَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ جنّيّا. فجملة: إِن مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فِي حُكْمِ التَّأْكِيدِ بِجُمْلَةِ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ بِاعْتِبَارِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ الْمُطَالَبَةَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ عَلَى صِدْقِهِ، أَيْ أَنْ يَأْتِيَ بِخَارِقِ عَادَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ عَنْهُ. وَفَرَضُوا صِدْقَهُ بِحَرْفِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّكِّ.
وَمَعْنَى مِنَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْفِئَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ يَعْنُونَ بِذَلِكَ الرُّسُلَ الصَّادِقِينَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَكُّنِ الصِّدْقِ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦].
[١٥٥- ١٥٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٥٥ إِلَى ١٥٩]
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
اسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى نَاقَةٍ جَعَلَهَا لَهُمْ آيَةً. وَتَقَدَّمَ خَبَرُ هَذِهِ النَّاقَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَذَكَرَ أَنَّ صَالِحًا جَعَلَ لَهَا شِرْبًا، وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: النَّوْبَةُ فِي الْمَاءِ، لِلنَّاقَةِ يَوْمًا تَشْرَبُ فِيهِ لَا يُزَاحِمُونَهَا فِيهِ بِأَنْعَامِهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ نَظِيرُ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَرَسُولِهِمْ.
والْكُنُوزِ: جَمْعُ كَنْزٍ وَهُوَ مُخْتَزَنُ الْمَالِ مِنْ صُنْدُوقٍ أَوْ خِزَانَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٢]، وَأَنَّهُ كَانَ يُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ: بَدْرَةُ مَالٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يُجْعَلُ لِذَلِكَ الْمِقْدَارِ خِزَانَةٌ أَوْ صُنْدُوقٌ يَسَعُهُ وَلِكُلِّ صُنْدُوقٍ أَوْ خِزَانَةٍ مِفْتَاحُهُ. وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ «يَكْفِي الْكُوفَةَ مِفْتَاحٌ» أَيْ مِفْتَاحٌ وَاحِدٌ، أَيْ كَنْزٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَالِ لَهُ مِفْتَاحٌ، فَتَكُونُ كَثْرَةُ الْمَفَاتِيحِ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ الْخَزَائِنِ وَتِلْكَ كِنَايَةٌ عَنْ وَفْرَةِ الْمَالِ فَهُوَ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ مِثْلَ:
جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ (وَتَنُوءُ) : تَثْقُلُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْعُصْبَةِ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ أَنْ تَثْقُلَ مَعَ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهَا فَهِيَ لِشِدَّةِ ثِقَلِهَا تَثْقُلُ مَعَ أَنَّ حَمَلَتَهَا عُصْبَةٌ أُولُو قُوَّةٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَاءُ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ وَلَا كَمِثَالِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : نَاءَ بِهِ الْحِمْلُ، إِذَا أَثْقَلَهُ الْحِمْلُ حَتَّى أَمَالَهُ.
وَأَمَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّ تَرْكِيبَ الْآيَةِ فِيهِ قَلْبٌ، فَلَا يَقْبَلُهُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ.
وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي مِقْدَارِهَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَكَانَ اكْتَسَبَ الْأَمْوَالَ فِي مِصْرَ وَخَرَجَ بِهَا.
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ.
إِذْ ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلِ (بَغَى عَلَيْهِمْ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ الْقِصَّةُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ تَوْقِيتَ الْبَغْيِ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مُتَعَلِّقًا بِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفًا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقَصَصِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ بَعْضُهُمْ إِمَّا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَوْعِظَةِ وَإِمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَوْمِ لِأَنَّ أَقْوَالَهُ قُدْوَةٌ لِلْقَوْمِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلَهُ.
لِلَّهِ، أَيْ خَالِصًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠].
وَالْإِحْسَانُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
. وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُسْلِمْ إِسْلَامًا لَا نِفَاقَ فِيهِ وَلَا شَكَّ فَقَدْ أَخَذَ بِمَا يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْهُوِيِّ أَوِ التَّزَلْزُلِ.
