وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (يُكَذِّبُونَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيُ اللَّهِ إِلَى الرَّسُولِ، فَمَادَّةُ التَّفْعِيلِ لِلنِّسْبَةِ إِلَى الْكَذِبِ مِثْلَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ فَعَلَى كَذِبِهِمُ الْخَاصِّ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: ٨] وَعَلَى كَذِبِهِمُ الْعَامِّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ١١] فَالْمَقْصُودُ كَذِبُهُمْ فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَفِي جَعْلِ أَنْفُسِهِمُ الْمُصْلِحِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْكَذِبُ ضِدُّ الصِّدْقِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٣]. وَ (مَا) الْمَجْرُورَةُ بِالْبَاءِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْمُنْسَبِكُ مِنْ كَانَ أَي الْكَوْن.
[١١]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)
يَظْهَرُ لِي أَنَّ جُمْلَةَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: ١٠] لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ إِخْبَارٌ عَنْ بَعْضِ عَجِيبِ أَحْوَالِهِمْ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى أَقْرَبِ الْجُمَلِ الْمُلِظَّةِ (١) لِأَحْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِك آئلا فِي الْمَعْنَى إِلَى كَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: ٨].
وَ (إِذَا) هُنَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ وَلَيْسَتْ مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا أَنَّهَا هُنَا لِلْمَاضِي وَلَيْسَتْ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمرَان:
١٥٢] الْآيَةَ. وَمِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ الْمَغْفُولِ عَنْهَا تَقْيِيدُ هَذَا الْفِعْلِ بِالظَّرْفِ فَإِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ مَحَلَّ الْمَذَمَّةِ هُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُفْسِدِينَ، وَلَكِنْ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ قَائِلُوهُ أَجْدَرَ بِالْمَذَمَّةِ حِينَ يَقُولُونَهُ فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ الصَّادِرَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ لَا يَنْشَأُ إِلَّا عَنْ مَرَضِ الْقَلْبِ وَأَفَنِ الرَّأْيِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْفَسَادِ أَنْ لَا يَخْفَى وَلَئِنْ خَفِيَ فَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ صَلَاحٌ بَعْدَ الْإِيقَاظِ إِلَيْهِ وَالْمَوْعِظَةِ إِفْرَاطٌ فِي الْغَبَاوَةِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ وَجَهْلٌ فَوْقَ جَهْلٍ.

وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ إِذْ هُوَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَنُكَتُ الْإِعْجَازِ لَا تَتَنَاهَى.
_________
(١) الملظة: الْمُلَازمَة.
عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الْإِنْسَان: ١] وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا تَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ وَلَا نَعْرِفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اقْتِرَانَ هَلْ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَّا فِي هَذَا الْبَيْتِ وَلَا يَنْهَضُ احْتِجَاجُهُمْ بِهِ لِإِمْكَانِ تَخْرِيجِهِ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ حَرْفَيِ اسْتِفْهَامٍ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا يُؤَكِّدُ الْحَرْفَ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ كَقَوْلِ مُسْلِمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْوَالِبِيِّ:
فَلَا وَالله لَا يلقى لِمَا بِي وَلَا لِلِمَا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ
فَجَمَعَ بَيْنَ لَامَيْ جَرٍّ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ هَلْ تَمَحَّضَتْ لِإِفَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهَا، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إنكاري لَا محَالة بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالْكَلَامُ خَبَرٌ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالنَّظَرُ: الِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ يُقَالُ نَظَرَهُ بِمَعْنَى تَرَقَّبَهُ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَرَقَّبُ أَحَدًا يُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلَى صَوْبِهِ ليرى شبحه عِنْد مَا يَبْدُو، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَفِيَ النَّظَرِ الْبَصَرِيِّ أَيْ لَا يَنْظُرُونَ
بِأَبْصَارِهِمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا إِتْيَانَ أَمْرِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْأَبْصَارَ تَنْظُرُ غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ لِشِدَّةِ هَوْلِ إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا، أَوْ تُسْلَبُ أَبْصَارُهُمْ مِنَ النَّظَرِ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْمُرَكَّبُ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ مِنَ الْإِنْكَار بل مُسْتَعْملا إِمَّا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الضَّمِيرِ، وَإِمَّا فِي الْوَعْدِ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، وَإِمَّا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الْعِدَةُ بِظُهُورِ الْجَزَاءِ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ، وَإِمَّا فِي التَّهَكُّمِ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُنَافِقِينَ الْيَهُودَ أَوِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَة: ٥٥]. وَيجوز على هَذَا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْيَهُودِ: أَيْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَيَدْخُلُونَ فِي السِّلْمِ حَتَّى يَرَوُا اللَّهَ تَعَالَى فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الْبَقَرَة: ١٤٥].
وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٠، ٩٢]، وَسَيَجِيءُ الْقَوْلُ مُشَبَّعًا فِي مَوْقِعِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
إِلَخْ. فَهَذَا مِلَاكُ الْوُجُوهِ، وَلَا نُطِيلُ بِاسْتِيعَابِهَا إِذْ لَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَكَلِمَةُ أَحَدٌ اسْمُ نَكِرَةٍ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَمَعْنَاهَا شَخْصٌ أَوْ إِنْسَانٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تَقَعُ إِلَّا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ عَرِيبٍ وَدِيَارٍ وَنَحْوِهِمَا وَنَدَرَ وُقُوعُهُ فِي حَيِّزِ الْإِيجَابِ، وَهَمْزَتُهُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ وَأَصْلُهُ وَحَدَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَيَرِدُ وَصْفًا بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ جُزْءٌ مِنْ حَرْفِ (أَنْ). وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ أُولَاهُمَا هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ وَالثَّانِيَةُ جُزْءٌ مِنْ حَرْفِ (أَنْ) وَسَهَّلَ الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ.
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤).
زِيَادَةُ تَذْكِيرٍ لَهُمْ وَإِبْطَالٌ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ عَلَى طَرْحِ الْحَسَدِ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ كَمَا أَعْطَى اللَّهُ الرِّسَالَةَ مُوسَى كَذَلِكَ أَعْطَاهَا مُحَمَّدًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّسَاء: ٥٤].
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَمَنْ يَحْسَبُ أَنَّ
الْفَضْلَ تَبَعٌ لِشَهَوَاتِهِمْ وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الْفَضْلَ بيد الله إِلَخ أَي أنّ الْفضل بِيَدِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِنَوَالِ فَضْلِهِ.
وواسِعٌ اسْمُ فَاعِلِ الْمَوْصُوفِ بِالسِّعَةِ.
وَحَقِيقَةُ السِّعَةِ امْتِدَادُ فَضَاءِ الْحَيِّزِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ ظَرْفٍ امْتِدَادًا يَكْفِي لِإِيوَاءِ مَا يَحْوِيهِ ذَلِكَ الْحَيِّزُ بِدُونِ تَزَاحُمٍ وَلَا تَدَاخُلٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَحْوِيِّ، يُقَالُ أَرْضٌ وَاسِعَةٌ وَإِنَاءٌ
حَالَةِ ادِّعَاءِ الْمُشَارَكِ فِيهِ، وَمِنْهُ «يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا»، وَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَتَاعِ الْمَوْرُوثِ، فَتَقُولُ: وَرِثْتُ مَالَ فُلَانٍ، وَقَدْ يَتَعَدَّى إِلَى ذَاتِ الشَّخْصِ الْمَوْرُوثِ، يُقَالُ: وَرِثَ فُلَانٌ أَبَاهُ، قَالَ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [مَرْيَم: ٦] وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَا لَيْسَ بِمَال.
