الْمُقَدِّمَةُ التَّاسِعَةُ فِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا جُمَلُ الْقُرْآنِ تُعْتَبَرُ مُرَادَةً بِهَا
إِنَّ الْعَرَبَ أُمَّةٌ جُبِلَتْ عَلَى ذَكَاءِ الْقَرَائِحِ وَفِطْنَةِ الْأَفْهَامِ، فَعَلَى دِعَامَةِ فِطْنَتِهِمْ وَذَكَائِهِمْ أُقِيمَتْ أَسَالِيبُ كَلَامِهِمْ، وَبِخَاصَّةٍ كَلَامُ بُلَغَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِيجَازُ عَمُودَ بَلَاغَتِهِمْ لِاعْتِمَادِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ كَمَا يُقَالُ: لَمْحَةٌ دَالَّةٌ، لِأَجْلِ ذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ الْمَجَازُ، وَالِاسْتِعَارَةُ، وَالتَّمْثِيلُ، وَالْكِنَايَةُ، وَالتَّعْرِيضُ، وَالِاشْتِرَاكُ وَالتَّسَامُحُ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَالْمُبَالَغَةِ، وَالِاسْتِطْرَادُ وَمُسْتَتْبَعَاتُ التَّرَاكِيبِ، وَالْأَمْثَالُ، وَالتَّلْمِيحُ، وَالتَّمْلِيحُ، وَاسْتِعْمَالُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ فِي غَيْرِ إِفَادَةِ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّقْرِيرِ أَوِ الْإِنْكَارِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّه تَوْفِيرُ الْمَعَانِي، وَأَدَاءُ مَا فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَخْصَرِهَا لِيَسْهُلَ اعْتِلَاقُهَا بِالْأَذْهَانِ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْقُرْآنُ وَحْيًا مِنَ الْعَلَّامِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ وَتَحَدَّى بُلَغَاءَ الْعَرَبِ بِمُعَارَضَةِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ، فَقَدْ نُسِجَ نَظْمُهُ نَسْجًا بَالِغًا مُنْتَهَى مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مِنَ الدَّقَائِقِ وَاللَّطَائِفِ لَفْظًا وَمَعْنًى بِمَا يَفِي بِأَقْصَى مَا يُرَادُ بَلَاغَةً إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أُسْلُوبٍ أَبْدَعَ مِمَّا كَانُوا يَعْهَدُونَ وَأَعْجَبَ، فَأَعْجَزَ بُلَغَاءَ الْمُعَانِدِينَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَلَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا الْإِذْعَانُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مِثْلَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَالنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ عِنَادًا مِثْلَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَالْقُرْآنُ مِنْ جَانِبِ إِعْجَازِهِ يَكُونُ أَكْثَرَ مَعَانِي مِنَ الْمَعَانِي الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يُودِعُهَا الْبُلَغَاءُ فِي كَلَامِهِمْ. وَهُوَ لِكَوْنِهِ كِتَابَ تَشْرِيعٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُودَعَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ أَكْثَرُ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَلْفَاظُ، فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْمِقْدَارِ، بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ الْوَارِدُ هُوَ بِهَا الَّتِي هِيَ أَسْمَحُ اللُّغَاتِ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ، لِيَحْصُلَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِرْشَادِ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الْهُدَى، فَمُعْتَادُ الْبُلَغَاءِ إِيدَاعُ الْمُتَكَلِّمِ مَعْنًى يَدْعُوهُ إِلَيْهِ غَرَضُ كَلَامِهِ وَتَرْكُ غَيْرِهِ وَالْقُرْآنُ يَنْبَغِي أَنْ يُودَعَ مِنَ الْمَعَانِي كُلَّ مَا يَحْتَاجُ السَّامِعُونَ إِلَى عِلْمِهِ وَكُلَّ مَا لَهُ حَظٌّ فِي الْبَلَاغَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً أَمْ مُتَفَاوِتَةً فِي الْبَلَاغَةِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْأَعْلَى مَقْصُودًا وَكَانَ مَا هُوَ
وَإِنَّمَا جِيءَ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ بِوَاسِطَةِ كَلِمَةِ أَشَدُّ قَالَ التفتازانيّ: آثَرَ أَشَدُّ حُبًّا عَلَى أَحَبُّ لِأَنَّ أَحَبَّ شَاعَ فِي تَفْضِيلِ الْمَحْبُوبِ عَلَى مَحْبُوبٍ آخَرَ تَقُولُ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَفِي الْقُرْآنِ: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: ٢٤] إِلَخْ.
يَعْنِي أَنَّ فِعْلَ أَحَبَّ هُوَ الشَّائِعُ وَفِعْلَ حُبَّ قَلِيلٌ فَلِذَلِكَ خَصُّوا فِي الِاسْتِعْمَالِ كُلًّا بِمَوَاقِعَ نَفْيًا لِلَّبْسِ فَقَالُوا: أَحَبَّ وَهُوَ مُحِبٌّ وَأَشَدُّ حُبًّا وَقَالُوا حَبِيبٌ مِنْ حَبَّ وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَبَّ أَيْضا.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ شَرْحًا لِحَالِ ضَلَالِهِمُ الْفَظِيعِ فِي الدُّنْيَا مِنَ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ لِلَّهِ مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّةِ وَحْدَانِيَّتِهِ حَتَّى كَانَ قَوْلُهُ:
وَمِنَ النَّاسِ مُؤْذِنًا بِالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَزِيدَ فِي شَنَاعَتِهِ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَحَبُّوهَا كَحُبِّهِ، نَاسَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ ذَكَرَ عَاقِبَتَهُمْ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ وَوَصَفَ فَظَاعَةَ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فَظَّعَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوب وَلَوْ يَرَى بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْخِطَابَ، وَذَلِكَ لِتَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الْفَظَاعَةِ وَالسُّوءِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَهَا النَّاسُ لَظَهَرَتْ لِجَمِيعِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَالَّذِينَ ظَلَمُوا) مَفْعُولُ (تَرَى) على الْمَعْنيين، و (إِذْ) ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِتَعَلُّقِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْمَرْئِيَّاتِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَوْرِدُ الْمَعْنَى، إِلَّا أَنَّ وَقْتَ الرُّؤْيَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، إِذِ الْمَعْنَى لَوْ تَرَاهُمُ الْآنَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَوْ تَرَى الْآن حَالهم، وقرأه الْجُمْهُورُ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا بِالتَّحْتِيَّةِ فَيَكُونُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَاعِلَ يَرَى وَالْمَعْنَى أَيْضًا لَوْ يَرَوْنَ الْآنَ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَرَى لِدَلَالَةِ الْمُقَامِ، تَقْدِيره لَوْ يَرَوْنَ عَذَابَهُمْ أَوْ لَوْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ يَكُونُ
(إِذِ) اسْمًا غَيْرَ ظَرْفٍ أَيْ لَوْ يَنْظُرُونَ الْآنَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَيَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا.
والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مُقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَكُونَ

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٧٧]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِمُقَابَلَةِ الذَّمِّ بِالْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرَتِهَا قَرِيبًا. وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّ الصِّفَاتِ الْمُقَابِلَةَ لهاته الصِّفَات صفت غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُنَاسَبَةُ تَزْدَادُ ظُهُورًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا الزَّكاةَ.
[٢٧٨، ٢٧٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٢٧٨ إِلَى ٢٧٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِفْضَاءٌ إِلَى التَّشْرِيعِ بَعْدَ
أَنْ قُدِّمَ أَمَامَهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ مَا هَيَّأَ النُّفُوسَ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٥] مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٥] فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ تَشْرِيعٌ وَقَعَ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِتَشْرِيعٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ وَلِذَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّشْرِيعِ الصَّرِيحِ الْمَقْصُودِ، وَمَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ وَصْفٌ لِحَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
وَأُمِرُوا بِتَقْوَى اللَّهِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ الرِّبَا لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ هِيَ أَصْلُ الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الرِّبَا مِنْ جُمْلَتِهَا. فَهُوَ كَالْأَمْرِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ.
وَمَعْنَى وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا الْآيَةَ اتْرُكُوا مَا بَقِيَ فِي ذِمَمِ الَّذِينَ عَامَلْتُمُوهُمْ بِالرِّبَا، فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: «فَلَهُ مَا سَلَفَ»، فَكَانَ الَّذِي سَلَفَ قَبْضُهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ مَعْفُوًّا عَنْهُ وَمَا لَمْ يُقْبَضْ مَأْمُورًا بِتَرْكِهِ.