وَقَوْلُهُ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى مَضَى الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥]، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَتَذْيِيلُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ إِيمَاءٌ إِلَى وَعْدِهِمْ بِلِقَاءِ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ وَهُوَ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأُمُورِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ مِنْ مَشْمُولَاتِ عُمُومِ الْأُمُورِ صَائِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَجَزَاؤُهُمْ بِالْخَيْرِ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ اللَّهِ.
وَالْعَاقِبَةُ: الْحَالَةُ الْخَاتِمَةُ وَالنِّهَايَةُ. والْأُمُورِ: جَمْعٌ أَمْرٍ وَهُوَ الشَّأْنُ.
وَتَقْدِيمُ إِلَى اللَّهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّ الرَّاجِعَ إِلَيْهِ يُلَاقِي جزاءه وافيا.
[٢٣]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٣]
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣)
لَمَّا خَلَا ذَمُّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَنِ الْوَعِيدِ وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَدْحِ الْمُسْلِمِينَ وَوَعْدِهِمْ عَطَفَ عِنَانَ الْكَلَامِ إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَهْوِينِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَعْرِيضًا بِقِلَّةِ الْعِبْءِ بِهِمْ لِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَيُرِيهِمُ الْجَزَاءَ الْمُنَاسِبَ لِكُفْرِهِمْ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِالْوَعِيدِ.
وَأُسْنِدَ النَّهْيُ إِلَى كُفْرِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْزِنًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَازًا عَقْلِيًّا فِي نَهْيِ
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: ١٦،
١٧].
فَالْمُسَبَّبُ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ اسْتِئْصَالُهُمْ وَهُوَ مَدْلُولُ قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ كَمَا سَتَعْرِفُهُ، وَالْمُسَبَّبُ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ تَقَارُبِ الْبِلَادِ هُوَ تَمْزِيقُهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، أَيْ تَفْرِيقُهُمْ، فَنَظْمُ الْكَلَامِ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ اللف والنشر المشوّش.
وَدَرَجَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ دَعَوُا اللَّهَ بِذَلِكَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِاللَّهِ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنْ دَرَجْنَا عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ وَدَعَوْهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدُرُوا نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ قَدْرَهَا فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ تَزُولَ تِلْكَ الْقُرَى الْعَامِرَةُ لِيَسِيرُوا فِي الْفَيَافِي وَيَحْمِلُوا الْأَزْوَادَ مِنَ الْمِيرَةِ وَالشَّرَابِ.
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِمَّنْ كَانُوا أَدْرَكُوا حَالَةَ تَبَاعُدِ الْأَسْفَارِ فِي بِلَادِهِمْ قبل أَن تؤول إِلَى تِلْكَ الْحَضَارَةِ، أَوْ مِمَّنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَحْوَالَ الْأَسْفَارِ الْمَاضِيَةِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ أَسْفَارَ الْأُمَمِ الْبَادِيَةِ فَتَرُوقُ لَهُمْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ، وَهَذَا مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ النَّاشِئِ عَنْ فَسَادِ الذَّوْقِ فِي إِدْرَاكِ الْمَنَافِعِ وَأَضْدَادِهَا.
وَالْمُبَاعَدَةُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَالتَّضْعِيفِ. فَالْمَعْنَى: رَبَّنَا أَبْعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا.
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»
. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ باعِدْ. وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرٍو بَعِّدْ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ رَبَّنا بِالرَّفْعِ وباعِدْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الدَّالِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَذَمَّرُوا مِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَانِ وَاسْتَقَلُّوهُ وَطَلَبُوا أَنْ تَزْدَادَ الْبِلَادُ قُرْبًا وَذَلِكَ مِنْ بطر النِّعْمَة وَطلب مَا يُتَعَذَّرُ حِينَئِذٍ.