فتعدية فِعْلِ أَنْ تَرِثُوا إِلَى النِّساءَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ الْأَوَّلِ: بِتَنْزِيلِ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ، لِإِفَادَةِ تَبْشِيعِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهلهَا فَنزلت هَذِه الْآيَةُ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالزُّهْرِيِّ كَانَ الِابْنُ الْأَكْبَرُ أَحَقَّ بِزَوْجِ أَبِيهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبْنَاءٌ فَوَلِيُّ الْمَيِّتِ إِذَا سَبَقَ فَأَلْقَى عَلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ ثَوْبَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ سَبَقَتْهُ فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا. وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ وَلَهَا أَوْلَادٌ مِنْهُ: الْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، وَالْعَاصُ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ غَيْرِهَا مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ أُمَيَّةَ فَخَلَفَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ: مُسَافِرًا، وَأَبَا مُعَيْطٍ، فَكَانَ الْأَعْيَاصُ أَعْمَامًا لِمُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَإخْوَتَهُمَا مِنَ الْأُمِّ».
وَقَدْ قِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ رَامَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بِنْتَ مَعْنٍ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ لَازِمَةً فِي الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ فِي قُرَيْشٍ مُبَاحَةً مَعَ التَّرَاضِي. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ كَرْهاً حَالًا مِنَ النِّسَاءِ، أَيْ كَارِهَاتٍ غَيْرَ رَاضِيَاتٍ، حَتَّى يَرْضَيْنَ بِأَنْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا لِمَنْ يَرْضَيْنَهُ، مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْإِكْرَاهُ بعوائدهم الَّتِي تمالؤوا عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوْ رَامَتِ الْمَرْأَةُ الْمَحِيدَ عَنْهَا، لَأَصْبَحَتْ سُبَّةً لَهَا، وَلَمَا وَجَدَتْ مَنْ يَنْصُرُهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ الْأَزْوَاجُ، أَيْ أَزْوَاجُ الْأَمْوَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ (تَرِثُوا) مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمُتَعَدِّيًا إِلَى الْمَوْرُوثِ فَيُفِيدَ
وَعَدَلَ هُنَا عَنِ النَّفْيِ بِلَا التَّبْرِئَةِ فَلَمْ يَقُلْ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) إِلَى قَوْلِهِ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ اهْتِمَامًا بِإِبْرَازِ حَرْفِ (مِنْ) الدَّالِّ بَعْدَ النَّفْيِ عَلَى تَحْقِيقِ النَّفْيِ، فَإِنَّ النَّفْيَ بِحَرْفِ (لَا) مَا أَفَادَ نَفْيَ الْجِنْسِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ (مِنْ)، فَلَمَّا قُصِدَتْ زِيَادَةُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ هُنَا جِيءَ بِحَرْفِ (مَا) النَّافِيَةِ وَأَظْهَرَ بَعْدَهُ حَرْفَ (مِنْ). وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يُفِيدُ حَصْرَ وَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ فِي وَاحِدٍ فَانْتَفَى التَّثْلِيثُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ. وَأَمَّا تَعْيِينُ هَذَا الْوَاحِدِ مَنْ هُوَ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا تَعْيِينُهُ هُنَا لِأَنَّ الْقَصْدَ إِبْطَالُ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ فَإِذَا بَطَلَ التَّثْلِيثُ، وَثَبَتَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ، فَلَمَّا بَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ غَيْرِهِ مَعَهُ تَمَحَّضَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٢] وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هُنَا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُبْطِلِينَ (إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) فَاسْتُغْنِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ عَنْ تَعْيِينِهِ. وَلِهَذَا صَرَّحَ بِتَعْيِينِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٢] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إِذِ الْمَقَامُ اقْتَضَى تَعْيِينَ انْحِصَارِ الْإِلَهِيَّةِ فِي اللَّهِ تَعَالَى دُونَ عِيسَى وَلَمْ يَجْرِ فِيهِ ذِكْرٌ لِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، أَيْ لَقَدْ كَفَرُوا كُفْرًا إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْهُ أَصَابَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ أَيْ عَنْ قَوْلِهِمُ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَهُوَ إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَقَدْ جَاءَ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلِانْتِهَاءِ إِذِ الِانْتِهَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ شَيْءٍ مُسْتَمِرٍّ كَمَا نَاسَبَ قَوْلُهُ قالُوا قَوْلَهُ لَقَدْ كَفَرَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ حَصَلَ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنَ الزَّمَنِ الْمَاضِي. وَمَعْنَى عَمَّا يَقُولُونَ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوِ انْتَهَوْا عَنِ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَأَضْمَرُوا اعْتِقَادَهُ لَمَا نَفَعَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الِاعْتِقَادِ مَعَ مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ. وَأَكَّدَ الْوَعِيدَ بِلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ رَدًّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ، لِأَنَّ صَلْبَ عِيسَى كَانَ كَفَّارَةً عَنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ يُنَجِّيكُمْ- بِالتَّشْدِيدِ- مِثْلَ الْأُولَى.
وثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَلْجَأُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْمُهْلَةَ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِخَبَرِ إِسْنَادِ الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ، أَيْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ بِاعْتِرَافِكُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، مِنْ بَابِ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
[الْبَقَرَة: ٨٥]، وَمِنْ بَابِ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا، وَلَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ شِرْكِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ التَّجَدُّدَ وَالدَّوَامَ عَلَيْهِ أَعْجَبُ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْجَاكُمْ فَوَعَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ فَإِذَا أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. وَبَيْنَ الشَّاكِرِينَ وتُشْرِكُونَ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ.
[٦٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٦٥]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَقَّبَ بِهِ ذِكْرَ النِّعْمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ، تَخْوِيفًا لِلْمُشْرِكِينَ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ مِثْلَ إِعَادَتِهِ فِي نَظَائِرِهِ لِلِاهْتِمَامِ الْمُبَيَّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠].
وَالْمَعْنَى قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ، فَالْمُخَاطَبُ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ لَيْسَ الْإِعْلَامَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ التَّهْدِيدُ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الْقَادِرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخَافَ بَأْسُهُ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، أَوْ كِنَايَةً تَرْكِيبِيَّةً.
وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، لِقَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: ٢٠].
الْمُفَرَّعَةِ هُنَا أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَعْنَى، يُؤْذِنُ بِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مِنْ تَخْفِيفِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بَعْضَ التَّخْفِيفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ إِجْمَالًا قَوْلُهُ: أَنِّي مَعَكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَوْقَ الْأَعْناقِ على الظَّرْفِيَّة لَا ضربوا.
والْأَعْناقِ أَعْنَاقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَاللَّامُ فِيهِ وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْجِنْسِ بِالْقَرِينَةِ لِلْجِنْسِ أَوْ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
وَالْبَنَانُ اسْمُ جَمْعِ بَنَانَةٍ وَهِيَ الْإِصْبَعُ وَقِيلَ طَرْفُ الْإِصْبَعِ، وَإِضَافَةُ (كُلٍّ) إِلَيْهِ لِاسْتِغْرَاقِ أَصْحَابِهَا.
وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْأَعْنَاقُ وَالْبَنَانُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ إِتْلَافٌ لِأَجْسَادِ الْمُشْرِكِينَ وَضَرْبُ الْبَنَانِ، يُبْطِلُ صَلَاحِيَةَ الْمَضْرُوبِ لِلْقِتَالِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ السِّلَاحِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ، وَمِنْ ثَمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَدُ أَوْ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْأَصَابِعُ، عَنْ ذِكْرِ السَّيْفِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَأَنَّ تِلَادِي أَنْ نَظَرْتُ وَشِكَّتِي وَمُهْرِي وَمَا ضَمَّتْ إِلَيَّ الْأَنَامِلُ
يَعْنِي سَيْفَهُ، وَقَالَ أَبُو الْغُولِ الطَّهْوِيُّ:
فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي فَوَارِسَ صُدِّقَتْ فِيهِمْ ظُنُونِي
يُرِيدُ السَّيْفَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَضَرْبُ الْبَنَانِ يَحْصُلُ بِهِ تَعْطِيلُ عَمَلِ الْيَدِ فَإِذَا ضُرِبَتِ الْيَدُ كُلُّهَا فَذَلِكَ أَجْدَرُ.
وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً بِتَكْوِينِ قَطْعِ الْأَعْنَاقِ وَالْأَصَابِعِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ حَقِيقَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِتَسْدِيدِ ضَرَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْجِيهِ
الْمُشْرِكِينَ إِلَى جِهَاتِهَا، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، وَقَدْ قِيلَ:
الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْكِشَافِ الملحمة.
وَجُمْلَة: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
تَعْلِيلٌ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْله أَنَّهُمْ
بَاءُ السَّبَبِيَّةِ
وَجُعِلَ الْإِرْجَاعُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُخَلَّفِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِرْجَاعُ إِلَى الْحَدِيثِ مَعَهُمْ فِي مِثْلِ الْقِصَّةِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ مُعَامَلَتِهِ مَعَ طَائِفَةٍ، اخْتُصِرَ الْكَلَامُ، فَقِيلَ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِرْجَاعَ الْحَقِيقِيَّ كَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَجَعَلُوهُ الْإِرْجَاعَ مِنْ سَفَرِ تَبُوكَ مَعَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ بَلِ الْمُرَادُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ تَكَرَّرَ الْخَوْضُ مَعَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى.
وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٤]. أَوْ قَوْلِهِ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢].
وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أَيْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ يَبْتَغُونَ الْخُرُوجَ لِلْغَزْوِ، فَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لِلْغَزْوِ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ تَابُوا وَأَسْلَمُوا فَاسْتَأْذَنُوا لِلْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ لِلْخَوْفِ مِنْ غَدْرِهِمْ إِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّأْدِيبِ لَهُمْ إِنْ كَانُوا قَدْ تَابُوا وَآمَنُوا.
وَمَا أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ صَالِحٌ لِلْوَجْهَيْنِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ بِ لَنْ وَبَيْنَ كَلِمَةِ أَبَداً تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى لَنْ لِانْتِفَاءِ خُرُوجِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتِّعْدَادِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ إِنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْقُعُودَ وَتَرْضَوْنَ بِهِ فَقَدْ زِدْتُكُمْ مِنْهُ.
وَفِعْلُ: رَضِيتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْقُعُودِ عَمَلٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْبَاهُ النَّاسُ
حَتَّى أُطْلِقَ عَلَى ارْتِكَابِهِ فِعْلُ رَضِيَ الْمُشْعِرُ بِالْمُحَاوَلَةِ وَالْمُرَاوَضَةِ. جُعِلُوا كَالَّذِي يُحَاوِلُ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ وَتَأْبَى حَتَّى يُرْضِيَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: ٣٨] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُنَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الْمَرَّةَ هُنَا لَمَّا كَانَتْ فِي زَمَنٍ مَعْرُوفٍ لَهُمْ وَهُوَ زَمَنُ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ ضَمِنَتْ مَعْنَى الزَّمَانِ. وَانْتِصَابُ الْمَصْدَرِ بِالنِّيَابَةِ عَنِ
وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فَلَمْ يعملوا بِمَا جاؤوهم بِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ بِمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَبْل مَبْعَثِهِ مُقِرِّينَ بِنَبِيءٍ يَأْتِي، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ اخْتَلَفُوا فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُرْآنَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمرَان: ١٩]، وَقَوْلِهِ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ٤] فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَبْلَ هَذَا قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة:
١، ٢] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: ٨٩].
وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِحَرْفِ (حَتَّى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ.
وَتَعْقِيبُ فَمَا اخْتَلَفُوا بِالْغَايَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُنْتَهَى حَالَةِ الشُّكْرِ، أَيْ فَبَقُوا
فِي ذَلِكَ الْمُبَوَّأِ، وَفِي تِلْكَ النِّعْمَةِ، حَتَّى اخْتَلَفُوا فَسُلِبَتْ نِعْمَتُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَلَبَهُمْ أَوْطَانَهُمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَذْيِيلٌ وَتَوَعُّدٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ مَضَوْا بِمَا عَمِلُوا وَأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ كَقَوْلِهِ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [الْبَقَرَة: ١٣٤]، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَاضِرِينَ الْيَوْمَ أَنْ يُفَكِّرُوا فِي وَسَائِلِ الْخَلَاصِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْوُقُوعِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ يَوْم الْقِيَامَة.
و (بَين) ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْقَضَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ (يَقْضِي) فَفِعْلُ الْقَضَاءِ كَأَنَّهُ مُتَخَلِّلٌ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَبْيِينِ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.
فَلَمَّا ظَهَرَ عَوَصُ تَعْبِيرِ هَذَا الْحُلُمِ تَذَكَّرَ سَاقَيِ الْمَلِكِ مَا جَرَى لَهُ مَعَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ.
وَابْتِدَاءُ كَلَامِهِ بِضَمِيرِهِ وَجَعْلِهِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَخَبَرُهُ فِعْلِيٌّ لِقَصْدِ اسْتِجْلَابِ تَعَجُّبِ الْمَلِكِ مِنْ أَنْ يكون الساقي ينبىء بِتَأْوِيلِ رُؤْيَا عَوِصَتْ عَلَى عُلَمَاءِ بَلَاطِ الْمَلِكِ، مَعَ إِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، وَهُوَ إِنْبَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِتَأْوِيلِهَا، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ يُفِيدُ التَّقَوِّي، وَإِسْنَادُ الْإِنْبَاءِ إِلَيْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْبَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
فَأَرْسِلُونِ. وَفِي ذَلِكَ مَا يَسْتَفِزُّ الْمَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ لِيَأْتِيَ بِنَبَأِ التَّأْوِيلِ إِذْ لَا يَجُوزُ لِمِثْلِهِ أَنْ يُغَادِرَ مَجْلِسَ الْمَلِكِ دُونَ إِذْنٍ. وَقَدْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ يَجِدُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي السِّجْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ. وَلَعَلَّ سَبَبَ يَقِينِهِ بِبَقَاءِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي السِّجْنِ أَنَّهُ كَانَ سِجْنَ الْخَاصَّةِ فَكَانَ مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنْ إِطْلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ يَبْلُغُ مَسَامِعَ الْمَلِكِ وَشِيعَتِهِ.
وادَّكَرَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَصْلُهُ: اذْتَكَرَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الذِّكْرِ، قُلِبَتْ تَاءُ الِافْتِعَالِ دَالًا لِثِقَلِهَا وَلِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا ثُمَّ قُلِبَتِ الذَّالُ لِيَتَأَتَّى إِدْغَامُهَا فِي الدَّالِ لِأَنَّ الدَّالَ أَخَفُّ مِنَ الذَّالِ. وَهَذَا أَفْصَحُ الْإِبْدَالِ فِي ادَّكَرَ. وَهُوَ قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سُورَة الْقَمَر: ١٥] كَمَا فِي الصَّحِيحِ.
وَمَعْنَى بَعْدَ أُمَّةٍ بَعْدَ زَمَنٍ مَضَى عَلَى نِسْيَانِهِ وِصَايَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالْأُمَّةُ: أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، وَأَصْلُ إِطْلَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هُوَ أَنَّهَا زَمَنٌ يَنْقَرِضُ فِي مِثْلِهِ جِيلٌ، وَالْجِيلُ يُسَمَّى أُمَّةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سُورَة آل عمرَان: ١١٠] عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الصَّحَابَةِ.
وَإِطْلَاقُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُبَالَغَةٌ فِي زَمَنِ نِسْيَانِ السَّاقِي. وَفِي التَّوْرَاةِ كَانَتْ مُدَّةُ نِسْيَانِهِ سَنَتَيْنِ.
وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ فِي أُنَبِّئُكُمْ- فَأَرْسِلُونِ مُخَاطَبٌ بِهَا الْمَلِكُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩].
وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٥].
