وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ فِي حَتَّى، وَبِقَوْلِ عُثْمَانَ لِكُتَّابِ الْمَصَاحِفِ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي حَرْفٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ لِسَانَ قُرَيْشٍ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ نَزَلَ بِمَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ لُغَتِهِمْ وَمَا غَلَبَ عَلَى لُغَتِهِمْ مِنْ لُغَاتِ الْقَبَائِلِ إِذْ كَانَ عُكَاظٌ بِأَرْضِ قُرَيْشٍ وَكَانَتْ مَكَّةُ مَهْبِطَ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا.
وَلَهُمْ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ بِسَبْعَةِ أَحْرُفٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ الْكَلِمَاتُ الْمُتَرَادِفَةُ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ، أَيْ أُنْزِلَ بِتَخْيِيرِ قَارِئِهِ أَنْ يَقْرَأَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَحْضُرُهُ مِنَ الْمُرَادِفَاتِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُحِيطُوا بِالْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَيَكُونُ تَحْدِيدًا لِلرُّخْصَةِ بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزَ سَبْعَةَ مُرَادِفَاتٍ أَوْ سَبْعَ لَهَجَاتٍ أَيْ مِنْ سَبْعِ لُغَاتٍ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ غَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ لَهَا سِتَّةُ مُرَادِفَاتٍ أَصْلًا، وَلَا فِي كَلِمَةٍ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَبْعُ لَهَجَاتٍ إِلَّا كَلِمَاتٍ قَلِيلَةً مثل أُفٍّ [الْإِسْرَاء: ٢٣] وجِبْرِيلَ [الْبَقَرَة: ٩٨] وأَرْجِهْ [الْأَعْرَاف: ١١١].
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ اللُّغَاتِ السَّبْعِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالْبَاقِلَّانِيُّ هِيَ مِنْ عُمُومِ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَهُمْ: قُرَيْشٌ، وَهُذَيْلٌ، وَتَيْمُ الرِّبَابِ، وَالْأَزْدُ، وَرَبِيعَةُ، وَهَوَازِنُ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ قُرَيْشًا، وَبَنِي دَارِمَ، وَالْعُلْيَا مِنْ هَوَازِنَ وَهُمْ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَجُشَمُ ابْن بَكْرٍ، وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَثَقِيفٌ، قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَفْصَحُ الْعَرَبِ عُلْيَا هَوَازِنَ وَسُفْلَى تَمِيمٍ وَهُمْ بَنُو دَارِمَ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ خُزَاعَةَ وَيَطْرَحُ تَمِيمًا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ هِيَ لُغَاتُ قَبَائِلَ مِنْ مُضَرَ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَهُذَيْلٌ وَكِنَانَةُ وَقَيْسٌ وَضَبَّةُ وَتَيْمُ الرِّبَابِ، وَأَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَكُلُّهَا مِنْ مُضَرَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عِيَاضٌ أَنَّ الْعَدَدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ حَقِيقَتُهُ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالتَّوَسُّعِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَادِفَاتُ وَلَوْ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: ٥] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ)، وَقَرَأَ أُبَيٌّ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢٠] مَرُّوا فِيهِ- سَعَوْا فِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- أَخِّرُونَا- أَمْهِلُونَا، وَأَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخان: ٤٣، ٤٤] فَقَالَ الرَّجُلُ طَعَامَ الْيَتِيمِ، فَأَعَادَ لَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ الْأَثِيمَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ
تَقُولَ طَعَامَ الْفَاجِرِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَاقْرَأْ كَذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَهِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ وَلُغَتُهُمَا وَاحِدَةٌ.
وَأُفِيدَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّذِي هُوَ حُصُولُ الصَّلَوَاتِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى لِلصَّابِرِينَ بِطَرِيقَةِ التَّبْشِيرِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ تَكْرِيمًا لِشَأْنِهِ، وَزِيَادَةً فِي تَعَلُّقِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِحَيْثُ تَحْصُلُ خَيْرَاتُهُمْ بِوَاسِطَتِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ إِسْنَادُ الْبَلْوَى إِلَى اللَّهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الرَّسُولِ، وَإِسْنَادُ الْبِشَارَةِ بِالْخَيْرِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ إِلَى الرَّسُولِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى الصَّبْرِ وَفَضَائِلِهِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: ٤٥].
وَوَصْفُ الصَّابِرِينَ بِأَنَّهُمُ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِلَخْ لِإِفَادَةِ أَنَّ صَبْرَهُمْ أَكْمَلُ الصَّبْرِ إِذْ هُوَ صَبْرٌ مُقْتَرِنٌ بِبَصِيرَةٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ يَعْلَمُونَ عَنْدَ الْمُصِيبَةِ أَنَّهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَجْزَعُونَ مِمَّا يَأْتِيهِمْ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ فَيُثِيبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ هُنَا الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ لِلِاعْتِقَادِ إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا وُضِعَ لِلصِّدْقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُعْتَبَرًا إِذَا كَانَ تَعْبِيرًا عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَلَيْسَ لِمَنْ قَالَ هَاتِهِ الْكَلِمَاتِ بِدُونِ اعْتِقَادٍ لَهَا فَضْلٌ وَإِنَّمَا هُوَ كَالَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ، وَقَدْ عَلَّمَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَامِعَةَ لِتَكُونَ شِعَارَهُمْ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ يَقْوَى بِالتَّصْرِيحِ لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ النَّفْسِ لِلْمُدْرَكَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ ضَعِيفٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّقْوِيَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْحِسِّ، وَلِأَنَّ فِي تَصْرِيحِهِمْ بِذَلِكَ إِعْلَانًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ وَتَعْلِيمًا لَهُ لِلنَّاسِ. وَالْمُصِيبَةُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ [النِّسَاء: ٧٢] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَالتَّوْكِيدُ بِإِنَّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا لِلَّهِ لِأَنَّ الْمُقَامَ مَقَامُ اهْتِمَامٍ، وَلِأَنَّهُ يُنْزِلُ الْمُصَابَ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ كَوْنُهُ مِلْكًا لِلَّهِ تَعَالَى وَعَبْدًا لَهُ إِذْ تُنْسِيهِ الْمُصِيبَةُ ذَلِكَ وَيَحُولُ هَوْلُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُشْدِهِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْمُلْكِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْصُوفُ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ مِثْلُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وَهَذَا بَيَانٌ لِجَزَاءِ صَبْرِهِمْ.
وَالصَّلَوَاتُ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّزْكِيَاتِ وَالْمَغْفِرَاتِ وَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَيْهَا الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ
مِنْ مَعَانِي الصَّلَاةِ مَجَازًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الْأَحْزَاب: ٥٦].
وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّهَا أَقْوَالٌ تُنْبِئُ عَنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِأَحَدٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ
وَجُمْلَةُ مِنْهُ تُنْفِقُونَ حَالٌ، وَالْجَار وَالْمَجْرُور معمولان لِلْحَالِ قُدِّمَا عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا تَقْصِدُوا الْخَبِيثَ فِي حَالِ أَلَّا تُنْفِقُوا إِلَّا مِنْهُ، لِأَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ مِنْ خُصُوصِ رَدِيءِ مَالِهِ. أَمَّا إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ وَمِنَ الرَّدِيءِ فَلَيْسَ بمنهي لَا سِيمَا فِي الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِهِ.
وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» فِي الْبُيُوعِ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ عَامِلًا عَلَى صَدَقَاتِ خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَبِيعُ الصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ بِصَاعٍ مِنْ جَنِيبٍ (١).