وَالتَّرْكِيبُ يُعْطِي مَعْنَى «اجْعَلِ الْبُعْدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا». وَلَمَّا كَانَتْ بَيْنَ تَقْتَضِي أَشْيَاءَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: بَاعِدْ بَيْنَ السَّفَرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَسْفَارِنَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ إِبْعَادُ الْمَرَاحِلِ لِأَنَّ كُلَّ مَرْحَلَةٍ تُعْتَبَرُ سَفَرًا، أَيْ بَاعِدْ بَيْنَ مَرَاحِلِ أَسْفَارِنَا.
وَمَعْنَى فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جَعَلْنَا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْجَنَّاتِ
وكانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٨٧]، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ بِسَبَبِ تَسْبِيحِهِ وَتَوْبَتِهِ فَقَذَفَهُ الْحُوتُ مِنْ بَطْنِهِ إِلَى الْبَرِّ بَعْدَ أَنْ مَكَثَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَقِيلَ: يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَقِيلَ: بِضْعَ سَاعَاتٍ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ التَّأْبِيدُ بِأَنْ يُمِيتَ اللَّهُ الْحُوتَ حِينَ ابْتِلَاعِهِ وَيُبْقِيَهُمَا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ، أَوْ بِأَنْ يُخْتَطَفَ الْحُوتُ فِي حَجَرٍ فِي الْبَحْرِ أَوْ نَحْوِهُ فَلَا يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ حَتَّى يُبْعَثَ يُونُسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قَعْر الْبَحْر.
[١٤٥- ١٤٦]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٤٥ إِلَى ١٤٦]
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ [الصافات: ١٤٣، ١٤٤]. فَالتَّقْدِيرُ: يُسَبِّحُ رَبَّهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَنَجَّاهُ كَمَا فِي سُورَةِ
الْأَنْبِيَاءِ. وَالْمَعْنَى: فَلَفَظَهُ الْحُوتُ وَقَاءَهُ، وَحَمَلَهُ الْمَوْجُ إِلَى الشَّاطِئِ.
وَالنَّبْذُ: الْإِلْقَاءُ وَأُسْنِدَ نَبْذُهُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْحُوتَ لِقَذْفِهِ مِنْ بَطْنه إِلَى شاطىء لَا شَجَرَ فِيهِ. وَالْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا شَجَرَ فِيهَا وَلَا مَا يُغَطِّيهَا.
وَكَانَ يُونُسُ قَدْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ سَقِيمًا لِأَنَّ أَمْعَاءَ الْحُوتِ أَضَرَّتْ بِجِلْدِهِ بِحَرَكَتِهَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ نزع ثِيَابه عِنْد مَا أُرِيدَ رَمْيُهُ فِي الْبَحْرِ لِيَخِفَّ لِلسِّبَاحَةِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَصَابَ الْحُوتَ بِشِبْهِ الْإِغْمَاءِ فَتَعَطَّلَتْ حَرَكَة هضمه تعطلا مَا فَبَقِيَ كَالْخَدِرِ لِئَلَّا تَضُرَّ أَمْعَاؤُهُ لَحْمَ يُونُسَ. وَأَنْبَتَ اللَّهُ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ لِتُظَلِّلَهُ وَتَسْتُرَهُ. وَالْيَقْطِينُ: الدُّبَّاءُ وَهِيَ كَثِيرَةُ الْوَرَقِ تَتَسَلَّقُ أَغْصَانُهَا فِي الشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَغْصَانَ الْيَقْطِينَةِ تَسَلَّقَتْ عَلَى جَسَدِ يُونُس فكسته وأضلته. وَاخْتِيرَ لَهُ الْيَقْطِينُ لِيُمْكِنَ لَهُ أَنْ يَقْتَاتَ مِنْ غَلَّتِهِ
مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ، لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ فَتَصْلُحُ لِأَنْ تَسِيرَ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ لِاسْتِبْعَادِهِمْ خَلْقَ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ اسْتِبْعَادٌ مثل ذَلِك.