الذَّنْبِ، فَلِذَلِكَ عُدَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا رُتْبَةً مِنْ مَرَاتِبِ التَّقْوَى. وَلَيْسَ الِاسْتِغْفَارُ مُجَرَّدَ قَوْلِ (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) بِاللِّسَانِ وَالْقَائِلُ مُلْتَبِسٌ بِالذُّنُوبِ. وَعَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: «اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ» وَفِي كَلَامِهَا مُبَالَغَةٌ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِالْقَوْلِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِتَذَكُّرِ الذَّنْبِ وَالْحِيلَةِ لِلْإِقْلَاعِ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَاسْتَغْفَرُوا وَجُمْلَةِ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ تَسْدِيدُ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى اسْتِغْفَارِ اللَّهِ عَقِبَ الذَّنْبِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالنَّصَارَى فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عِيسَى رَفَعَ الْخَطَايَا عَنْ بَنِي آدَمَ بِبَلِيَّةِ صَلْبِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا إِتْمَامٌ لِرُكْنَيِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يُشِيرُ إِلَى النَّدَمِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْإِصْرَارِ، وَهَذَانِ رُكْنَا التَّوْبَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ:
«النَّدَمُ تَوْبَةٌ»، وَأَمَّا تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ فِيهِ بِسَبَبِ الذَّنْبِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ إِذَا تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ، وَكَيْفَ يُؤْخَذُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنَ التَّدَارُكِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي «ذَكَرُوا» أَيْ:
ذَكَرُوا اللَّهَ فِي حَالِ عَدَمِ الْإِصْرَارِ. وَالْإِصْرَارُ: الْمَقَامُ عَلَى الذَّنْبِ، وَنَفْيُهُ هُوَ مَعْنَى الْإِقْلَاعِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ يَعْلَمُونَ سُوءَ فِعْلِهِمْ، وَعِظَمَ غَضَبِ الرَّبِّ، وَوُجُوبَ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ تَفَضَّلَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ فَمَحَا بِهَا الذُّنُوبَ الْوَاقِعَةَ.
وَقَدِ انْتَظَمَ مِنْ قَوْلِهِ: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يُصِرُّوا وَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَنْتَظِمُ مِنْهَا مَعْنَى التَّوْبَةِ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ
مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَخْذَ انْتِزَاعٍ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي شَأْنِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمِفْتَاحِ بِيَدِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ مُسْتَصْحَبٌ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْإِسْلَامُ حَوْزَهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ تَقَرَّرَ حَقُّ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَبَقِيَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْهَا لِابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، وَكَانَتِ السِّدَانَةُ مِنْ مَنَاصِبِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (١) فَأَبْطَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهَا فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ أَوْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَا عَدَا السِّقَايَةَ وَالسِّدَانَةَ.
فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَمَانَةِ فِي الْآيَةِ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ عُثْمَانَ سَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَة للنبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دُونَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ.
وَالْأَدَاءُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا ذَاتٌ يُمْكِنُ إيصالها بِالْفِعْلِ لمستحقّها، فَتَكُونُ الْآيَةُ آمِرَةً بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِيصَالِ وَالْوَفَاءَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دَفْعُ الْأَمَانَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا مَجَازَ فِي لَفْظِ (تُؤَدُّوا).
وَقَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ عَطَفَ أَنْ تَحْكُمُوا عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ الظَّرْفُ، وَهُوَ جَائِزٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: ٢٠١] وَكَذَلِكَ فِي عَطْفِ الْأَفْعَالِ عَلَى الصَّحِيحِ: مِثْلُ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٩، ١٣٠].
وَالْحُكْمُ مَصْدَرُ حَكَمَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، أَيِ اعْتَنَى بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ مِنْهُمَا مِنَ الْمُبْطِلِ، أَوْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَكْمِ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهُوَ
_________
(١) مناصب قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، وَتسَمى مآثر قُرَيْش، هِيَ: السِّقَايَة وَهِي سقِِي الحجيج من مَاء زَمْزَم وَكَانَت لبني هَاشم، والسدانة بِكَسْر السِّين وَهِي حجابة الْكَعْبَة وَهِي لبني عبد البدار، والسفارة لبني عدي، والرفادة بِكَسْر الرَّاء وَهِي أَمْوَال تجمعها قُرَيْش لإعانة الْحجَّاج المعوزين وَهِي لبني نَوْفَل، والديات والحمالات وَهِي لبني تيم، والراية تسمى الْعقَاب وَهِي لبني أُميَّة، والمشورة لبني أَسد بن عبد الْعزي، والأعنة والقبة وَهِي شؤون الْحَرْب كَانُوا يضْربُونَ قبَّة ويجتمعون إِلَيْهَا عِنْد تجهيز الجيوش وَهِي لبني مَخْزُوم، والحكومة وأموال الْآلهَة لبني سهم، والإيسار والإزلام لبني جمح.
أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: ١٤٥]. فَذَكَرَ أَرْبَعَةً لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا شَيْئًا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا هُنَا، لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ فِي حَالِ اتِّصَالِ الْمَوْتِ بِالسَّبَبِ لَا مُطْلَقًا. فَعَضُّوا عَلَى هَذَا بِالنَّوَاجِذِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ضَبْطِ الْحَالَةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا الذَّكَاةُ فِي هَاتِهِ الْخَمْسِ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ:
فَالْجُمْهُورُ ذَهَبُوا إِلَى تَحْدِيدِهَا بِأَنْ يَبْقَى فِي الْحَيَوَانِ رَمَقٌ وَعَلَامَةُ حَيَاةٍ، قَبْلَ الذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، مِنْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ فَمٍ تَحْرِيكًا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ عُرْفًا، وَلَيْسَ هُوَ تَحْرِيكُ
انْطِلَاقِ الْمَوْتِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرِوَايَةُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَعَنْ مَالِكٍ:
أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغًا أُنْفِذَتْ مَعَهُ مَقَاتِلُهَا، بِحَيْثُ لَا تُرْجَى حَيَاتُهَا لَوْ تُرِكَتْ بِلَا ذَكَاةٍ، لَا تَصِحُّ ذَكَاتُهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْفُذْ مَقَاتِلُهَا عَمِلَتْ فِيهَا الذَّكَاةُ. وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالُوا: إِنَّمَا يُنْظَرُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَحَيَّةٌ هِيَ أَمْ مَيْتَةٌ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى حَالَةِ هَلْ يَعِيشُ مِثْلُهَا لَوْ تُرِكَتْ دُونَ ذَبْحٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. وَنَفْسُ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَخَّصَ فِي حَالَةٍ هِيَ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ فِي إِعْمَالِ الذَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تُنْفَذِ الْمَقَاتِلُ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يُبَاحُ الْأَكْلُ، إِذْ هُوَ حِينَئِذٍ حَيَوَانٌ مَرْضُوضٌ أَوْ مَجْرُوحٌ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِإِبَاحَةِ أَكْلِهِ بِذَكَاةٍ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ، أَيْ لَكِنْ كُلُوا مَا ذَكَّيْتُمْ دُونَ الْمَذْكُورَاتِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَكَلَ السَّبُعُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجْعَلُ الِاسْتِثْنَاءَ لِلْأَخِيرَةِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى غَلَبَةِ هَذَا الصِّنْفِ بَيْنَ الْعَرَبِ، فَقَدْ كَانَتِ السِّبَاعُ وَالذِّئَابُ تَنْتَابُهُمْ كَثِيرًا، وَيَكْثُرُ أَنْ يُلْحِقُوهَا فَتُتْرَكُ أَكَيْلَتُهَا فَيُدْرِكُوهَا بِالذَّكَاةِ.
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هُوَ مَا كَانُوا يَذْبَحُونَهُ مِنَ الْقَرَابِينِ وَالنُّشُرَاتِ فَوْقَ الْأَنْصَابِ. وَالنُّصُبُ- بِضَمَّتَيْنِ- الْحَجَرُ الْمَنْصُوبُ، فَهُوَ مُفْرَدٌ مُرَادٌ بِهِ
الرِّيبَةِ أَرْجَى إِلَى الظَّنِّ بِحُصُولِ الصِّدْقِ لِكَثْرَةِ مَا ضَبَطَ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّا يَنْفِي الْغَفْلَةَ وَالتَّسَاهُلَ، بَلْهَ الزُّورَ وَالْجَوْرَ مَعَ تَوَقِّي سُوءِ السُّمْعَةِ.
وَمَعْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ: أَنْ يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ. جُعِلَ أَدَاؤُهَا وَالْإِخْبَارُ بِهَا كَالْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلى وَجْهِها، أَيْ عَلَى سُنَّتِهَا وَمَا هُوَ مُقَوِّمُ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، فَاسْمُ الْوَجْهِ فِي مِثْلِ هَذَا مُسْتَعَارٌ لِأَحْسَنِ مَا فِي الشَّيْءِ وَأَكْمَلِهِ تَشْبِيهًا بِوَجْهِ الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ الْعُضْوُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْءُ وَيَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَمَّا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى،
وَشَاعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِهِمْ، قَالُوا: جَاءَ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَعَلُوا الشَّيْءَ مَأْتِيًّا بِهِ، وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ أُتِيَ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ وَجْهِهِ، أَيْ مِنْ كَمَالِ أَحْوَالِهِ. فَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ، مِثْلُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَال من بِالشَّهادَةِ، وَصَارَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ.
وَسُنَّةُ الشَّهَادَةِ وَكَمَالُهَا هُوَ صِدْقُهَا وَالتَّثَبُّتُ فِيهَا وَالتَّنَبُّهُ لِمَا يَغْفُلُ عَنْهُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي قَدْ يَسْتَخِفُّ بِهَا فِي الْحَالِ وَتَكُونُ لِلْغَفْلَةِ عَنْهَا عَوَاقِبُ تُضَيِّعُ الْحُقُوقَ، أَيْ ذَلِكَ يُعَلِّمُهُمْ وَجْهَ التَّثَبُّتِ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَتَوَخِّي الصِّدْقِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قَاعِدَةِ لُزُومِ صِفَةِ الْيَقَظَةِ لِلشَّاهِدِ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْذَارِ فِي الشَّهَادَةِ بِالطَّعْنِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَا يَحْمِلُ شُهُودَ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّثَبُّتِ فِي مُطَابَقَةِ شَهَادَتِهِمْ، لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْإِعْذَارَ يَكْشِفَانِ عَنِ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَأْتُوا بِاعْتِبَارِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَجْرُورَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جُمْلَةَ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَفَادَتِ الْإِتْيَانَ بِهَا صَادِقَةً لَا نُقْصَانَ فِيهَا بِبَاعِثٍ مِنْ أَنْفُسِ الشُّهُودِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرْنَاهُ بِمَعْنَى أَنْ يَعْلَمُوا كَيْفَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ. فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا إِيجَادَ وَازِعٍ لِلشُّهُودِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ وَازِعًا هُوَ تَوَقُّعُ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ.
اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً، شُبِّهَتْ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْفَائِزِينَ فِي عَمَلِهِمْ، مَعَ حَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، بِحَالَةِ الْغَالِبِ عَلَى امْتِلَاكِ دَارِ عَدُوِّهِ، وَطُوِيَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ، وَهُوَ عاقِبَةُ الدَّارِ، فَإِنَّ التَّمْثِيلِيَّةَ تَكُونُ مُصَرَّحَةً، وَتَكُونُ مَكْنِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يُقَسِّمُوهَا إِلَيْهِمَا، لَكِنَّهُ تَقْسِيمٌ لَا مَحِيصَ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّارِ مُسْتَعَارَةً لِلْحَالَةِ الَّتِي اسْتَقَرَّ فِيهَا أحد، تَشْبِيها للحالة بِالْمَكَانِ فِي الِاحْتِوَاءِ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ عَاقِبَةُ إِلَى الدَّارِ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، أَيِ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ حَالُهُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً.
وَمِنْ مَحَاسِنِهَا هُنَا: أَنَّهَا بَنَتْ عَلَى اسْتِعَارَةِ الْمَكَانَةِ لِلْحَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ فَصَارَ الْمَعْنَى: اعْمَلُوا فِي دَارِكُمْ مَا أَنْتُمْ عَامِلُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ. وَفِي الْكَلَامِ مَعَ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَاقِبَةَ تِلْكَ الدَّارِ، أَيْ بَلَدِ مَكَّةَ، أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥] وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَنْ تَكُونُ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، بِتَحْتِيَّةٍ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ عَاقِبَةُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَلَمَّا وَقع فَاعِلا ظَاهرا فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُقْرَنَ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَبِدُونِهَا.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْوَعِيدِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، سَتَكُونُ عُقْبَى الدَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ، لَا لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ ابْتِدَاءً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ تَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَأَنَّهُ أَمر عَظِيم.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ فَكَانَ غَيْرُهُمْ يَطُوفُونَ عُرَاةً إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْحُمْسُ ثِيَابًا فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ، وَعَنْهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَصَلُوا إِلَى مِنًى طَرَحُوا ثِيَابَهُمْ وَأَتَوُا الْمَسْجِدَ عُرَاةً. وَرُوِيَ أَنَّ الْحُمْسَ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَطُوفَ إِلَّا فِي ثِيَابِنَا وَلَا يَأْكُلَ إِذَا دَخَلَ أَرْضِنَا إِلَّا مِنْ طَعَامِنَا. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَرَبِ صَدِيقٌ بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا وَلَا يجد من يَسْتَأْجِرُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَإِمَّا أَنْ يَطُوفَ فِي ثِيَابِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ وَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى: اللَّقَى- بِفَتْحِ اللَّامِ- قَالَ شَاعِرُهُمْ:
كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرَامُ
وَفِي «الْكَشَّاف»، عَن طَاوُوس: كَانَ أَحَدُهُمْ يَطُوفُ عُرْيَانًا وَيَدَعُ ثِيَابَهُ وَرَاءَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ طَافَ وَهِيَ عَلَيْهِ ضُرِبَ وَانْتُزِعَتْ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَعْبُدُ اللَّهَ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبْنَا فِيهَا، وَقَدْ أبْطلهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَامَ حَجَّتِهِ سَنَةَ تِسْعٍ، أَنْ يُنَادِيَ فِي الْمَوْسِمِ: «أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ».
وَعَنِ السُّدِّيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ التزموا تَحْرِيم اللّم وَالْوَدَكَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، وَلَا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا، وَلَا يَأْكُلُونَ دَسَمًا، وَنَسَبَ فِي «الْكَشَّافِ» ذَلِكَ إِلَى بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ يَقُولُونَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ إِذَا دَخَلَ أَرْضَنَا أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا مِنْ طَعَامِنَا، وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ»
وَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَرانِي لَيْسَ بِوَعْدٍ بِالرُّؤْيَةِ عَلَى الْفَرْضِ لِأَنَّ سَبْقَ قَوْلِهِ: لَنْ تَرانِي أَزَالَ طَمَاعِيَّةَ السَّائِلِ الرُّؤْيَةَ، وَلَكِنَّهُ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى الْجَبَلِ أَنْ يَرَى رَأْيَ الْيَقِينِ عَجْزَ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَحْرَى، مِنْ عَدَمِ ثَبَاتِ قُوَّةِ الْجَبَلِ، فَصَارَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْجَبَلَ لَا يَسْتَقِرُّ مَكَانَهُ مِنَ التَّجَلِّي الَّذِي يَحْصُلُ عَلَيْهِ فَلَسْتَ أَنْتَ بِالَّذِي تَرَانِي، لِأَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَمَنْزِلَةُ الشَّرْطِ هُنَا مَنْزِلَةُ الشَّرْطِ الِامْتِنَاعِيِّ الْحَاصِلِ بِحَرْفِ (لَوْ) بِدَلَالَةِ قَرِينَةِ السَّابِقِ.
وَالتَّجَلِّي حَقِيقَةُ الظُّهُورِ وَإِزَالَةُ الْحِجَابِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ، وَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِزَالَةُ الْحَوَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ حِجَابًا بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ وَبَيْنَ قُوَى الْجَبَرُوتِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَصْرِيفِهَا عَلَى مَقَادِيرَ مَضْبُوطَةٍ وَمُتَدَرِّجَةٍ فِي عَوَالِمَ مُتَرَتِّبَةٍ تَرْتِيبًا يَعْلَمُهُ اللَّهُ.
وَتَقْرِيبُهُ لِلْإِفْهَامِ شَبِيهٌ بِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ، وَتِلْكَ الْقُوَى تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهَا آثَارًا لِقُدْرَتِهِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، فَإِذَا أَزَالَ اللَّهُ الْحِجَابَ الْمُعْتَادَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْقُوَى الْمُؤَثِّرَةِ تَأْثِيرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ اتَّصَلَتِ الْقُوَّةُ بِالْجِسْمِ اتِّصَالًا تَظْهَرُ لَهُ آثَارٌ مُنَاسِبَةٌ لِنَوْعِ تِلْكَ الْقُوَّةِ، فَتِلْكَ الْإِزَالَةُ هِيَ الَّتِي اسْتُعِيرَ لَهَا التَّجَلِّي الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، فَلَمَّا اتَّصَلَتْ قُوَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ بِالْجَبَلِ تُمَاثِلُ اتِّصَالَ الرُّؤْيَةِ انْدَكَّ الْجَبَلُ، وَمِمَّا يُقَرِّبُ هَذَا الْمَعْنَى، مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ فَوَضَعَ إِبْهَامَهُ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِ خِنْصَرِهِ يُقَلِّلُ مِقْدَارَ التَّجَلِّي.
وَصَعِقَ مُوسَى مِنَ انْدِكَاكِ الْجَبَلِ فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ التَّجَلِّي إِلَيْهِ لَانْتَثَرَ جِسْمُهُ فُضَاضًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دَكًّا- بِالتَّنْوِينِ- وَالدَّكُّ مَصْدَرٌ وَهُوَ وَالدَّقُّ مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ الْهَدُّ
وَتَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ كَقَوْلِهِ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: ٩٠]، وَقَدْ أُخْبِرَ عَنِ الْجَبَلِ بِأَنَّهُ جُعِلَ دَكًّا لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَدْكُوكٌ أَيْ: مَدْقُوقٌ مَهْدُومٌ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ دَكَّاءَ- بِمَدٍّ بَعْدَ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ- وَالدَّكَّاءُ النَّاقَةُ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْ كَالدَّكَّاءِ أَيْ ذَهَبَتْ قُنَّتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي انْدَكَّ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ وَلَعَلَّ آثَارَ ذَلِكَ الدَّكِّ ظَاهِرَةٌ فِيهِ إِلَى الْآنِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ وَلَايَةَ الْأَرْحَامِ هُنَا هَلْ تَشْمَلُ وَلَايَةَ الْمِيرَاثِ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ أَيْ فَهِيَ وَلَايَةُ النَّصْرِ وَحُسْنُ الصُّحْبَة، أَي فنقصر عَلَى مَوْرِدِهَا وَلَمْ يَرَهَا مُسَاوِيَةً لِلْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ إِذْ لَيْسَتْ صِيغَتُهَا صِيغَةَ عُمُومٍ، لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ قَوْلُهُ: أَوْلى بِبَعْضٍ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ تَشْمَلُ وَلَايَةَ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْوَلَايَةُ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَبَطَلَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»
فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ غُمُوضًا جَعَلَهَا مَرَامِيَ لِمُخْتَلَفِ الْأَفْهَامِ وَالْأَقْوَالِ. وَأَيًّا مَا كَانَتْ فَقَدْ
جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا أَغْنَى عَنْ زِيَادَةِ الْبَسْطِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ هُوَ مُؤْذِنٌ بِالتَّعْلِيلِ لِتَقْرِيرِ أَوْلَوِيَّةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِيمَا فِيهِ اعْتِدَادٌ بِالْوَلَايَةِ، أَيْ إِنَّمَا اعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْوَلَايَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ لِآصِرَةِ الرَّحِمِ حَقًّا فِي الْوَلَايَةِ هُوَ ثَابِتٌ مَا لَمْ يُمَانِعْهُ مَانِعٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَهَذَا الْحُكْمُ مِمَّا عَلِمَ، اللَّهُ أَنَّ إِثْبَاتَهُ رِفْقٌ ورأفة بالأمّة.