فَقَالَ لَهُ: بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»

، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مَنْ كُلِّ نِصَابٍ مِنْ نَوْعِهِ، وَلَكِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يَخُصَّ الصَّدَقَةَ بِالْأَصْنَافِ الرَّدِيئَةِ. وَأَمَّا فِي الْحَيَوَانِ فَيُؤْخَذُ الْوَسَطُ لِتَعَذُّرِ التَّنْوِيعِ غَالِبًا إِلَّا إِذَا أَكْثَرَ عَدَدَهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَقْدِيرِ الظَّرْفِ هُنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَيَمَّمُوا بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ وَصْلًا وَابْتِدَاءً، أَصْلُهُ تَتَيَمَّمُوا، وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِدْغَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ تُنْفِقُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الْحَالِ تَعْلِيلًا لِنَهْيِهِمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَالِ الْخَبِيثِ شَرْعًا بِقِيَاسِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَى اكْتِسَابِهِ قِيَاسَ مُسَاوَاةٍ أَيْ كَمَا تَكْرَهُونَ كَسْبَهُ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكْرَهُوا إِعْطَاءَهُ. وَكَأَنَّ كَرَاهِيَةَ كَسْبِهِ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَدَيْهِمْ مُتَقَرِّرَةً فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ الْخَبِيثِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُنْصَرِفًا إِلَى غَرَضٍ ثَانٍ وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ الْخَبِيثِ وَالْمَعْنَى لَا تَأْخُذُوهُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ مُقْتَضٍ تَحْرِيمَ أَخْذِ الْمَالِ الْمَعْلُومَةِ حُرْمَتُهُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ وَلَا يُحِلُّهُ انْتِقَالُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْإِغْمَاضُ إِطْبَاقُ الْجَفْنِ وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ، فَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الْهَنَاءِ وَالِاسْتِرَاحَةِ لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِغْمَاضِ رَاحَةَ النَّائِمِ قَالَ الْأَعْشَى:

عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي جَفْنًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
_________
(١) الْجمع صنف من التَّمْر رَدِيء والجنيب صنف طيب.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالْبَاءُ سَبَبُ السَّبَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً ثَانِيَةً إِلَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ فَيَكُونُ سَبَبًا ثَانِيًا. (وَمَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَهَذَا نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ فَكُفْرُهُمْ بِالْآيَاتِ سَبَبُهُ الْعِصْيَانُ، وَقَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ سَببه الاعتداء.
[١١٣، ١١٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١١٣ إِلَى ١١٤]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ إِنْصَافُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى مُعْظَمِهِمْ بِصِيغَةٍ تَعُمُّهُمْ، تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: ١١٠] فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ آنِفًا، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا منزلَة التَّمْهِيد.
و (سَوَاء) اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْوِيَةِ.
وَجُمْلَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ إِلَخْ... مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ لَيْسُوا سَواءً وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلِاهْتِمَامِ بهؤلاء الْأمة، فلأمّة هُنَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ.
وَإِطْلَاقُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكتاب: ليَكُون ذَا الثَّنَاءُ شَامِلًا لِصَالِحِي الْيَهُودِ، وَصَالِحِي النَّصَارَى، فَلَا يُخْتَصُّ بِصَالِحِي الْيَهُودِ، فَإِنَّ صَالِحِي الْيَهُودِ قَبْلَ بَعْثَةِ عِيسَى كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ، مُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِعِيسَى وَاتَّبَعُوهُ، وَكَذَلِكَ صَالِحُو النَّصَارَى قَبْلَ
وَالْحَالَةُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ تُؤْذِنُ بِحَالَةٍ مَهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَتُنَادِي عَلَى حَيْرَتِهِمْ وَمُحَاوَلَتِهِمُ التَّمَلُّصَ مِنَ الْعِقَابِ بِسُلُوكِ طَرِيقِ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا أُنْذِرُوا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَجِيءُ شَهِيدٍ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَيُقَدَّرُ بِنَحْوِ: كَيْفَ أُولَئِكَ، أَوْ كَيْفَ الْمَشْهَدُ، وَلَا يُقَدَّرُ بِكَيْفَ حَالِهِمْ خَاصَّةً، إِذْ هِيَ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ مَا مِنْهَا إِلَّا يَزِيدُهُ حَالُ ضِدِّهِ وُضُوحًا، فَالنَّاجِي يَزْدَادُ سُرُورًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْمُوبَقُ يَزْدَادُ تَحَسُّرًا بِمُشَاهَدَةِ حَالِ ضِدِّهِ، وَالْكُلُّ يَقْوَى يَقِينُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِينَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الشَّهِيدَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ مُتَعَلِّقَهُ بِعَلَى أَوِ اللَّامِ: لِيَعُمَّ الْأَمْرَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مِنَ التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٥].