[٥٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٨]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
لَمَّا نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ ضَرَبَ مَثَلًا لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَثَلُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ مَعَ وُضُوحِ إِمْكَانِهِ مَثَلُ الْأَعْمَى، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حَالَ الْبَصِيرِ، وَقَدْ عُلِمَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَفْهُومِ صِفَةِ أَكْثَرَ النَّاسِ لِأَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يُقَابِلُهُمْ أَقَلُّونَ يَعْلَمُونَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَالَّذِينَ هُمْ فِي ضَلَالٍ، فَإِطْلَاقُ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ اسْتِعَارَة لِلْفَرِيقَيْنِ الَّذين تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: ٥٧].
وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٥]، وَمِنَ الْمُتَبَادَرِ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ صَاحِبُ الْحَالِ الْأَفْضَلِ وَهُوَ الْبَصِيرُ إِذْ لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي أَنَّ الْبَصَرَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَمَى فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بِدُونِ مُتَعَلِّقٍ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ، لَكِنَّهُ يُخَصُّ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ وَهِيَ آيَاتُ اللَّهِ وَدَلَائِلُ صِفَاتِهِ، وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ الْعُمُومَ الْعُرْفِيَّ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [١٩].
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِفَضِيلَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِذِكْرِ فَضِيلَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ فَضْلِهِمْ فِي إِدْرَاكِ أَدِلَّةِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِيمَانِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالْمُسِيئُونَ، أَيْ فِي أَعْمَالِهِمْ كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى
الْبَنَاتِ، لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، أَيْ أُمَّهَاتُهُمْ سَرَوَاتُ الْجِنِّ، أَيْ شَرِيفَاتُ الْجِنِّ فَسَرَوَاتُ جَمْعُ سُرِّيَّةٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمُبَرِّدَ قَالَ: الْجُزْءُ هَاهُنَا الْبَنَاتُ، يُقَالُ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى. وَفِي «اللِّسَانِ» عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ:
أَنْشَدْتُ بَيْتًا فِي أَنَّ مَعْنَى جُزْءِ مَعْنَى الْإِنَاثِ وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ أَقَدِيمٌ أَمْ مَصْنُوعٌ، وَهُوَ:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبٌ قَدْ تُجْزِيءُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارُ أَحْيَانًا
وَفِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» : أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ، وَفِي «اللِّسَانِ» أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ:
زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً لِلْعَوْسَجِ الرَّطْبِ فِي أَبْيَاتِهَا زَجَلُ
وَنَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ. وَجَزَمَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ وَأَنَّ الْبَيْتَيْنِ مَصْنُوعَانِ.
وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْحُكْمُ على الشَّيْء بوصفه حُكْمًا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فَكَأَنَّهُ صُنْعٌ بِالْيَدِ وَالصُّنْعُ بِالْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجَعْلُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تَذْيِيلٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِنْكَارِ مَا زَعَمُوهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ شَدِيدٌ. وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ خَاصَّةً.
وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ كُفْرَهُ فِي أَقْوَالِهِ الصَّرِيحَةِ فِي كُفْرِ نعْمَة الله.
[١٦، ١٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
أَمِ لِلْإِضْرَابِ وَهُوَ هُنَا انْتِقَالِيٌّ لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا لَزِمَهُ من انتقاص حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى إِبْطَالِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنِِِ
يَتَرَقَّبُوا مَغَانِمَ أُخْرَى فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا لَهُمْ، أَيْ لَكُمْ مَغَانِمُ أُخْرَى لَا يُحْرَمُ مِنْهَا مَنْ تَخَلَّفُوا عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ الْمَغَانِمُ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْفُتُوحِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.
فالخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: ١٨] وَلَيْسَ خَاصًّا بِالَّذِينَ بَايِعُوا. وَالْوَعْدُ بِالْمَغَانِمِ الْكَثِيرَةِ وَاقِعٌ فِي مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلَى لِسَان الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا بَلَّغَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ لِلْجِهَادِ. وَوَصْفُ مَغانِمَ بِجُمْلَةِ تَأْخُذُونَها لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً يَكُونُ فِعْلُ فَعَجَّلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَيْ سَيُعَجِّلُ لَكُمْ هَذِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ نُوَالَهُمْ غَنَائِمَ خَيْبَرَ تَعْجِيلًا، لِقُرْبِ حُصُولِهِ مِنْ وَقْتِ والوعد بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِآيَةِ الْوَعْدِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا عَقِبَهَا وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مَرْوِيٍّ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ إِلَى الْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح:
١٩] وَأُشِيرَ إِلَيْهَا عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ.
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةٍ غَفَلُوا عَنْهَا حِينَ حَزِنُوا لِوُقُوعِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ السَّلْمِ،
أَيْ كَفِّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ وَاجَهُوهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْقِتَالِ دُونَ الْمُرَاجَعَةِ فِي سَبَبِ قُدُومِهِمْ لَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْقِتَالِ مُتْعَبِينَ. وَلَمَا تَهَيَّأَ لَهُمْ فَتْحُ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُمْ لَوِ اقْتَتَلُوا مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ لَدُحِضَ فِي ذَلِكَ مُؤْمِنُونَ وَمُؤْمِنَاتٍ كَانُوا فِي مَكَّةَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الْفَتْح: ٢٥] الْآيَةَ.
فَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ: أَهْلُ مَكَّةَ جَرْيًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ غَالِبًا.
آخُذٌ بَعْضَهَا بِحَجْزِ بَعْضٍ بِحُسْنِ اتِّصَالٍ يَنْقُلُ كُلٌّ مِنْهَا ذِهْنَ السَّامِعِ إِلَى الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِأَنَّهُ يُعَدِّدُ لَهُ أَشْيَاءَ.
وَقَدْ عُدَّ سَبْعَةٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْأَهْوَالِ:
أَوَّلُهَا: دُعَاءُ الدَّاعِي فَإِنَّهُ مُؤْذِنٌ بَأَنَّهُمْ مُحْضَرُونَ إِلَى الْحِسَابِ، لِأَن مفعول يَدْعُ مَحْذُوفٌ بِتَقْدِيرِ: يَدعُوهُم الدَّاعِي لدلَالَة ضَمِيرِ عَنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ مَا فِي لَفْظِ شَيْءٍ مِنَ الْإِبْهَامِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَهُولٌ، وَمَا فِي تَنْكِيرِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ يُجَسِّمُ ذَلِكَ الْهَوْلَ.
وَثَالِثُهَا: وَصْفُ شَيْءٍ بِأَنَّهُ نُكُرٍ، أَيْ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ وَتَكْرَهُهُ.
وَالنُّكُرُ بِضَمَّتَيْنِ: صِفَةٌ، وَهَذَا الْوَزْنُ قَلِيلٌ فِي الصِّفَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَوْضَةٌ أُنُفٌ، أَيْ جَدِيدَةٌ لَمْ تَرْعَهَا الْمَاشِيَةُ، وَرَجُلٌ شُلُلٌ، أَيْ خَفِيفٌ سَرِيعٌ فِي الْحَاجَاتِ، وَرَجُلٌ سُجُحٌ بِجِيمٍ قَبْلَ الْحَاءِ، أَيْ سَمْحٌ، وَنَاقَةٌ أُجُدٌ: قَوِيَّةٌ مُوَثَّقَةُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِيهَا لِلتَّخْفِيفِ وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هُنَا.
وَرَابِعُهَا: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ أَيْ ذَلِيلَةٌ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرَفٍ خَفِيٍّ لَا تَثْبُتُ أَحْدَاقُهُمْ فِي وُجُوهِ النَّاسِ، وَهِيَ نَظْرَةُ الْخَائِفِ الْمُفْتَضَحِ وَهُوَ كِنَايَةٌ لِأَنَّ ذِلَّةَ الذَّلِيلِ وَعِزَّةَ الْعَزِيزِ تَظْهَرَانِ فِي عُيُونِهِمَا.