الْأُسْلُوبُ فِي ذِكْرِ جَزَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَجَاءَ صَرِيحًا بِمَا يَعُمُّ أَحْوَالَ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ:
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَنْعَام: ٧٠]. وَخُصَّ الشَّرَابُ مِنَ الْحَمِيمِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَنَّهُ أَكْرَهُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فِي مَأْلُوفِ النُّفُوسِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٠]. وَالْبَاءُ فِي قَوْله:
وشراب الْحَمِيم تقدم فِي قَوْله تَعَالَى: بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلْعِوَضِ.
وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ ذِكْرُ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُ الْعِلَّةُ لِرُجُوعِ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْعِلَّةِ مَا هُوَ جَزَاءُ الْجَمِيعِ لَا جَرَمَ يَتَشَوَّفُ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ فَجَاءَ الِاسْتِئْنَافُ لِلْإِعْلَامِ بِذَلِكَ.
وَنُكْتَةُ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ حَيْثُ لَمْ يُعْطَفْ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ عَلَى جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُقَالُ:
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ إِلَخْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [الْكَهْف: ٢] هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِجَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَأَنَّهُ الَّذِي يُبَادِرُ بِالْإِعْلَامِ بِهِ وَأَنَّ جَزَاءَ الْكَافِرِينَ جَدِيرٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِهِ لَوْلَا سُؤال السامعين.
[٥]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٥]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَيْضًا، فَضَمِيرُ (هُوَ) عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ [يُونُس: ٣]. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ مَمْزُوجٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْمَحْجُوجِينَ بِهِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّابِقَ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِعَظِيمِ أَمْرِ الْخَلْقِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِذِكْرِ أَشْيَاءَ لَيْسَ لِلْمُخَاطَبِينَ حَظٌّ فِي التَّمَتُّعِ بِهَا. وَهَذَا الدَّلِيلُ قَدْ تَضَمَّنَ أَشْيَاءَ يَأْخُذُ الْمُخَاطَبُونَ بِحَظٍّ عَظِيمٍ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا وَهُوَ خَلْقُ الشَّمْسِ
وَعَطْفُ وَلا قَوْمُكَ مِنَ التَّرَقِّي، لِأَنَّ فِي قَوْمِهِ مَنْ خَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ كَانَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَثِيرًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِمَّا إِلَى الْقُرْآنِ، وَإِمَّا إِلَى الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَمْثَالِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا، وَإِمَّا إِلَى تِلْكَ بِتَأْوِيلِ النَّبَأِ، فَيَكُونُ التَّذْكِيرُ بَعْدَ التَّأْنِيثِ شَبِيهًا بِالِالْتِفَاتِ.
وَوَجْهُ تَفْرِيعِ أَمْرِ الرَّسُولِ بِالصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ فِيهَا قِيَاسَ حَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى حَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ، فَكَمَا صَبَرَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُ كَذَلِكَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ. وَخَبَرُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُسْتَفَادٌ مِمَّا حُكِيَ مِنْ مُقَاوَمَةِ قَوْمِهِ وَمِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّبَاتَ مَعَ تِلْكَ الْمُقَاوَمَةِ مِنْ مُسَمَّى الصَّبْرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ عِلَّةٌ لِلصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيِ اصْبِرْ لِأَنَّ دَاعِيَ الصَّبْرِ قَائِمٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ تَكُونُ لِلْمُتَّقِينَ، فَسَتَكُونُ لَكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ.
وَالْعَاقِبَةُ: الْحَالَةُ الَّتِي تَعْقُبُ حَالَةً أُخْرَى. وَقَدْ شَاعَتْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: ١٣٢].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعاقِبَةُ لِلْجِنْسِ.
وَاللَّامُ فِي لِلْمُتَّقِينَ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْمِلْكِ، فَيَقْتَضِي مِلْكَ الْمُتَّقِينَ لِجِنْسِ الْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ لَهُمْ لَا تَفُوتُهُمْ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَن أضدادهم.
استهزأوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَرَّضُوا لِسُؤَالِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يُعَجَّلْ لَهُمْ حُلُولُهُ اعْتَرَتْهُمْ ضَرَاوَةٌ بِالتَّكْذِيبِ وَحَسِبُوا تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَجْزًا مِنَ المتوعد وكذبوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبَادَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَغْفِرَةِ الْمُوَقَّتَةِ، وَهِيَ التَّجَاوُزُ عَنْ ضَرَاوَةِ تَكْذِيبِهِمْ وَتَأْخِيرُ الْعَذَابِ إِلَى أَجَلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سُورَة النَّحْل: ٣٤].
وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥]، أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ قُرَيْشٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُطْعِمُهُمْ مِنْ جُوعٍ.
وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى ظُلْمِهِمْ بِمَعْنَى مَعَ.
وَسِيَاق الْآيَة يدل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْفِرَةِ هُنَا التَّجَاوُزُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعِقَابِ لَهُمْ إِلَى أَجَلٍ أَرَادَهُ اللَّهُ أَوْ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَابِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ضِدُّ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْعِقَابُ الْمُؤَجَّلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ عِقَابُ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَمَحْمَلُ الظُّلْمِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الشِّرْكِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الظُّلْمُ عَلَى ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَإِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سُورَة النِّسَاء: ١٦٠] فَلَا تَعَارُضَ أَصْلًا بَيْنَ هَذَا الْمَحْمَلِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨] كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْعِلَاوَةِ إِظْهَارُ شِدَّةِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
[فاطر:
٤٥].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٦- سُورَةُ النَّحْلِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ السَّلَفِ سُورَةُ النَّحْلِ، وَهُوَ اسْمُهَا الْمَشْهُورُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ النَّحْلِ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى.
وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمِ- أَيْ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ-. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
لِمَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ عَلَى عِبَادِهِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [سُورَة النَّحْل: ١٢٦] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَسْخِ عَزْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يُمَثِّلَ بِسَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ مُكَافَأَةً عَلَى تَمْثِيلِهِمْ بِحَمْزَةَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَوَّلَهَا مَكِّيٌّ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [سُورَة النَّحْل: ٤١] فَهُوَ مَدَنِيٌّ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ [سُورَة النَّحْل: ٧٩] مَا يُرَجِّحُ أَنَّ بَعْضَ السُّورَةِ مَكِّيٌّ وَبَعْضَهَا مَدَنِيٌّ، وَبَعْضَهَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَتَعْيِينُ الْحَقِّ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَهُوَ مَا سَيُذْكَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ هَذَا: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً الْآيَةَ.
وَحِين كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَلِطِينَ فِي مَكَّةَ بِالْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ أَهْلًا لِلثِّقَةِ بِهِمْ فِي الطَّاعَةِ لِلشَّرَائِعِ الْعَادِلَةِ، وَكَانَ قَدْ يَعْرِضُ أَنْ يَعْتَدِيَ أَحَدُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَتْلِ ظُلْمًا أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ، فَقَالَ:
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أَيْ قَدْ جَعَلَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ تَصَرُّفًا فِي الْقَاتِلِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ.
وَالسُّلْطَانُ: مَصْدَرٌ مِنَ السُّلْطَةِ كَالْغُفْرَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا اسْتَقَرَّ فِي عَوَائِدِهِمْ مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ.
وَكَوْنُهُ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ بِهِ أَوْ يَعْفُو أَوْ يَأْخُذُ الدِّيَةَ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَنْزُوا أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْ ذَوِيهِ لِيَقْتُلُوا مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَجْنِ يَدَاهُ قَتْلًا. وَهَكَذَا تَسْتَمِرُّ التِّرَاتُ بَيْنَ أَخْذٍ وَرَدٍّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ أَيْضًا.
فَالْمُرَادُ بِالْجَعْلِ مَا أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَادَةِ الْقَوَدِ.
وَالْقَوَدُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، لِأَنَّ الْقَوَدَ مِنَ الْقَاتِلِ الظَّالِمِ هُوَ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ بِالْحَقِّ. وَهَذِهِ حَالَةٌ خَصَّهَا اللَّهُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْعُدْوَانِ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِقَبُولِ الْقَوَدِ. وَهَذَا مَبْدَأُ صَلَاحٍ عَظِيمٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَهُوَ حَمْلُ أَهْلِهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْفَسَادُ مِنْ طَرَفَيْنِ فَيَتَفَاقَمُ أَمْرُهُ، وَتِلْكَ عَادَةٌ جَاهِلِيَّةٌ. قَالَ الشَّمَيْذَرُ الْحَارِثِيُّ:
فَلَسْنَا كَمَنْ كُنْتُمْ تُصِيبُونَ سَلَّةً فَنَقْبَلُ ضَيْمًا أَوْ نُحَكِّمُ قَاضِيَا

وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ صَمْتًا بِدُونِ نَذْرٍ وَلَا قَصْدِ عِبَادَةٍ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا إِلَّا إِذَا بَلَغَ إِلَى حَدِّ الْمَشَقَّةِ الْمُضْنِيَةِ.