ومَكانَ آيَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ بِأَنْ تَأْتِيَ آيَةً فِي الدَّعْوَةِ وَالْخِطَابِ فِي مَكَانِ آيَةٍ أُخْرَى أَتَتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، فَالْمَكَانُ هُنَا مَكَانٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ حَالَةُ الْكَلَامِ وَالْخِطَابِ، كَمَا يُسَمَّى ذَلِكَ مَقَامًا، فَيُقَالُ: هَذَا مَقَامُ الْغَضَبِ، فَلَا تَأْتِ فِيهِ بِالْمَزْحِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَكَانَهَا مِنْ أَلْوَاحِ الْمُصْحَفِ وَلَا بِإِبْدَالِهَا مَحْوَهَا مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ شَرْطِ إِذا وَجَوَابِهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ لَا الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنَزِّلُ لِلْقُرْآنِ لَارْتَفَعَ الْبُهْتَانُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنْ آيَةٍ بَدَلَ آيَةٍ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَكَانِ الْأُولَى وَمَكَانِ الثَّانِيَةِ وَمَحْمَلِ كِلْتَيْهِمَا، وَكُلٌّ عِنْدِهِ بِمِقْدَارٍ وَعَلَى اعْتِبَارٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما يُنَزِّلُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ-. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ-.
وَحِكَايَةُ طَعْنِهِمْ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، فَجَعَلُوهُ لَا صِفَةَ لَهُ إِلَّا الِافْتِرَاءَ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَسْتَ بِمُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ. وَهَذَا مِنْ مُجَازَفَتِهِمْ وَسُرْعَتِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْجَائِرِ فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَهُ افْتِرَاءٌ بَلْ جَعَلُوا الرَّسُولَ مَقْصُورًا عَلَى كَوْنِهِ مُفْتَرِيًا لِإِفَادَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْوَارِدَ مَقْصُورٌ عَلَى كَوْنِهِ افْتِرَاءً.
وَأَصْلُ الِافْتِرَاءِ: الِاخْتِرَاعُ، وَغَلَبَ عَلَى اخْتِرَاعِ الْخَبَرِ، أَيِ اخْتِلَاقِهِ، فَسَاوَى الْكَذِبَ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ قَدْ يُطْلَقُ وَحْدَهُ كَمَا هُنَا، وَقَدْ يُطْلَقُ مُقْتَرِنًا بِالْكَذِبِ كَقَوْلِهِ الْآتِي: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٠٥] إِرْجَاعًا بِهِ إِلَى أَصْلِ الِاخْتِرَاعِ فَيُجْعَلُ لَهُ مَفْعُولٌ هُوَ آيِلٌ إِلَى مَعْنَاهُ فَصَارَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي [سُورَةِ الْعُقُودِ: ١٠٣].
وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقَةِ النَّقْضِ الْإِجْمَالِيِّ فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ.
وَانْتَصَبَ رُعْباً عَلَى تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الرُّعْبَ هُوَ الَّذِي يَمْلَأُ، فَلَمَّا بُنِيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلُ صَارَ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا تَمْيِيزًا. وَهُوَ إِسْنَادٌ بَدِيعٌ حَصَلَ مِنْهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، وَلَيْسَ تَمْيِيزًا مُحَوَّلًا
عَنِ الْمَفْعُولِ كَمَا قد يلوح بادىء الرَّأْيِ.
وَالرُّعْبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥١].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَلَمُلِئْتَ- بِتَشْدِيدِ اللَّامِ- عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَلْءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُعْباً- بِسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ- بِضَم الْعين-.
[١٩، ٢٠]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
عَطْفٌ لِجُزْءٍ مِنَ الْقِصَّةِ الَّذِي فِيهِ عِبْرَةٌ لِأَهْلِ الْكَهْفِ بِأَنْفُسِهِمْ ليعلموا من أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ حِفْظِهِمْ عَنْ أَنْ تَنَالَهُمْ أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ بِإِهَانَةٍ، وَمِنْ إِعْلَامِهِمْ عِلْمَ الْيَقِينِ بِبَعْضِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ عَظِيمٌ وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَة:
٢٦٠].
وَالْعَهْدُ: مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ وَتَذَكُّرُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى الْمَفْعُولِ كَإِطْلَاقِ الْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ طَالَ الْمَعْهُودُ لَكُمْ وَبَعُدَ زَمَنُهُ حَتَّى نَسِيتُمُوهُ وَعَمِلْتُمْ بِخِلَافِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ عَهْدُهُمُ اللَّهَ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَقَوْلُهُ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٧ وَ٤٠].
وأَمْ إِضْرَابٌ إِبْطَالِيٌّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ فِي قَوْلِهِ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ [طه: ٨٦] إِنْكَارِيٌّ أَيْضًا، إِذِ التَّقْدِيرُ: بَلْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ، فَلَا يَكُونُ كُفْرُكُمْ إِذَنْ إِلَّا إِلْقَاءً بِأَنْفُسِكُمْ فِي غَضَبِ اللَّهِ كَحَالِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
فَفِي قَوْلِهِ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، إِذْ شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي ارْتِكَابِهِمْ أَسْبَابَ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِدُونِ دَاعٍ إِلَى ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ يُحِبُّ حُلُولَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذِ الْحُبُّ لَا سَبَبَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي تَفْرِيعٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الثَّانِي. وَمَعْنَى مَوْعِدِي هُوَ وَعْدُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِ لِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ فِيهِ.
[٨٧- ٨٨]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٨٧ الى ٨٨]
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨)
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها وَقَعَتْ جُمْلَةُ قالُوا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا جَرَتْ فِي الْمُحَاوَرَةِ جَوَابًا عَنْ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ
بِالْمَصِيرِ إِلَى مَصِيرِهِمْ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهَا.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ إِلَخْ إِذِ التَّقْدِيرُ: فَلَا عَجَبَ فِي تَكْذِيبِهِمْ، أَوْ فَلَا غَضَاضَةَ عَلَيْكَ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِكَ إِيَّاكَ فَإِنَّ تِلْكَ عَادَةُ أَمْثَالِهِمْ.
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هُمُ الْكَلْدَانُ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُمْ بِقَوْمِ شُعَيْبٍ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ لَفْظُ قَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ.
وَقَالَ: وَكُذِّبَ مُوسى لِأَنَّ مُكَذِّبِيهِ هُمُ الْقِبْطُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ.
وَقَوْلُهُ: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ مَعْنَاهُ فَأَمْلَيْتُ لَهُمْ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ ثُمَّ أَخْذِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِالرُّسُلِ تَعْرِيضًا بِالنِّذَارَةِ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ.
وَالْأَخْذُ حَقِيقَتُهُ: التَّنَاوُلُ لِمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْيَدِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ بِتَسْلِيطِ الْإِهْلَاكِ بَعْدَ إِمْهَالِهِمْ، وَمُنَاسِبَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الْإِمْلَاءَ لَهُمْ يُشْبِهُ بُعْدَ الشَّيْءِ عَنْ مُتَنَاوِلِهِ فَشُبِّهَ انْتِهَاءَ ذَلِكَ الْإِمْلَاءِ بِالتَّنَاوُلِ، شُبِّهَ ذَلِكَ بِأَخْذِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عِنْدَهُ، لِظُهُورِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَعِيدِهِمْ، وَهَذَا الْأَخْذُ مَعْلُومٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَدَا أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِعَذَابِهِمْ أَوْ أَخْذِهِمْ سِوَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: ٧٠] وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ مُشِيرٌ إِلَى سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ مِمَّا أَرَادُوا بِهِ مِنَ الْكَيْدِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ هُنَالِكَ.
وَمُنَاسَبَةُ عَدِّ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ هُنَا فِي عِدَادِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَخَذَهُمُ اللَّهُ دُونَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا مَنْ أُخِذُوا مِنَ الْأَقْوَامِ، أَنَّ
فَأَقْبَلَتْ مُسَبَّبَاتُهَا تَنْهَالُ عَلَى الْأُمَّةِ، فَالْأَسْبَابُ هِيَ الْإِيمَانُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ.
وَالْمَوْصُولُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ، وَعُمُومُهُ عُرْفِيٌّ، أَيْ غَالِبٌ فَلَا يُنَاكِدُهُ مَا يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ مُقَصِّرِينَ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ عَائِدَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.
وَالْخِطَابُ فِي مِنْكُمْ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ بِمُشْرِكِيهَا وَمُنَافِقِيهَا بِأَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهَذَا الْوَعْدِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الصَّالِحاتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ عَمِلُوا جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي وَصَفَهَا الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَلَاحٌ، وَتَرَكَ الْأَعْمَالَ الَّتِي وَصَفَهَا الشَّرْعُ بِأَنَّهَا فَسَادٌ لِأَنَّ إِبْطَالَ الْفَسَادِ صَلَاحٌ.
فَالصَّالِحَاتُ جَمْعُ صَالِحَةٍ: وَهِيَ الْخَصْلَةُ وَالْفِعْلَةُ ذَاتُ الصَّلَاحِ، أَيْ الَّتِي شَهِدَ الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَالِحَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ.
وَاسْتِغْرَاقُ الصَّالِحاتِ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ عَمِلَ مُعْظَمَ الصَّالِحَاتِ وَمُهِمَّاتِهَا وَمَرَاجِعَهَا مِمَّا يَعُودُ إِلَى تَحْقِيقِ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيِ حَالَةِ مُجْتَمَعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَسْلَكِ الِاسْتِقَامَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الْخُوَيْصَةِ وَبِحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَلَاقَةِ الْمَدَنِيَّةِ بَيْنَ
الْأُمَّةِ عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَ بِهِ الدِّينُ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ كُلٌّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ أَمْثَالِهِ الْخَلِيفَةُ فَمَنْ دُونَهُ، وَذَلِكَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْفَلَتَاتِ الْمُنَاقِضَةِ فَإِنَّهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا إِذَا لَمْ يُسْتَرْسَلْ عَلَيْهَا وَإِذَا مَا وَقَعَ السَّعْيُ فِي تَدَارُكِهَا.
وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْخُوَيْصَةِ هِيَ مُوجِبُ هَذَا الْوَعْدِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَقَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ، وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ هِيَ الَّتِي بِهَا تَيْسِيرُ سَبَبِ الْمَوْعُودِ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَصُولَ انْتِظَامِ أُمُورِ الْأُمَّةِ فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النَّحْل: ٩٠] وَقَوْلِهِ:
فَقَالَ:
تَقَاسَمُوا. وَهُوَ يُرِيدُ شُمُولَ نَفْسِهِ إِذْ لَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ الْمُشَارَكَةَ مَعَهُمْ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ تَوَافَقُوا عَلَيْهِ وَأَعَادُوهُ فَصَارَ جَمِيعُهُمْ قَائِلًا ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى التِّسْعَةِ.
وَالْقَسَمُ بِاللَّهِ يَدُلُّ على أَنهم كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِهِ الْآلِهَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَصِهِمْ فِيمَا مَرَّ مِنَ السُّورِ.
ولَنُبَيِّتَنَّهُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى صَالِحٍ. وَالتَّبْيِيتُ وَالْبَيَاتُ: مُبَاغَتَةُ الْعَدُوِّ لَيْلًا. وَعَكْسُهُ التَّصْبِيحُ: الْغَارَةُ فِي الصَّبَاحِ، وَكَانَ شَأْنُ الْغَارَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ تَكُونَ فِي الصَّبَاحِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ مَنْ يُنْذِرُ قَوْمًا بِحُلُولِ الْعَدُوِّ: «يَا صَبَاحَاهُ»، فَالتَّبْيِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِقَصْدِ غَدْرٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى بَيْتِهِ لَيْلًا فَيَقْتُلُونَهُ وَأَهْلَهُ غَدْرًا مِنْ حَيْثُ لَا يُعْرُفُ قَاتِلُهُ ثُمَّ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ قَتَلُوهُمْ وَلَا شَهِدُوا مَقْتَلَهُمْ.
وَالْمَهْلِكُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَهْلَكَ الرُّبَاعِيِّ، أَيْ شَهِدْنَا إِهْلَاكَ مَنْ أَهْلَكَهُمْ. وَقَوْلُهُمْ:
وَإِنَّا لَصادِقُونَ هُوَ مِنْ جملَة مَا هيّأوا أَنْ يَقُولُوهُ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَيْ وَنُؤَكِّدُ إِنَّا لَصَادِقُونَ. وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ عَلَى أَنَّهُمْ صَادِقُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَيِّتَنَّهُ بِنُونِ الْجَمَاعَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ الَّتِي قَبْلَ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمِّ التَّاءِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ نُونِ التَّوْكِيدِ. وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَمْرُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَهَكَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنَقُولَنَّ بِنُونِ الْجَمَاعَةِ فِي أَوَّلِهِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَبِضَمِّ اللَّامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: مُهْلَكَ بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام وَهُوَ مصدر الإهلاك أَو مَكَانَهُ أَو زَمَانه. وقرأه حَفْص بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام وَيحْتَمل الْمصدر وَالْمَكَان وَالزَّمَان. وَقَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم بِفَتْح الْمِيم وَفتح اللَّام فَهُوَ مصدر لَا غير.
وَوَلِيُّ صَالِحٍ هُمْ أقرب الْقَوْم لَهُ إِذَا رَامُوا الْأَخْذَ بِثَأْرِهِ.
وَهَذَا الْجُزْءُ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَحْسَبُ أَنَّ سَبَبَ
ابْتُلِيَ اهـ. قُلْتُ: وَمِنْهُ دُخُولُ (لَاتَ) عَلَى (هَنَّا) فِي قَوْلِ حَجْلِ بْنِ نَضْلَةَ:
خَنَّتْ نَوَارُ وَلَاتَ هَنَّا حَنَّتِ وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أَجَنَّتِ
فَإِنَّ (لَاتَ) خَاصَّةٌ بِنَفْيِ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ فَكَانَ (هَنَّا) إِشَارَةً إِلَى زَمَانٍ مُنْكَرٍ وَهُوَ لُغَةٌ فِي (هُنَا).
وَيَقُولُونَ: يَوْمُ هُنَا، أَيْ يَوْمُ أَوَّلَ، فَيُشِيرُونَ إِلَى زَمَنٍ قَرِيبٍ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَجَازٌ تُوُسِّعَ فِيهِ وَشَاعَ.
وَالِابْتِلَاءُ: أَصْلُهُ الِاخْتِبَارُ، وَيُطْلَقُ كِنَايَةً عَنْ إِصَابَةِ الشِّدَّةِ لِأَنَّ اخْتِبَارَ حَالِ الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ لَازِمٌ لَهَا، وَسَمَّى اللَّهُ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِلَاءً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُزَعْزِعْ إِيمَانَهُمْ.
وَالزِّلْزَالُ: اضْطِرَابُ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُضَاعَفُ زَلَّ تَضْعِيفًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَهُوَ هُنَا
اسْتِعَارَةٌ لِاخْتِلَالِ الْحَالِ اخْتِلَالًا شَدِيدًا بِحَيْثُ تُخَيَّلُ مُضْطَرِبَةً اضْطِرَابًا شَدِيدًا كَاضْطِرَابِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَشَدُّ اضْطِرَابًا لِلِحَاقِهِ أَعْظَمَ جِسْمٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَيُقَالُ: زُلْزِلَ فُلَانٌ، مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ تَبَعًا لِقَوْلِهِمْ: زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ، إِذْ لَا يُعْرَفُ فَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ عُرْفًا. وَهَذَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهِ قَالَ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ الْآيَة [الْبَقَرَة: ٢١٤].