وَخَامِسُهَا: تَشْبِيهُهُمْ بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ فِي الِاكْتِظَاظِ وَاسْتِتَارِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ التَّشْبِيهُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالتَّحَرُّكِ.
وَسَادِسُهَا: وَصْفُهُمْ بِمُهْطِعِينَ، وَالْمُهْطِعُ: الْمَاشِي سَرِيعًا مَادًّا عُنُقه، وَهِي مَشِيئَة مذعور غير ملتف إِلَى شَيْءٍ، يُقَالُ: هَطَعَ وَأَهْطَعَ.
وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ وَهُوَ قَوْلٌ مِنْ أَثَرِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ
(٥)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا خَفِيُّ الْمُنَاسِبَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا انْتُقِلَ بِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَى التَّعْرِيضِ بِقَوِمٍ آذوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْعِصْيَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَدْ وُسِمُوا بأذى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَاب: ٥٧] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التَّوْبَة: ٦١] وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التَّوْبَة: ٦١].
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ اقْتِضَابٌ نُقِلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنَ الْغَرَضِ الَّذِي قَبْلَهُ لِتَمَامِهِ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ، أَوْ تَكُونُ مُنَاسِبَةُ وَقْعِهِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ حُدُوثَ سَبَبٍ اقْتَضَى نُزُولَهُ مِنْ أَذًى قَدْ حَدَثَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَرُوَاةُ الْأَخْبَارِ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ.
وَالْوَاوُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعَطْفِ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُسْلِمِينَ لِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ إِتْيَانِ مَا يُؤْذِي رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسوؤوه مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ جَادَّةِ الْكَمَالِ الدِّينِيِّ مِثْلِ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِمْ فِي الْإِتْيَانِ بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَشْفَقَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلزَّيْغِ وَالضَّلَالِ كَمَا حَدَثَ لِقَوْمِ مُوسَى لَمَّا آذَوْهُ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ بِأَذَى قَوْمِ مُوسَى إِيَّاهُ: عَدَمُ تَوَخِّي طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [الْمَائِدَة: ٢١]، إِلَى قَوْلِهِ: قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَة: ٢٤].
فَإِنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: ٢٥].
وَقَدْ يَكُونُ وَصْفُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ نَاظِرًا إِلَى وَصْفِهِمْ بِذَلِكَ مَرَّتَيْنِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْعُقُودِ فِي قَوْلِهِ: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: ٢٥] وَقَوْلِهِ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: ٢٦].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَمِينِ والشِّمالِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ أَوِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ: الْإِحَاطَةُ بِالْجِهَاتِ فَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، لِأَنَّهُمَا الْجِهَتَانِ اللَّتَان يغلب حلولهما، وَمِثْلُهُ قَوْلُ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ:
فَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً مِنْ عَنْ يَمِينِي مَرَّةً وَأَمَامِي
يُرِيدُ: مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
وعِزِينَ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وعِزِينَ: جَمَعُ عِزَةٍ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَهِيَ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ، اسْمٌ بِوَزْنِ فِعْلَةٍ. وَأَصْلُهُ عِزْوَةٌ بِوَزْنِ كِسْوَةٍ، وَلَيْسَتْ بِوَزْنِ عِدَةٍ. وَجَرَى جَمْعُ عِزَةٍ عَلَى الْإِلْحَاقِ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ سِنَةٍ مِنْ كُلِّ اسْمٍ ثُلَاثِيٍّ حُذِفَتْ لَامَهُ وَعُوِّضَ عَنْهَا هَاءَ التَّأْنِيثِ وَلَمْ يُكْسَرْ مِثْلَ عِضَةٍ (لِلْقِطْعَةِ).