وَقَدْ بَقِيَ عِنْدَ النَّصَارَى اعْتِبَارُ الصَّمْتِ عِبَادَةً وَهُمْ يَجْعَلُونَهُ تَرَحُّمًا عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَقِفُوا صَامِتِينَ هُنَيْهَةً.
وَمَعْنَى فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَانْذُرِي صَوْمًا وَإِنْ لَقِيتِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ صَوْمًا فَحُذِفَتْ جُمْلَةٌ لِلْقَرِينَةِ. وَقَدْ جُعِلَ الْقَوْلُ الْمُتَضَمِّنُ إِخْبَارًا بِالنَّذْرِ عِبَارَةً عَنْ إِيقَاعِ النَّذْرِ وَعَنِ الْإِخْبَارِ بِهِ كِنَايَةً عَنْ إِيقَاعِ النَّذْرِ لِتَلَازُمِهِمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخَبَرِ الصِّدْقُ وَالْمُطَابَقَةُ لِلْوَاقِعِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٣٦]. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ وَلَا تَفْعَلُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْذَنُ فِي الْكَذِبِ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ مَعَ عَدَمِ تَأَتِّي الصِّدْقِ مَعَهَا، وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ»
. وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَالْمُرَادُ أَنْ تُؤَدِّيَ ذَلِكَ بِإِشَارَةٍ إِلَى أَنَّهَا نَذَرَتْ صَوْمًا بِأَنْ تُشِيرَ إِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْأَكْلِ، وَإِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِي شَرْعِهِمْ مَشْرُوطًا بِتَرْكِ الْكَلَامِ كَمَا قِيلَ فَالْإِشَارَةُ الْوَاحِدَةُ كَافِيَة، وَإِن كَانَ الصَّوْمِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَدْ يَأْتِي بِهَا الصَّائِمُ مَعَ تَرْكِ الْكَلَامِ تُشِيرُ إِشَارَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا نَذَرَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي كَلَّمَهَا هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهَا حِينَ تُسْأَلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ [مَرْيَم: ٢٩].
إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيِ الرُّشْدُ الَّذِي أُرْشِدَهُ. وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا الرُّشْدِ، أَيْ رُشْدًا يَلِيقُ بِهِ وَلِأَنَّ رُشْدَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ كَانَ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ هُوَ الَّذِي عَلِمْتُمْ سُمْعَتَهُ الَّتِي طَبَّقَتِ الْخَافِقَيْنِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرُشْدٍ أُوتِيَهُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ لَمَّا كَانَتْ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلِاخْتِصَاصِ فَكَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِالْهُدَى بَيْنَ قَوْمِهِ.
وَزَادَهُ تَنْوِيهًا وَتَفْخِيمًا تَذْيِيلُهُ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَيْ آتَيْنَاهُ رُشْدًا عَظِيمًا عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِإِبْرَاهِيمَ، أَيْ بِكَوْنِهِ أَهْلًا لِذَلِكَ الرُّشْدِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْسِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَحَلَّ ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ قُرْآنِهِ، أَيْ عَلِمَ مِنْ سَرِيرَتِهِ صِفَاتٍ قَدْ رَضِيَهَا وَأَحْمَدَهَا فَاسْتَأْهَلَ بِهَا اتِّخَاذَهُ خَلِيلًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ [الدُّخان: ٣٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤].
وَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ أَي من قَبْلُ أَنْ نُوتِيَ مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا. وَوَجْهُ ذكر هَذِه الْقبلية التَّنْبِيه على أَنه مَا وَقَعَ إِيتَاءُ الذِّكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَّا لِأَنَّ شَرِيعَتَهُمَا لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً مَدْرُوسَةً.
وإِذْ قالَ ظَرْفٌ لِفِعْلِ آتَيْنا أَيْ كَانَ إِيتَاؤُهُ الرُّشْدَ حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ إِلَخْ، فَذَلِكَ هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيَهُ، أَي حِين نزُول الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَلِكَ أول مَا بدىء بِهِ من الْوَحْيُ.
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مِنَ (الْكَلْدَانِ) وَكَانَ يَسْكُنُ بَلَدًا يُقَالُ لَهُ (كَوْثَى) بِمُثَلَّثَةٍ فِي آخِرِهِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ فِي التَّوْرَاةِ (أُورَ الْكَلْدَانِ)، وَيُقَالُ: أَيْضًا إِنَّهَا (أُورْفَةُ) فِي (الرُّهَا)،
الْمُتَّفِقُ، وَأَكْثَرُهَا مُخْتَلِفٌ، وَأَكْثَرُ اتِّفَاقِ أَهْوَائِهِمْ حَاصِلٌ بِالشِّرْكِ، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ مُوَافِقًا لِمَزَاعِمِهِمْ لَاخْتَلَّتْ أُصُولُ انْتِظَامِ الْعَوَالِمِ.
فَإِنَّ مَبْدَأَ الْحَقَائِقِ هُوَ حَقِيقَةُ الْخَالِقِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ هِيَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لَفَسَدَتِ الْعَوَالِمُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَذَلِكَ أَصْلُ الْحَقِّ وَقِوَامُهُ وَانْتِقَاضُهُ انْتِقَاض لنظام السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١] الْآيَةَ، فَمِنْ هَوَاهُمُ الْبَاطِلِ أَنْ جَعَلُوا مِنْ كَمَالِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.
ثُمَّ نَنْتَقِلُ بِالْبَحْثِ إِلَى بَقِيَّةِ حَقَائِقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَقِّ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ نَقِيضَ ذَلِكَ لَتَسَرَّبَ الْفساد إِلَى السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ. فَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ لَكَانَ الثَّابِتُ أَنْ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ فَلَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ خَيْرًا إِذْ لَا رَجَاءَ فِي ثَوَابٍ. وَلَمْ يَتْرُكْ أحد شرا إِلَّا إِذْ لَا خَوْفَ مِنْ عِقَابٍ فَيَغْمُرُ الشَّرُّ الْخَيْرَ وَالْبَاطِلُ الْحَقَّ وَذَلِكَ فَسَادٌ لمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥].
وَكَذَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ حُسْنَ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَاطِلُ قُبْحَ الْعَدْلِ لَارْتَمَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْإِهْلَاكِ جُهْدَ الْمُسْتَطَاعِ فَهَلَكَ الضَّرْعُ وَالزَّرْعُ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥]، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي أَهْوَائِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ. وَيَزِيدُ أَمْرُهَا فَسَادًا بِأَنْ يَتَّبِعَ الْحَقُّ كُلَّ سَاعَةٍ هَوًى مُخَالِفًا لِلْهَوَى الَّذِي اتَّبَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَقِرُّ نِظَامٌ وَلَا قَانُونٌ.
وَهَذَا الْمَعْنَى نَاظِرٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدُّخان: ٣٨، ٣٩].

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٣]

لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
حُوِّلَ الْخِطَابُ مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْمُعَانِدِينَ إِلَى تَوْجِيهِهِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يُثِيرُهُ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء:
٢] مِنْ تَسَاؤُلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ عَنِ اسْتِمْرَارِ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦]، وَقَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨].
وَ (لَعَلَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي تَرَجِّي الشَّيْءِ الْمَخُوفِ سُمِّيَتْ إِشْفَاقًا وَتَوَقُّعًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ التَّرَجِّيَ مِنْ قَبِيلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ مِثْلِ التَّمَنِّي.
وَالتَّرَجِّي مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَثٌّ عَلَى تَرْكِ الْأَسَفِ مِنْ ضَلَالِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ تَمْثِيلِ شَأْنِ الْمُتَكَلِّمِ الْحَاثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ بِحَالِ مَنْ يَسْتَقْرِبُ حُصُولَ هَلَاكِ الْمُخَاطَبِ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ.
وَالْبَاخِعُ: الْقَاتِلُ. وَحَقِيقَةُ الْبَخْعِ إِعْمَاقُ الذَّبْحِ. يُقَالُ: بَخَعَ الشَّاةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِذَا بَلَغَ بِالسِّكِّينِ الْبِخَاعَ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ الْفَقَارَ، كَذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي «الْفَائِقِ». وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦]. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَوْتِ السَّرِيعِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ باخِعٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَفِي باخِعٌ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ هُوَ الْفَاعِلُ.
وأَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ بَعْدَ (أَنْ) وَالْخَافِضُ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، أَيْ لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ (أَنْ) تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَمَّكَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِيمَا مَضَى يُوشِكُ أَنْ يُوقِعَكَ فِي الْهَلَاكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِتَكَرُّرِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ، كَقَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ لَمَّا قَالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٤] فَقَالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ [يُوسُف: ٨٥] فَوِزَانُ هَذَا الْمَعْنَى وِزَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، فَإِنَّ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ
يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ اسْمِ الشَّرْطِ فَيَقْتَرِنُ خَبَرُهُ وَمُتَعَلِّقُهُ بِالْفَاءِ تَشْبِيهًا لَهُ بِجَزَاءِ الشَّرْطِ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْمَوْصُولُ مَجْرُورًا مُقَدَّمًا فَإِنَّ الْمَجْرُورَ الْمُقَدَّمَ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ (كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ)
بِجَزْمِ (تَكُونُوا) وَإِعْطَائِهِ جَوَابًا مَجْزُومًا.