وَالْمُرَادُ بِزَلْزَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ شِدَّةُ الِانْزِعَاجِ وَالذُّعْرِ لِأَنَّ أَحْزَابَ الْعَدُوِّ تَفُوقُهُمْ عددا وعدة.
[١٢- ١٣]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
عَطْفٌ عَلَى وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ [الْأَحْزَاب: ١٠] فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا أُلْحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ ابْتِلَاءً فَبَعْضُهُ مِنْ حَالِ الْحَرْبِ وَبَعْضُهُ مِنْ أَذَى الْمُنَافِقِينَ، لِيَحْذَرُوا الْمُنَافِقِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ، وَلِئَلَّا يَخْشَوْا كَيْدَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُ كَمَا صَرَفَ أَشَدَّهُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ الْمُلْكِ شَيْئًا وَلَوْ حَقِيرًا وَهُوَ الْمُمَثَّلُ بِالْقِطْمِيرِ.
وَالْقِطْمِيرُ: الْقِشْرَةُ الَّتِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ كَالْخَيْطِ الدَّقِيقِ. فَالْمَعْنَى: لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَوْ حَقِيرًا، فَكَوْنُهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْقِطْمِيرِ مَعْلُومٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ أَصْنَامَهُمْ حِجَارَةٌ جَاثِمَةٌ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا بِتَكَسُّبٍ وَلَا تَحُوزُهُ بِهِبَةٍ، فَإِذَا انْتَفَى أَنَّهَا تَمْلِكُ شَيْئًا انْتَفَى عَنْهَا وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَنُفِيَ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنْ تَدْعُوهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [فاطر: ١٣]. وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى عَجْزِ أَصْنَامِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَسْمَعُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَسْمَعُ مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَلِّمُونَهَا وَيُوَجِّهُونَ إِلَيْهَا مَحَامِدَهُمْ وَمَدَائِحَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى الْخَبَرِ وَهِيَ جُمْلَةُ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ فَإِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَيْسَتِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، أَيْ وَلَوْ سَمِعُوا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَمُجَارَاةِ مَزَاعِمِكُمْ حِينَ تَدَّعُونَهَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَجِيبُ لِدَعْوَتِكُمْ، أَيْ لَا تُرَدُّ عَلَيْكُمْ بِقَبُولٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ سَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ، فَطَالَمَا دَعَوُا الْأَصْنَامَ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهَا جَوَابًا وَطَالَمَا دَعَوْهَا فَلَمْ يَحْصُلْ مَا دَعَوْهَا لِتَحْصِيلِهِ مَعَ أَنَّهَا حَاضِرَةٌ بِمَرْأًى مِنْهُمْ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ، فَعَدَمُ إِجَابَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْعَظِيمِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي مَرْضَاتِهِ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ إِمَّا عَجْزُهَا وَإِمَّا أَنَّهَا لَا تَفْقَهُ إِذْ لَيْسَ فِي أَوْلِيَائِهَا مَغْمَزٌ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُرْضَيْنَ لِهَذَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الِاسْتِدْلَالِ الْمُوَطَّأِ بِمُقَدِّمَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: مَا اسْتَجابُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِجَابَةِ الْمُنَادِي بِكَلِمَاتِ الْجَوَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِجَابَةِ السَّائِلِ بِتَنْوِيلِهِ مَا سَأَلَهُ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي
مَعْنَيَيْهِ.
وَلَمَّا كُشِفَ حَالُ الْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا بِمَا فِيهِ تَأْيِيسٌ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا فِيهَا كَمُلَ كَشْفُ أَمْرِهَا فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ يُنْطِقُهَا اللَّهُ فَتَتَبَرَّأُ مِنْ شِرْكِهِمْ، أَيْ تَتَبَرَّأُ مِنْ أَنْ تَكُونَ دَعَتْ لَهُ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ.
إِلَى غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ كِنَايَة عَن قصر مَحَبَّتِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُنَّ يَقْصُرْنَ أَطْرَافَ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ فَلَا تَتَوَجَّهُ أَنْظَارُ أَزْوَاجِهِنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِحُسْنِهِنَّ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَامِ حُسْنِهِنَّ فِي أَنْظَارِ أَزْوَاجِهِنَّ بِحَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ اسْتِحْسَانُهُمْ بِغَيْرِهِنَّ، فَالْأَطْرَافُ الْمَقْصُورَةُ أَطْرَافُ أَزْوَاجِهِنَّ، وَإِسْنَادُ قاصِراتُ إِلَيْهِنَّ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ إِذْ كَانَ حُسْنُهُنَّ سَبَبُ قَصْرِ أَطْرَافِ الْأَزْوَاجِ فَإِنَّهُنَّ ملابسات سَبَب سَبَبَ الْقَصْرِ.
وأَتْرابٌ: جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرِ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ كَانَ عُمْرُهُ مُسَاوِيًا عُمَرُ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ، تَقُولُ: هُوَ تِرْبُ فُلَانٍ، وَهِيَ تِرْبُ فُلَانَةٍ، وَلَا تَلْحَقُ لَفْظَ تَرْبٍ عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُنَّ أَتْرَابٌ بَعْضَهُنَّ لِبَعْضٍ، وَأَنَّهُنَّ أَتْرَابٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِأَنَّ التَّحَابَّ بَيْنَ الْأَقْرَانِ أَمْكَنُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَتْرابٌ وَصْفٌ قَائِمٌ بِجَمِيعِ نِسَاءِ الْجَنَّةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْجَنَّةِ وَمِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي كُنَّ أَزْوَاجًا فِي الدُّنْيَا لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَلَا يَكُونُ بَعْضُهُنَّ أَحْسَنَ شَبَابًا مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَلْحَقُ بَعْضَ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَضٌّ إِذَا كَانَتْ نِسَاءُ غَيْرِهِ أَجَدُّ شَبَابًا، وَلِئَلَّا تَتَفَاوَتَ نِسَاءُ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُتَّقِينَ فِي شَرْخِ الشَّبَابِ، فَيَكُونُ النَّعِيمُ بِالْأَقَلِّ شَبَابًا دُونَ النَّعِيمِ بِالْأَجَدِّ مِنْهُنَّ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ فِي سُورَة الصافات [٤٨].
[٥٣]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ٥٣]
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا قِيلَ لِلْمُتَّقِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٤٩]. وَالْإِشَارَةُ إِذَنْ إِلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَحُسْنَ مَآبٍ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا مُغَايِرٌ لِاسْتِعْمَالِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا ذِكْرٌ [ص: ٤٩]. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْقَرِيبِ تَنْزِيلًا للمشار إِلَيْهِ مَنْزِلَةُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْحَاضِرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مُحَقَّقٌ وُقُوعُهُ تَبْشِيرًا لِلْمُتَّقِينَ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تُوعَدُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»
. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ اسْتَقامُوا: لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وَعَنْ عُمَرَ: اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لِطَاعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: ثُمَّ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ
. فَقَدْ تَوَلَّى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ فِي الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ، وَعِنَايَةُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَقْطَابِ الْإِسْلَامِ بِبَيَانِ الِاسْتِقَامَةِ مُشِيرٌ إِلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي الدَّين.
وتعريب الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوَهُ لِمَا فِي الصِّلَة من الْإِيمَاء إِلَى أَنَّهَا سَبَبُ ثُبُوتِ الْمُسْنَدِ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَيُفِيدُ أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ مُسَبَّبٌ عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبُّنَا اللَّهُ وَاسْتِقَامَتِهِمْ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ هُمَا سَبَبُ الْفَوْزِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ زَائِدَةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهَا تَشْمَلُهُ وَتَشْمَلُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالْعَمَلَ بِمَا يَسْتَدْعِيهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ:
رَبُّنَا اللَّهُ كَانَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنِ اعْتِقَادِ الضَّمِيرِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَيَّةِ.