وَهَذَا التَّرْكِيبُ فِي قَوْله تَعَالَى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ إِلَى قَوْلِهِ جَنَّةَ نَعِيمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً شُبِّهَ حَالُهُمْ فِي إِسْرَاعِهِمْ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مَنْ يُظَنُّ بِهِمُ الِاجْتِمَاعُ لِطَلَبِ الْهُدَى وَالتَّحْصِيلِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ لَا يَلْتَفَّ حَوْلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا طالبوا الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ التَّمْثِيلِيَّةَ تَجْرِي فِي مَجْمُوعِ الْكَلَامِ مَعَ بَقَاءِ كَلِمَاتِهِ عَلَى حَقَائِقِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ إِسْرَاعِهِمْ ثُمَّ
تَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ.
وَجُمْلَةُ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ عَنْ جُمْلَةِ فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ الْآيَةَ، لِأَنَّ الْتِفَافَهُمْ حَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لِطَلَبِ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ فَشُبِّهَ حَالُهُمْ بِحَالِ طَالِبِي النَّجَاةِ وَالْهُدَى فَأُورِدَ اسْتِفْهَامٌ عَلَيْهِ.
وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا مُسْتَهْزِئِينَ: نَحْنُ نَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارًا لِتَظَاهُرِهِمْ بِالطَّمَعِ فِي الْجَنَّةِ بِحَمْلِ اسْتِهْزَائِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَوْ بِالتَّعْبِيرِ بِفِعْلِ
تَحْقِيقُهُ أَنَّهُ مَعْنًى كِنَائِيٌّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وأَيِّ هَذِهِ تَقَعُ فِي الْمَعْنَى وَصْفًا لِنَكِرَةٍ إِمَّا نَعْتًا نَحْوَ: هُوَ رَجُلٌ أَيُّ رَجُلٍ، وَإِمَّا مُضَافَةً إِلَى نَكِرَةٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ بِأَفْعَالِ خَلَقَكَ، فَسَوَّاكَ، فَعَدَّلَكَ» فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى فِي أَيِّ صُورَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ رَكَّبَكَ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ فَعَدَلَكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ مَا شاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ فِي أَيِّ صُورَةٍ وَبَيْنَ رَكَّبَكَ وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ: فِي صُورَةٍ أَيِّ صُورَةٍ، أَيْ فِي صُورَةٍ كَامِلَةٍ بَدِيعَةٍ.
وَجُمْلَةُ مَا شاءَ رَكَّبَكَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ (عَدَّلَكَ) بِاعْتِبَارِ كَوْنِ جُمْلَةِ (عَدَّلَكَ) مُفَرَّعَةً عَنْ جملَة فَسَوَّاكَ المفرغة عَنْ جُمْلَةِ خَلَقَكَ فَبَيَانُهَا بَيَانٌ لَهُمَا.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ، أَيْ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ مُلَابِسًا صُورَةً عَجِيبَةً فَمَحَلُّ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَحَلُّ الْحَالِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ وَعَامِلُ الْحَالِ (عَدَّلَكَ)، أَوْ رَكَّبَكَ، فَجُعِلَتِ الصُّورَةُ الْعَجِيبَةُ كَالظَّرْفِ لِلْمُصَوَّرِ بِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهَا مِنْ مَوْصُوفِهَا.
وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَا صَدَقُهَا تَرْكِيبٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وشاءَ صِلَةُ مَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: شَاءَهُ. وَالْمَعْنَى: رَكَّبَكَ التَّرْكِيبَ الَّذِي شَاءَهُ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمرَان:
٦].
وَعُدِلَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِمَصْدَرِ رَكَّبَكَ إِلَى إِبْهَامِهِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْحِيمِ الْمَوْصُولِ بِمَا فِي صِلَتِهِ مِنَ الْمَشِيئَةِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُبْدِعِ الْحَكِيمِ وَنَاهِيكَ بِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ شاءَ صِفَةً لِ صُورَةٍ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ وَمَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي صُورَةٍ عَظِيمَةٍ شَاءَهَا مَشِيئَةً مُعَيَّنَةً، أَيْ عَنْ تَدْبِير وَتَقْدِير.


الصفحة التالية
Icon