وَالظَّهِيرُ: النَّصِيرُ.
وَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّظْمُ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ عَدَمَ مُظَاهَرَتِهِ لِلْمُجْرِمِينَ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ بِأَنْ جَعَلَ شُكْرَ تِلْكَ النِّعْمَةِ الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ وَتَغْيِيرَ الْبَاطِلِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُغَيِّرِ الْبَاطِلَ وَالْمُنْكَرَ وَأَقَرَّهُمَا فَقَدْ صَانَعَ فَاعِلَهُمَا، وَالْمُصَانَعَةُ مُظَاهَرَةٌ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ فَوَجَدَ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَصْرَخَهُ فِي أَمْسِهِ يَسْتَصْرِخُهُ عَلَى قِبْطِيٍّ آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالْقِبْطِيِّ وَفَاءً بِوَعْدِهِ رَبَّهُ إِذْ قَالَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ الْقِبْطِيَّ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّ مُوَحِّدٌ.
وَقَدْ جَعَلَ جُمْهُورٌ مِنَ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى مَنْعِ إِعَانَةِ أَهْلِ الْجَوْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ. وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ حَكَاهَا عَنْ مُوسَى فِي مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ القَوْل الْحق.
[١٨، ١٩]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
أَيْ أَصْبَحَ خَائِفًا مِنْ أَنْ يُطَالب بِدَم القبطي الَّذِي قَتَلَهُ وَهُوَ يَتَرَقَّبُ، أَيْ يُرَاقِبُ مَا يُقَالُ فِي شَأْنِهِ لِيَكُونَ مُتَحَفِّزًا لِلِاخْتِفَاءِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ خَبَرَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ لَمْ يَفْشُ أَمْرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ تَخْلُو فِيهِ أَزِقَّةُ الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُوسَى يَتَرَقَّبُ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْقِبْطِيِّ الْمَقْتُولِ.
وَ (إِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ، أَيْ فَفَاجَأَهُ أَنَّ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَنْصِرُهُ الْيَوْمَ.
فِي تفاريعهما.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ- أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ- وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَجَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا»
الْحَدِيثَ (١).
وَجُمْلَةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ مبيّنة لِمَعْنى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى حَالٍ ثَالِثَةٍ مِنَ الدِّينُ عَلَى تَقْدِيرِ رَابِطٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فِيهِ، أَيْ فِي هَذَا الدِّينِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ فِي قَوْلِ الرَّابِعَةِ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ أَيْ فِي ذَلِكَ اللَّيْلِ.
فَمَعْنَى لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَنَّهُ الدِّينُ الْحَنِيفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَبْدِيلٌ لِخَلْقِ اللَّهِ خِلَافَ دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ، قَالَ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاء:
١١٩]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ مُعْتَرِضَةً لِإِفَادَةِ النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا أَوْدَعَهُ الْفِطْرَةَ. فَتَكُونُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ كَقَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩]. فَنَفْيُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ جِنْسٌ مِنَ التَّبْدِيلِ خَاصٌّ بِالْوَصْفِ لَا نَفْيَ وُقُوعِ جِنْسِ التَّبْدِيلِ فَهُوَ مِنَ الْعَامِ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ
بِالْقَرِينَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ هَذَا الدِّينِ مَعَ تَعْظِيمِهِ.
والْقَيِّمُ: وَصْفٌ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ مِثْلَ هَيِّنٍ وَلَيِّنٍ يُفِيدُ قُوَّةَ الِاتِّصَافِ بِمَصْدَرِهِ، أَيِ الْبَالِغُ قُوَّةَ الْقِيَامِ مِثْلَ اسْتَقَامَ الَّذِي هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي قَامَ كَاسْتَجَابَ.
وَالْقِيَامُ: حَقِيقَتُهُ الِانْتِصَابُ ضِدَّ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى انْتِفَاءِ الِاعْوِجَاجِ يُقَالُ: عُودٌ مُسْتَقِيمٌ وَقَيِّمٌ، فَإِطْلَاقُ الْقَيِّمِ عَلَى الدِّينِ تَشْبِيهُ انْتِفَاءِ الْخَطَأِ عَنْهُ بِاسْتِقَامَةِ الْعُودِ وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف: ١، ٢] وَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ
_________
(١) أخرجه مُسلم فِي صفة أهل الْجنَّة من كتاب «الْجنَّة وَالنَّار». وَهُوَ حَدِيث طَوِيل.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَذَى: قَوْلٌ يُقَالُ لَهُ، أَوْ فِعْلٌ يُعَامَلُ بِهِ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُغْضِبَهُ أَوْ يَسُوءُهُ لِذَاتِهِ.
وَالْأَذَى تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَاتِ آنِفًا. وَالْمَعْنَى: أَن أَذَى النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَحْظُورٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَانْظُرِ الْبَابَ الثَّالِثَ مِنَ الْقَسْمِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ «الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: تَحْرِيمُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاس بقوله تَعَالَى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِحُكْمِ أُمُومَةِ أَزْوَاجِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ السَّالِفِ فِي قَوْلِهِ:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: ٦].
وَقَدْ حُكِيَتْ أَقْوَالٌ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ تَزَوَّجْتُ عَائِشَة، أَي قَالَه بِمَسْمَعٍ مِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْهُ فَقِيلَ: هَذَا الرَّجُلُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهَذَا هُوَ الْمَظْنُونُ بِقَائِلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَي خطر لَهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَذَكَرُوا رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ هَفْوَةٌ مِنْهُ وَتَابَ وَكَفَّرَ بِالْحَجِّ مَاشِيًا وَبِإِعْتَاقِ رِقَابٍ كَثِيرَةٍ وَحَمَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى عَشَرَةِ أَفْرَاسٍ أَوْ أَبْعِرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَلَى طَلْحَةَ وَاللَّهُ عَاصِمُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنْهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ أَرَادَ تَطْهِيرَ قَلْبَهُ فِيهِ بِالْكَفَّارَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ مَوْضُوعَاتِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَاهِيَةُ الْأَسَانِيدِ وَدَلَائِلُ الْوَضْعِ وَاضِحَةٌ فَإِنَّ طَلْحَةَ إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ لِيَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَتَفَرَّدُ بِرِوَايَتِهِ مَنِ انْفَرَدَ. وَإِنْ كَانَ خَطَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى مَا
فِي قَلْبِهِ، وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ أَنْ يَكُونَ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبٌ. فَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ هَذِهِ الْآيَاتِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْأَحْزَاب: ٦٠] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا شَرَعَتِ الْآيَةُ أَنَّ حُكْمَ أمومة أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ حُكْمٌ دَائِمٌ فِي حَيَاة النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ مِنْ بَعْدِهِ وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ مِنْ بَعْدُ،
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً [الْجِنّ: ٨].
وَالْعَذَابُ الْوَاصِبُ: الدَّائِمُ يُقَالُ: وَصَبَ يَصِبُ وُصُوبَا، إِذَا دَامَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطْرَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُحَقَّرُونَ وَلَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الشَّيَاطِين للنار فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٨]، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَذَابَ الْقَذْفِ وَأَنَّهُ وَاصِبٌ، أَيْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ كُلَّمَا حَاوَلُوا الِاسْتِرَاقَ لِأَنَّهُمْ مجبولون على محاولته.
وَجُمْلَةُ وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهِيَ جُمْلَةُ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ.
ومَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ مُسْتَثْنًى مِنْ ضَمِيرِ لَا يَسَّمَّعُونَ فَهُوَ فِي مَحل رفع على الْبَدَلِيَّةِ مِنْهُ.
وَالْخَطْفُ: ابْتِدَارُ تَنَاوُلِ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ، والْخَطْفَةَ الْمَرَّةُ مِنْهُ. فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ خَطِفَ لِبَيَانِ عَدَدِ مَرَّاتِ الْمَصْدَرِ، أَيْ خَطْفَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِسْرَاعِ بِسَمْعِ مَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَهُ مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ تَامٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠].
وَ «أَتْبَعَهُ» بِمَعْنَى تَبِعَهُ فَهَمْزَتُهُ لَا تُفِيدُهُ تَعْدِيَةً، وَهِيَ كَهَمْزَةِ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ.
وَالشِّهَابُ: الْقَبَسُ وَالْجَمْرُ مِنَ النَّارِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يُسَمَّى بِالنَّيْزَكِ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٨].
وَالثَّاقِبُ: الْخَارِقُ، أَيِ الَّذِي يَتْرُكُ ثُقْبًا فِي الْجِسْمِ الَّذِي يُصِيبُهُ، أَيْ ثَاقِبٌ لَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشِّهَابُ لَا يَقْتُلُ الشَّيْطَانَ الَّذِي يُصِيبُهُ وَلَكِنَّهُ يَحْتَرِقُ وَيَخْبِلُ، أَيْ يُفْسِدُ قِوَامَهُ فَتَزُولُ خَصَائِصُهُ، فَإِنْ لَمْ يَضْمَحِلَّ فَإِنَّهُ يُصْبِحُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مُحَاوَلَةِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مَرَّةً أُخْرَى، أَيْ إِلَّا مَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الدُّنُوِّ إِلَى مَحَلٍّ يَسْمَعُ فِيهِ كَلِمَاتٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَيُرْدَفُ بِشِهَابٍ يَثْقُبُهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ صَدَرَ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ مَا بَعْدَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ فِي سُورَة الشُّعَرَاء [٢١٠، ٢١١].