وَ (إِذا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ جِئْنا أَيْ زَمَانِ إِتْيَانِنَا بِشَهِيدٍ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا مِثْلَ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [٨٩] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ فَلِذَلِكَ صَلَحَتْ لِأَنْ يُتَعَرَّفَ اسْمُ الزَّمَانِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِ (كَيْفَ) لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، كَمَا انْتَصَبَ بِمَعْنَى التَّلَهُّفِ فِي قَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ:
وَقَبْلَ غَدٍ يَا لَهْفَ قَلْبِي مِنْ غَدٍ إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ
وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَقَوْلِهِ: بِشَهِيدٍ يَتَعَلَّقَانِ بِ (جِئْنَا). وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [آل عمرَان: ٢٥].
وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ رَسُولُهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُضُورِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ عِنْدَ سَمَاعِهِ اسْمَ الْإِشَارَةِ، وَأَصْلُ الْإِشَارَةِ يَكُونُ إِلَى مُشَاهَدٍ فِي الْوُجُودِ أَوْ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَتَهُ، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ إِشَارَةِ (هؤُلاءِ) مُرَادًا بِهَا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مَعْنًى أُلْهِمْنَا إِلَيْهِ، استقريناه فَكَانَ مُطَابِقًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: ٣٧] وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِمْ يَجْعَلُهُمْ كَالْحَاضِرِينَ فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ تَوْبِيخِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ صَارُوا كَالْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ
ثُمَّ حَدَثَتْ فِيهِمْ فِرْقَةُ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَفِرْقَةُ النَّسْطُورِيَّةِ (١) فِي مَجَامِعٍ أُخْرَى انْعَقَدَتْ بَيْنَ الرُّهْبَانِ. فَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَيُسَمَّوْنَ الْآنَ (أَرْثُودُكْسَ)، ظَهَرُوا فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ السَّادِسِ الْمَسِيحِيِّ، وَهُمْ أَسْبَقُ مِنَ النَّسْطُورِيَّةِ قَالُوا: انْقَلَبَتِ الْإِلَهِيَّةُ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ الْإِلَهُ هُوَ الْمَسِيحُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَسِيحِ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَهِ وَالْأَبْرَصِ فَأَشْبَهَ صُنْعُهُ صُنْعَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ نَصَارَى الْحَبَشَةِ يَعَاقِبَةً، وَسَنَتَعَرَّضُ لِذِكْرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٧٢]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مَرْيَم:
٣٧].
وَالنَّسْطُورِيَّةُ قَالَتْ: اتَّحَدَتِ الْكَلِمَةُ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ بِطَرِيقِ الْإِشْرَاقِ كَمَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةٍ من بلّور، فالمسح إِنْسَانٌ، وَهُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ هُوَ إِنْسَانٌ إِلَهٌ، أَوْ هُوَ لَهُ ذَاتِيَّتَانِ ذَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ وَأُخْرَى إِلَهِيَّةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الرَّئِيسِ الدِّينِيِّ لِهَذِهِ النِّحْلَةِ لَقَبُ (جَاثِلِيقَ).