وَجَمَعَ قَوْلُهُ: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أَصْلَيِ الْكَمَالِ الْإِسْلَامِيِّ، فَقَوْلُهُ: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ مُشِيرٌ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْكَمَالُ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ هِيَ أَسَاسُ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ: اسْتَقامُوا إِلَى أَسَاسِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ أَنْ
يَكُونَ وَسَطًا غَيْرَ مَائِلٍ إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ قَالَ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦] وَقَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣] عَلَى أَنَّ كَمَالَ الِاعْتِقَادِ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَالِاعْتِقَادُ الْحَقُّ أَنْ لَا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّعْطِيلِ، وَلَا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بَلْ يَمْشِي عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ،

[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ٧]

رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧)
هَذَا عَوْدٌ إِلَى مُوَاجَهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى نَحْو مَا ابتدأت بِهِ السُّورَةُ. وَهُوَ تَخَلُّصٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ إِلْزَامًا لَهُمْ بِمَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ نَتِيجَةِ الدَّلِيلِ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ أَلَا تَرَى الْقُرْآنَ يُكَرِّرُ تَذْكِيرَهُمْ بِأَمْثَالِ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: ٢٠، ٢١]، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَ الرُّبُوبِيَّةَ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدُّخان: ٦] ثُمَّ تَفْصِيلًا بِذِكْرِ صِفَةِ عُمُومِ الْعِلْمِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ بِصِيغَةِ قَصْرِ الْقَلْبِ الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْلَمُ. وَبِذِكْرِ صِفَةِ التَّكْوِينِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ تَعَالَى بِإِقْرَارِهِمُ ارْتِقَاءً فِي الِاسْتِدْلَالِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَجَالٌ لِلرَّيْبِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ أَعْقَبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِجُمْلَةِ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِطَرِيقَةِ إِثَارَةِ التَّيَقُّظِ لِعُقُولِهِمْ إِذْ نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ إِيقَانُهُمْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْإِيقَانِ لِلَّهِ بِالْخَالِقِيِّةِ حِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ بِأَنْ أُتِيَ فِي جَانِبِ فَرْضِ إِيقَانِهِمْ بِطَرِيقَةِ الشَّرْطِ، وَأُتِيَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الَّذِي أَصْلُهُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّ السَّماواتِ بِرَفْعِ رَبِّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ بَعْدَ إِجْرَاءِ أَخْبَارٍ أَوْ صِفَاتٍ عَنْ ذَاتٍ ثُمَّ يُرْدِفُ بِخَبَرٍ آخَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ شَخْصٍ: فَتًى يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ. وَهُوَ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَهُ فَهُوَ كَذَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِجَرِّ رَبِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْله: رَبِّكَ [الدُّخان: ٦].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُوقِنِينَ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِجُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الدُّخان: ٨].
الِاضْمِحْلَالِ تَدْخُلُ تَحْتَ حَقِيقَةِ النَّقْصِ فَقَدْ يَفْنَى بَعْضُ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ، وَقَدْ يَأْتِي الْفَنَاءُ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنَّ عَجَبَ الذَّنْبِ لَا يَفْنَى كَانَ فَنَاءُ الْأَجْسَادِ نَقْصًا لَا انْعِدَامًا.
وَعُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ قَوْلُهُ: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى تَذْيِيلٍ لِجُمْلَةِ قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ وَعِنْدَنَا عِلْمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ثَابِتًا فَتَنْكِيرُ كِتابٌ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ تَعْظِيمُ التَّعْمِيمِ، أَيْ عِنْدِنَا كِتَابُ كُلِّ شَيْءٍ.
وحَفِيظٌ فَعِيلٌ: إِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ حَافِظٍ لِمَا جُعِلَ لِإِحْصَائِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ وَمَصَائِرِهَا. وَتَعْيِينِ جَمِيعِ الْأَرْوَاحِ لِذَوَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ مُودَعَةً فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ وَبَثِّ الْأَرْوَاحِ فِيهَا. وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْفُوظٍ مَا فِيهِ مِمَّا قَدْ يَعْتَرِي الْكُتُبَ الْمَأْلُوفَةَ مِنَ الْمَحْوِ وَالتَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ وَالتَّشْطِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْكِتَابُ: الْمَكْتُوبُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الصَّحَائِفِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ حَقِيقَةً بِأَنْ جَعَلَ اللَّهُ كُتُبًا وَأَوْدَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةٍ يُسَجِّلُونَ فِيهَا النَّاسَ حِينَ وَفَيَاتِهِمْ وَمَوَاضِعِ أَجْسَادِهِمْ وَمَقَارِّ أَرْوَاحِهِمْ وَانْتِسَابِ كُلِّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا الْمُعَيَّنِ الَّذِي كَانَتْ حَالَّةً فِيهِ حَالَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا صَادِقًا بِكُتُبٍ عَدِيدَةٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كِتَابُهُ، وَتَكُونُ مِثْلَ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٧، ١٨]، وَقَوْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: ١٣، ١٤]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَعِنْدَنا كِتابٌ تَمْثِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالِ عِلْمِ مَنْ عِنْدَهُ كِتَابٌ حَفِيظٌ يَعْلَمُ بِهِ جَمِيعَ أَعْمَالِ النَّاسِ.
وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَنا كِتابٌ مُسْتَعَارَةٌ لِلْحِيَاطَةِ وَالْحِفْظِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ مَا يُغَيِّرُ مَا فِيهِ أَوْ مَنْ يُبْطِلُ مَا عيّن لَهُ.
جَازَ فِي الْكَذِبِ أَنْ يُجْعَلَ فِي غَيْرِ نُطْقٍ نَحْوَ:
بِأَنْ كَذَبَ الْقَرَاطِفُ وَالْقَرُوفُ (١)
وَاللَّامُ فِي لِوَقْعَتِها لَامُ التَّوْقِيتِ نَحْوُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١]. وَقَوْلُهُمْ: كَتَبْتُهُ لِكَذَا مَنْ شَهْرِ كَذَا، وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَأَصْلُهَا لَامُ الْاِخْتِصَاصِ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اخْتِصَاصِ الْمُوَقَّتِ بِوَقْتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَاف: ١٤٣]. وَهُوَ تَوَسُّعٌ فِي مَعْنَى الْاِخْتِصَاصِ بِحَيْثُ تُنُوسِيَ أَصْلُ الْمَعْنَى.
وَفِي الْحَدِيثِ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ فَقَالَ:
الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا»

. وَهَذَا الْاِسْتِعْمَالُ غَيْرُ الْاِسْتِعْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: ٦].
[٣]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٣]
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣)
خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ ضمير الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةُ: ١]، أَيْ هِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ، أَيْ يَحْصُلُ عِنْدَهَا خَفْضُ أَقْوَامٍ كَانُوا مُرْتَفِعِينَ وَرَفْعُ أَقْوَامٍ كَانُوا مُنْخَفَضَيْنِ وَذَلِكَ بِخَفْضِ الْجَبَابِرَةِ وَالْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي رِفْعَةٍ وَسِيَادَةٍ، وَبِرَفْعِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يعبأون بِأَكْثَرِهِمْ، وَهِيَ أَيْضًا خَافِضَةُ جِهَاتٍ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً كَالْجِبَالِ وَالصَّوَامِعِ، رَافِعَةُ مَا كَانَ مُنْخَفِضًا بِسَبَبِ الْاِنْقِلَابِ بِالرَّجَّاتِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَإِسْنَادُ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْوَاقِعَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ إِذْ هِيَ وَقَتُ ظُهُورِ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ:
خافِضَةٌ رافِعَةٌ مُحْسِّنُ الطباق مَعَ الإغراب بِثُبُوتِ الضِّدَّيْنِ لشَيْء وَاحِد.
[٤- ٧]
_________
(١) أَوله: وذبيانية وصت بنيها.
وَهُوَ معقّر بن حمَار الْبَارِقي.