وَالْمَعْنَى دُعَاءٌ بِأَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَهُمْ فِي مَسَاكِنَ مُتَقَارِبَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ فِي سُورَةِ يس [٥٦]، وَقَوْلِهِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٢١].
وَرُتِّبَتِ الْقَرَابَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِهَا الطَّبِيعِيِّ فَإِنَّ الْآبَاءَ أَسْبَقُ عَلَاقَةً بِالْأَبْنَاءِ ثُمَّ الْأَزْوَاجَ ثُمَّ الذُّرِّيَّاتِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الدَّعَوَاتِ اسْتِقْصَاءً لِلرَّغْبَةِ فِي الْإِجَابَةِ بِدَاعِي مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ لِمَا بَيْنَ نُفُوسِهِمْ وَالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَاقْتِرَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا. وَ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ فَعِزَّتُكَ وَحِكْمَتُكَ هُمَا اللَّتَانِ جَرَّأَتَانَا عَلَى سُؤَالِ ذَلِكَ مِنْ جَلَالِكَ، فَالْعِزَّةُ تَقْتَضِي الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ فَلَمَّا وَعَدَ الصَّالِحِينَ الْجَنَّةَ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَا يَضِنُّهُ بِذَلِكَ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَطْلٌ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي مُعَامَلَةَ الْمُحْسِنِ بِالْإِحْسَانِ.
وَأَعْقَبُوا بِسُؤَالِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمَ بِدَارِ الثَّوَابِ بِدُعَاءٍ بِالسَّلَامَةِ مِنْ عُمُومِ كُلِّ مَا يَسُوءُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِمْ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَهُوَ دُعَاءٌ جَامِعٌ إِذِ السَّيِّئَاتُ هُنَا جَمْعُ سَيِّئَةٍ وَهِيَ الْحَالَةُ أَوْ الْفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا [غَافِر: ٤٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ
[الْأَعْرَاف: ١٣١] صِيغَتْ عَلَى وَزْنِ فَيْعَلَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قِيَامِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ مِثْلَ قَيِّمٍ وَسَيِّدٍ وَصَيْقَلٍ، فَالْمَعْنَى: وَقِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُهُمْ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي السَّيِّئاتِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ مَا هُوَ كَالنَّفْيِ وَهُوَ فِعْلُ الْوِقَايَةِ يُفِيدُ عُمُومَ الْجِنْسِ، عَلَى أَنَّ بِسَاطَ الدُّعَاءِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْجِنْسِ وَلَوْ بِدُونِ لَامِ نَفْيٍ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيُّ:
يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وقيتم ضرا و
وَالرِّضَا وَالْفَوْزِ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ.
وَرُبَّمَا خَصَّهُمْ بِمَا أَرَادَ تَخْصِيصَهُمْ بِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ.
وَالْبَغْيُ: الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ، أَيْ لَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْغِنَى مَظِنَّةُ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ
إِذَا صَادَفَ نَفْسًا خَبِيثَةً، قَالَ بَعْضُ بَنِي جرم من طَيء مِنْ شُعَرَاءِ الحماسة:
وَلَكِنَّ حُكْمَ السَّيْفِ فِينَا مُسَلَّطٌ فَنَرْضَى إِذَا مَا أَصْبَحَ السَّيْفُ رَاضِيَاِ
إِذا أخصبتموا كُنْتُمْ عَدُوًّا وَإِنْ أَجْدَبْتُمُو كُنْتُمْ عِيَالًا
وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» :
وَقَدْ جَعَلَ الْوَسْمِيُّ يُنْبِتُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي رُومَانَ نَبْعًا وَشَوْحَطًا (١)
فَأَمَّا الْفَقْرُ فَقَلَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْبَغْيِ إِلَّا بَغْيًا مَشُوبًا بِمَخَافَةٍ كَبَغْيِ الْجَائِعِ بِالِافْتِكَاكِ بِالْعُنْفِ فَذَلِكَ لِنُدْرَتِهِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ لِبَيَانِ حِكْمَةِ كَوْنِ الرِّزْقِ بِقَدَرٍ لَا لِبَيَانِ حِكْمَةٍ فِي الْفَقْرِ.
فَالتَّلَازُمُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا حَاصِلٌ بِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ هَذَا السَّبَبِ قَدْ يَخْلُفُهُ ضِدُّهُ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ بَيْنَ بَسْطِ الرِّزْقِ وَبَيْنَ الْفَقْرِ مَرَاتِبَ أُخْرَى مِنَ الْكَفَافِ وَضِيقِ الرِّزْقِ وَالْخَصَاصَةِ، وَالْفَقْرِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا إِشْكَالَ فِي التَّعْلِيلِ. وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ «فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا فَنَزَلَتْ»، وَهَذَا مِمَّا حَمَلَ قَوْمًا عَلَى ظَنِّ هَذِهِ الْآيَةِ مَدَنِيَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْ خَبَّابٍ فَهُوَ تَأْوِيلٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَخَبَّابٌ أَنْصَارِيٌّ فَلَعَلَّهُ سَمِعَ تَمْثِيلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ. وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ تَمَنَّوْا سَعَةَ الرِّزْقِ فَنَزَلَتْ، وَهَذَا خَبَرٌ ضَعِيفٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ جَعَلَ اللَّهُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي بَسْطَةٍ مِنَ الرِّزْقِ لَاخْتَلَّ نِظَامُ حَيَاتِهِمْ بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بعض لِأَن بَعضهم الْأَغْنِيَاءَ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْبَغْيِ لِتَوَفُّرِ
_________
(١) رُومَان برَاء مَضْمُومَة: اسْم رجل.
كَقَوْلِهِمْ: لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: ١١] وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين: ٣٢] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠].
وَالْمُرَادُ بِالْمَوْصُولَيْنِ فَرِيقَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَحَدِهِمَا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
وَالْبَيِّنَةُ: الْبُرْهَانُ وَالْحُجَّةُ، أَيْ حُجَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مُحِقٌّ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِوَصْفِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْفَرِيقِ تَنْبِيهٌ عَلَى زُلْفَى الْفَرِيقِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِحُجَّةِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى وَصْفِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا وَحَرَّكَ أَذْهَانَهُمْ فَامْتَثَلُوا وَأَدْرَكُوا الْحَقَّ، فَالْحُجَّةُ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَزْكِيَةٌ لَهَا وَكَشْفٌ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا وَإِتْمَامٌ لِدَلَالَتِهَا، كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ مُتَضَلِّعٍ فِيهِ وَأَخْذِهِ عَنْ مُسْتَضْعَفٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَهَذَا الْفَرِيقُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الدِّينِ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ. فَلَا جَرَمَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَوْزُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَهُ فَإِنْ قَاتَلُوا كَانُوا عَلَى ثِقَةٍ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ فَقَوِيَتْ شَجَاعَتُهُمْ، وَإِنْ سَالَمُوا عُنُوا بِتَدْبِيرِ شَأْنِهِ وَمَا فِيهِ نَفْعُ الْأُمَّةِ وَالدِّينِ فَلَمْ يَأْلَوْا جُهْدًا فِي حُسْنِ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ أَنَّ اللَّهَ أَصْلَحَ بَالَهُمْ وهداهم. والفريق الَّذين زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي أَحْوَالِ السُّوأَى مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، فَلَمَّا نَبَّهَهُمُ اللَّهُ لِفَسَادِ أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بَيَّنَ لَهُمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئَاتِهَا لَمْ يُدْرِكُوا ذَلِكَ وَرَأَوْا فَسَادَهُمْ صَلَاحًا فَتَزَيَّنَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي أَنْظَارِهِمْ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْإِقْلَاعَ عَنْهَا وَغَلَبَ الْفَهْمُ وَهَوَاهُمْ عَلَى رَأْيهمْ فَلم يعبأوا بِاتِّبَاعِ مَا هُوَ صَلَاحٌ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بِإِيجَازٍ.
وَبُنِيَ فِعْلُ زُيِّنَ لِلْمَجْهُولِ لِيَشْمَلَ الْمُزَيِّنِينَ لَهُمْ مِنْ أَيِمَّةِ كُفْرِهِمْ، وَمَا سَوَّلَتْهُ لَهُمْ أَيْضًا عُقُولُهُمُ الْآفِنَةُ مِنْ أَفْعَالِهِمُ السَّيِّئَةِ اغْتِرَارًا بِالْإِلْفِ أَوِ اتِّبَاعًا لِلَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ
وَالسِّحْرُ ضَلَالٌ وَغَوَايَةٌ، وَالشِّعْرُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنِهِمْ غِوَايَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٢٤] أَيْ يُحَبِّذُونَ أَقْوَالَهُمْ لِأَنَّهَا غِوَايَةٌ.
وَعُطِفَ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وَهَذَا وَصْفُ كَمَالٍ لِذَاتِهِ. وَالْكَلَامُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: ٤] وَقَالُوا:
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: ٥] وَذَلِكَ وَنَحْوُهُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ اخْتِرَاعُهُ أَوِ اخْتِيَارُهُ عَنْ مَحَبَّةٍ لِمَا يَخْتَرِعُ وَمَا يَخْتَارُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، فَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً، وَمِنْهُ حِكَايَةَ وَاقِعَاتٍ، وَمِنْهُ تَخَيُّلَاتٍ ومفتريات. وَكله ناشىء عَنْ مَحَبَّةِ الشَّاعِرِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فَأَرَاهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقُرْآنَ دَاعٍ إِلَى الْخَيْرِ.
وَ (مَا) نَافِيَةٌ نَفَتْ أَنْ يَنْطِقَ عَنِ الْهَوَى.
وَالْهَوَى: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُحِبُّهُ أَوْ تُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَهُ دُونَ أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ الْحَكِيمُ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الْهَوَى وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْحَقِّ، وَقَدْ يُحِبُّ الْمَرْءُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ. فَالْمُرَادُ بِالْهَوَى إِذَا أُطْلِقَ أَنَّهُ الْهَوَى الْمُجَرَّدُ عَنِ الدَّلِيلِ.
وَنَفْيُ النُّطْقِ عَنْ هَوًى يَقْتَضِي نَفْيَ جِنْسِ مَا يَنْطِقُ بِهِ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالصُّدُورِ عَنْ هَوًى سَوَاءٌ كَانَ الْقُرْآنُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْخَطَابَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَذَا الرَّدِّ عَلَيْهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَنْزِيهَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَحْكُمَ عَنْ هَوًى لِأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْحِكْمَةِ. وَلِذَلِكَ
وَرَدَ فِي صِفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا»
. وَهُنَا تَمَّ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ فَحَسُنَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.
وَبَيْنَ هَوى والْهَوى جِنَاسٌ شبه التَّام.
وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ حَاجَةٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ الْحَقِيقِيِّ اسْمُ مَصْدَرِ الِاحْتِيَاجِ فَإِنَّ الْحَاجَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ وُقُوعُهَا فِي الصُّدُورِ لِأَنَّهَا مِنَ الْوِجْدَانِيَّاتِ وَالِانْفِعَالَاتِ.
وَمَعْنَى نَفْيِ وُجْدَانِ الِاحْتِيَاجِ فِي صُدُورِهِمْ أَنَّهُمْ لِفَرْطِ حُبِّهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ صَارُوا لَا يُخَامِرُ نُفُوسَهُمْ أَنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يُؤْتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ، أَي فهم أَغْنِيَاء عَمَّا يؤتاه الْمُهَاجِرُونَ فَلَا تستشرف نُفُوسهم إِلَى شَيْء مِمَّا يؤتاه الْمُهَاجِرُونَ بَلْهَ أَنْ يَتَطَلَّبُوهُ.
وَتَكُونُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا أُوتُوا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ حَاجَةٌ لِأَجْلِ مَا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ، أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ حَاجَةٌ نَاشِئَةٌ عَمَّا أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ فَيُفِيدُ انْتِفَاءَ وُجْدَانِ الْحَاجَةِ فِي نُفُوسِهِمْ وَانْتِفَاءِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْوُجْدَانِ وَمَنَاشِئِهِ الْمُعْتَادَةِ فِي النَّاسِ تَبَعًا لِلْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَقَدْ دَلَّ انْتِفَاءُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ عَلَى مُتَعَلِّقِ حَاجَةِ الْمَحْذُوفِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَا يَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ حَاجَةً لِشَيْءٍ أُوتِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ.
وَالْإِيثَارُ: تَرْجِيحُ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ بِمَكْرَمَةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ.
وَالْمَعْنَى: يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ يُؤْثِرُونَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مِمَّا أُوتُوا عَلَيْهِ.
وَمِنْ إِيثَارِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ مَا
رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الْأَنْصَارَ لِيَقْطَعَ لَهُمْ قَطَائِعَ بِنَخْلِ الْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ تَقْطَعَ لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا
. وَإِمَّا إِيثَارُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ فَمَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِيَ الْجَهْدُ. فَأَرْسَلَ فِي نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مَنِ الْأَنْصَارِ (هُوَ
أَبُو طَلْحَةَ) فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذَا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ. قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ. فَإِذَا دَخَلَ الضَّيْفُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ تُرِي أَنَّكِ تُصْلِحِينَهُ فَأَطْفِئِيهِ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ. فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ.

[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : الْآيَات ٣٧ إِلَى ٣٨]

أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)
إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ تَوْبِيخٍ إِلَى احْتِجَاجٍ عَلَى كَذِبِهِمْ.
وَالْاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ مَعَ أَمْ إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِتَابٌ إِنْكَارًا مَبْنِيًّا عَلَى الْفَرْضِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَدَّعُوهُ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْانْتِقَالِ وَالْانْتِقَالَاتِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ وَهِيَ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا [الْقَلَم:
٣٩] إِلَخْ، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [الْقَلَم: ٤٠] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [الْقَلَم: ٤١] إِلَخْ أَنَّ حُكْمَكُمْ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ سَنَدُهُ كِتَابًا سَمَاوِيًّا نَزَلَ مِنْ لَدُنَّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَنَدُهُ عَهْدًا مِنَّا بِأَنَّا نُعْطِيكُمْ مَا تَقْتَرِحُونَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَكُمْ كَفِيلٌ عَلَيْنَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْوِيلًا عَلَى نَصْرِ شُرَكَائِكُمْ.
وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ كِتابٌ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ نَكِرَةٌ وَتَنْكِيرُهُ مَقْصُودٌ لِلنَّوْعِيَّةِ فَكَانَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لَازِمًا.
وَضَمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْحُكْمِ الْمُفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الْقَلَم: ٣٦]، أَيْ كِتَابٌ فِي الْحُكْمِ.
وَ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ كَمَا تَقُولُ وَرَدَ كِتَابٌ فِي الْأَمْرِ بِكَذَا أَوْ فِي النَّهْيِ عَنْ كَذَا فَيَكُونُ فِيهِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةً لِ كِتابٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى كِتابٌ وَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِفِعْلِ تَدْرُسُونَ جُعِلَتِ الدِّرَاسَةُ الْعَمِيقَةُ بِمَزِيدِ التَّبَصُّرِ فِي مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَظْرُوفِ فِي الْكِتَابِ كَمَا تَقُولُ: لَنَا دَرْسٌ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ.
وَفِي هَذَا إِدْمَاجٌ بِالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ لِهَدْيِهِمْ وَإِلْحَاقِهِمْ بِالْأُمَمِ ذَاتِ الْكِتَابِ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَكَذَّبُوهُ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠] وَقَالَ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: ١٥٧].
وَجُمْلَةُ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ تَدْرُسُونَ عَلَى أَنَّهَا
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: ٥٠] أَنَّ بِغَيْرِ هُدىً حَال فمؤكدة لَيْسَتْ تَقْيِيدًا إِذْ لَا يَكُونُ الْهَوَى إِلَّا بِغَيْرِ هُدًى.
وَتَعْرِيفُ الْهَوى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَأْوى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ مَأْوَى مَنْ طَغَى، وَمَأْوَى مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَهُوَ تَعْرِيفٌ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ (مَأْوَى) وَمَثَلُهُ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: غُضَّ الطَّرْفَ (١)، أَيِ الطَّرْفَ الْمَعْهُودَ مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ غُضَّ طَرْفَكَ.
وَقَوْلِهِ: وَامْلَأِ السَّمْعَ، أَيْ سَمْعَكَ (٢) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَافِ: ٤٦]، أَيْ عَلَى أَعْرَافِ الْحِجَابِ، وَلِذَلِكَ فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ الْمَأْوَى لَهُ أَوْ مَأْوَاهُ عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَيُسَمِّي نُحَاةُ الْكُوفَةِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ هَذِهِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهِيَ تَسْمِيَةٌ حَسَنَةٌ لِوُضُوحِهَا وَاخْتِصَارِهَا، وَيَأْبَى ذَلِكَ الْبَصْرِيُّونَ، وَهُوَ خِلَافٌ ضَئِيلٌ، إِذِ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْمَأْوَى: اسْمُ مَكَانٍ مِنْ أَوَى، إِذَا رَجَعَ، فَالْمُرَادُ بِهِ: الْمَقَرُّ وَالْمَسْكَنُ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَذْهَبُ إِلَى قَضَاءِ شُؤُونِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهِ.
ومَقامَ رَبِّهِ مَجَازٌ عَنِ الْجَلَالِ وَالْمَهَابَةِ وَأَصْلُ الْمَقَامِ مَكَانُ الْقِيَامِ فَكَانَ أَصْلُهُ مَكَانَ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى نَفْسِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ بِتَعْظِيمِ الْمَكَانِ عَنْ تَعْظِيمِ صَاحِبِهِ، مِثْلُ أَلْفَاظِ: جَنَابٍ، وَكَنَفٍ، وَذَرًى، قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦] وَقَالَ: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي [إِبْرَاهِيم: ١٤] وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ الْمَطْلُوبِ بِهَا نِسْبَةٌ إِلَى الْمُكَنَّى عَنْهُ فَإِنَّ خَوْفَ مَقَامِ اللَّهِ مُرَادٌ بِهِ خَوْفُ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بِالنِّسْبَةِ مَا يَشْمَلُ التَّعَلُّقَ بِالْمَفْعُولِ.
وَفِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى مُحَسِّنُ الْجَمْعِ مَعَ التَّقْسِيمِ.
_________
(١) فِي قَول الفرزدق:
فغض الطّرف إِنَّك من نمير فَلَا كَعْبًا بلغت وَلَا كلابا
(٢) فِي قَول البوصيري:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
واملأ السّمع من محَاسِن يم ليها عَلَيْهَا الإنشاد والإملاء