والقرف: الْأَدِيم. والقرطفة: القطيفة المخملة.
(١٤)
إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُفِيدُهُمْ كَمَالًا وَيُجَنِّبُهُمْ مَا يَفْتِنُهُمْ.
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، فَلَمَّا أَتَوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَجَاءَ مَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ- وَرَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ- أَيْ سَبَقُوهُمْ بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ لِتَأَخُّرِ هَؤُلَاءِ عَنِ الْهِجْرَةِ- فَهَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ عَلَى مَا تَسَبَّبُوا لَهُمْ حَتَّى سَبَقَهُمُ النَّاسُ إِلَى الْفِقْهِ فِي الدِّينِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ:- أَيْ حَتَّى قَوْلِهِ:
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ-. وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ»
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ».
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِ كَانَ ذَا أَهْلٍ وَوَلَدٍ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ بَكَوْا إِلَيْهِ وَرَقَّقُوهُ وَقَالُوا: إِلَى مَنْ تَدَعُنَا، فَيَرِقُّ لَهُمْ فَيَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ. وَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِهِمْ
. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَيَكُونُ مَوْقِعُهَا هَذَا سَبَبَ نُزُولِهَا صَادَفَ أَنْ كَانَ عَقِبَ مَا نَزَلَ قَبْلَهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَسْلِيَةٌ عَلَى مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَمٍّ مِنْ مُعَامَلَةِ أَعْدَائِهِمْ إِيَّاهُمْ وَمِنِ انْحِرَافِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَإِذَا كَانَتِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ كَانَتِ الْآيَةُ ابْتِدَاءَ إِقْبَالٍ عَلَى تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِطَابِ بَعْدَ قَضَاءِ حَقِّ الْغَرَضِ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْأَغْرَاضِ بِأَضْدَادِهَا مِنْ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ، وَثَنَاءٍ أَوْ مَلَامٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِيُوفَّى الطَّرَفَانِ حَقَّيْهِمَا، وَكَانَتْ تَنْبِيهًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَحْوَالٍ فِي عَائِلَاتِهِمْ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لَمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ مُمْتَزِجِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِوَشَائِجِ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَالْوَلَاءِ فَلَمَّا نَاصَبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْعَدَاءَ لِمُفَارَقَتِهِمْ دِينِهِمْ وَأَضْمَرُوا لَهُمُ الْحِقْدَ وَأَصْبَحُوا فَرِيقَيْنِ كَانَ كُلُّ فَرِيقٍ غَيْرَ خَالٍ مِنْ أَفْرَادٍ مُتَفَاوِتِينَ فِي الْمُضَادَّةِ تَبَعًا لِلتَّفَاوُتِ فِي صَلَابَةِ الدِّينِ، وَفِي أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ، وَقَدْ يَبْلُغُ الْعَدَاءُ إِلَى نِهَايَةِ طَرَفِهِ فَتَنْدَحِضُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الْأَوَاصِرِ فَيُصْبِحُ الْأَشَدُّ قُرْبًا أَشَدَّ مَضَرَّةً عَلَى قَرِيبِهِ مِنْ مَضَرَّةِ الْبَعِيدِ.
وَجُمْلَةُ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ إِنَّ بَعْدَ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا يَنْشَأُ عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ مِنْ
تَرَقُّبِ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ مَا مُهِّدَ لَهُ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ، فَبَعْدَ أَنْ شَكَرَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ خَفَّفَ عَنْهُمْ مِنْهُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تُحْصُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقِيَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَنَّكَ تَقُومُ.
وَالْإِحْصَاءُ حَقِيقَتُهُ: مَعْرِفَةُ عَدَدِ شَيْءٍ مَعْدُودٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْحَصَى جَمْعُ حَصَاةٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا عَدُّوا شَيْئًا كَثِيرًا جَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ حَصَاةً وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِطَاقَةِ. شُبِّهَتِ الْأَفْعَالُ الْكَثِيرَةُ مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، بِالْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ، وَبِهَذَا فَسَّرَ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا»
أَيْ وَلَنْ تُطِيقُوا تَمَامَ الِاسْتِقَامَةِ، أَيْ فَخُذُوا مِنْهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ.
وإِنَّ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ إِنَّ وَخَبَرِهَا بِحَرْفِ النَّفْيِ لِكَوْنِ الْخَبَرِ فِعْلًا غَيْرَ دُعَاءٍ وَلَا جَامِدٍ حَسَبَ الْمُتَّبَعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ.
وإِنَّ وَجُمْلَتُهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ إِذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمَ عَدَمَ إِحْصَائِكُمُوهُ وَاقِعًا.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَفِعْلُ تَابَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ قَبْلَ حُصُولِ التَّقْصِيرِ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مُتَوَقَّعٌ فَشَابَهَ الْحَاصِلَ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِمَا يُتَوَقَّعُ التَّقْصِيرُ فِيهِ، بِفِعْلِ تَابَ الْمُفِيدِ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ بَعْدَ حُصُولِهِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُحْصُوهُ وَمَا بَعْدَهُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُومُونَ اللَّيْلَ: إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ، وَإِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُظَنُّ تَعَذُّرُ الْإِحْصَاءِ عَلَيْهِ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِلَخ.
وَمعنى فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ لَا تَخْلُو عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أُتْبِعَ ذَلِكَ بقوله هُنَا: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، أَيْ
وَيُوَجَّهُ الْعُدُولُ عَن مُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ إِلَى مَا جَاءَ النَّظْمُ عَلَيْهِ، بِأَنَّ فِيهِ تَنْزِيلُ الشَّيْءِ الْمُيَسَّرِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُيَسَّرَ لَهُ وَالْعَكْسُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ثُبُوتِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ الْمَقْبُولِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: «عَرَضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ»، وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ:
وَمَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤُهُ كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ
وَقَدْ وَرَدَ الْقَلْبُ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الْقَصَص: ٧٦] وَمِنْهُ الْقَلْبُ التَّشْبِيهُ الْمَقْلُوبُ.
وَالْمَعْنَى: وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ يَسَّرَهُ لِتَلَقِّي أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ فَلَا تَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا تُحْرِجُهُ تَطْمِينًا لَهُ إِذْ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِ إِرْسَالِهِ مُشْفِقًا أَنْ لَا يَفِيَ بِوَاجِبَاتِهَا. أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ قَابِلًا لِتَلَقِّي الْكَمَالَاتِ وَعَظَائِمِ تَدْبِيرِ الْأُمَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَشُقَّ عَلَى الْقَائِمِينَ بِأَمْثَالِهَا.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا التَّيْسِيرِ مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَار أيسرهما»
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ لَا معسّرين»
. [٩- ١٣]
[سُورَة الْأَعْلَى (٨٧) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٣]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)
بَعْدَ أَنْ ثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَفَّلَ لَهُ مَا أَزَالَ فَرَقَهُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ دَفْعِ مَا خَافَهُ مِنْ ضَعْفٍ عَنْ أَدَائِهِ الرِّسَالَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَتَكَفَّلَ لَهُ دَفْعَ نِسْيَانِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ إِنْسَاؤُهُ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَوَعْدُهُ بِأَنَّهُ وَفَّقَهُ وَهَيَّأَهُ لِذَلِكَ وَيَسَّرَهُ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَبْدَأِ عَهْدِهِ بِالرِّسَالَةِ (إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ثَامِنَةَ السُّوَرِ) لَا يَعْلَمُ مَا سَيَتَعَهَّدُ اللَّهُ بِهِ فَيَخْشَى أَنْ يُقَصِّرَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ فَيَلْحَقُهُ غَضَبٌ مِنْهُ أَوْ مَلَامٌ. أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالتَّذْكِيرِ، أَيِ التَّبْلِيغِ، أَيْ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، إِرْهَافًا لِعَزْمِهِ، وَشَحْذًا لِنَشَاطِهِ لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى


الصفحة التالية
Icon