وَكَانَتِ النِّحْلَةُ النَّسْطُورِيَّةُ غَالِبَةً عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ. وَكَانَ رُهْبَانُ الْيَعَاقِبَةِ وَرُهْبَانُ النَّسْطُورِيِّينَ يَتَسَابَقُونَ لِبَثِّ كُلِّ فَرِيقٍ نِحْلَتَهُ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَكَانَ الْأَكَاسِرَةُ حُمَاةً لِلنَّسْطُورِيَّةِ. وَقَيَاصِرَةُ الرُّومِ حُمَاةً لِلْيَعْقُوبِيَّةِ. وَقَدْ شَاعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بِنِحْلَتَيْهَا فِي بَكْرٍ، وَتَغْلِبَ، وَرَبِيعَةَ، وَلَخْمٍ، وَجُذَامَ، وَتَنُوخَ، وَكَلْبٍ، وَنَجْرَانَ، وَالْيَمَنِ، وَالْبَحْرِينِ. وَقَدْ بَسَطْتُ هَذَا لِيُعْلَمَ حُسْنُ الْإِيجَازِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ وَإِتْيَانِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا. فَلِلَّهِ هَذَا الْإِعْجَازُ الْعِلْمِيُّ.
_________
(١) اليعقوبية منسوبة إِلَى رَاهِب اسْمه يَعْقُوب البرذعاني، كَانَ رَاهِبًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. والنسطورية نِسْبَة إِلَى نسطور الْحَكِيم، رَاهِب ظهر فِي زمن الْخَلِيفَة الْمَأْمُون وَشرح الأناجيل، كَذَا قَالَ الشهرستاني فِي كتاب «الْملَل والنحل»، وَالظَّاهِر أنّه من اشْتِبَاه الْأَسْمَاء فِي أَخْبَار هَذِه النحلة. وَالَّذِي يَقُوله مؤرخو الْكَنِيسَة أنّ نحلة النسطورية مَوْجُودَة من أَوَائِل الْقرن الْخَامِس من التَّارِيخ المسيحي وأنّ مؤسسها هُوَ البطريق نسطوريوس، بطرِيق الْقُسْطَنْطِينِيَّة السوري، الْمَوْلُود فِي حُدُود سنة ٣٨٠ مسيحية والمتوفّى فِي برقة فِي حُدُود سنة ٤٤٠. وَهَاتَانِ النحلتان تعتبران عِنْد الملكانية مبتدعين.
تَكُونَ تِلْكَ الْأُمَّةُ هِيَ أَوَّلُ مَنْ يَتَلَقَّى الدِّينَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْأَدْيَانِ وَأَرْسَخَهَا، وَأَنْ يكون مِنْهُ انبثات الْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ. فَأَقَامَ لَهُمْ بَلَدًا بَعِيدًا عَنِ التَّعَلُّقِ بِزَخَارِفِ الْحَيَاةِ فَنَشَأُوا عَلَى إِبَاءِ الضَّيْمِ، وَتَلَقَّوْا سِيرَةً صَالِحَةً نَشَأُوا بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَأَقَامَ
لَهُمْ فِيهِ الْكَعْبَةَ مَعْلَمًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَضَعَ فِي نُفُوسِهِمْ وَنُفُوسِ جِيرَتِهِمْ تَعْظِيمَهُ حرمته.
وَدَعَا مُجَاوِرِيهِمْ إِلَى حَجِّهِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَسَخَّرَ النَّاسَ لِإِجَابَةِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، فَصَارَ وُجُودُ الْكَعْبَةِ عَائِدًا عَلَى سُكَّانِ بَلَدِهَا بِفَوَائِدَ التَّأَنُّسِ بِالْوَافِدِينَ، وَالِانْتِفَاعِ بِمَا يَجْلِبُونَهُ مِنَ الْأَرْزَاقِ، وَبِمَا يَجْلِبُ التُّجَّارُ فِي أَوْقَاتِ وُفُودِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَأَصْبَحَ سَاكِنُوهُ لَا يَلْحَقُهُمْ جُوعٌ وَلَا عَرَاءٌ. وَجَعَلَ فِي نُفُوسِ أَهْلِهِ الْقَنَاعَةَ فَكَانَ رزقهم كفانا. وَذَلِكَ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إِبْرَاهِيم: ٣٧].
فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قِيَامًا لَهُمْ يَقُومُ بِهِ أَوَدُ مَعَاشِهِمْ. وَهَذَا قِيَامٌ خَاصٌّ بِأَهْلِهِ.
ثُمَّ انْتَشَرَتْ ذُرِّيَّةُ إِسْمَاعِيلَ وَلَحِقَتْ بِهِمْ قَبَائِلٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْقَحْطَانِيِّينَ وَأُهِلَتْ بِلَادُ الْعَرَبِ. وَكَانَ جَمِيعُ أَهْلِهَا يَدِينُ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ مِنَ انْتِشَارِهِمْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُحْدِثَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّغَالُبِ وَالتَّقَاتُلِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّفَانِي، فَإِذَا هُمْ قَدْ وَجَدُوا حُرْمَةَ أَشْهُرِ الْحَجِّ الثَّلَاثَةِ وَحُرْمَةَ شَهْرِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ رَجَبٌ الَّذِي سَنَّتْهُ مُضَرُ (وَهُمْ مُعْظَمُ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ) وَتَبِعَهُمْ مُعْظَمُ الْعَرَبِ. وَجَدُوا تِلْكَ الْأَشْهُرَ الْأَرْبَعَةَ مُلْجِئَةً إِيَّاهُمْ إِلَى الْمُسَالَمَةِ فِيهَا فَأَصْبَحَ السِّلْمُ سَائِدًا بَيْنَهُمْ مُدَّةَ ثُلُثِ الْعَامِ، يصلحون فِيهَا شؤونهم، وَيَسْتَبْقُونَ نُفُوسَهُمْ، وَتَسْعَى فِيهَا سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمْ، فِيمَا نَجَمَ مِنْ تِرَاتٍ وَإِحَنٍ. فَهَذَا مِنْ قِيَامِ الْكَعْبَةِ لَهُمْ، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مِنْ آثَارِ الْكَعْبَةِ إِذْ هِيَ زَمَنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْكَعْبَةِ.
وَقَدْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ لِلْكَعْبَةِ مَكَانًا مُتَّسِعًا شَاسِعًا يُحِيطُ بِهَا مِنْ جَوَانِبِهَا أَمْيَالًا كَثِيرَةً، وَهُوَ الْحَرَمُ، فَكَانَ الدَّاخِلُ فِيهِ آمِنًا. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٦٧]. فَكَانَ ذَلِكَ أَمْنًا مُسْتَمِرًّا لِسُكَّانِ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا، وَأَمْنًا يَلُوذُ إِلَيْهِ مَنْ عَرَاهُ خَوْفٌ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهَا بِالدُّخُولِ إِلَيْهِ عَائِذًا، وَلِتَحْقِيقِ أَمْنِهِ أَمَّنَ اللَّهُ

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٢٥]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
الْفَاءُ مُرَتِّبَةُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَام: ١٢٢] وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَارِيعِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِبْطَالٌ لِتَعَلُّلَاتِهِمْ بِعِلَّةِ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤]، وَأَنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ مَا عَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى حُصُولِهِ، فَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُؤَثِّرِ بِالْحَقِيقَةِ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ وَكُفْرُ الْكَافِرِ، وَهُوَ: هِدَايَةُ اللَّهِ الْمُؤْمِنَ، وَإِضْلَالُهُ الْكَافِرَ، فَذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّأْثِيرِ، دُونَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ لَوْ أُوتُوا مَا سَأَلُوا لَمَا آمَنُوا، حَتَّى يُرِيدَ اللَّهُ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٩٦، ٩٧]- وَكَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١١١].
وَالْهُدَى إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ النَّافِعَةِ: لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِصَابَةُ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ لِلْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَمَجَازُهُ رَشَادُ الْعَقْلِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ مُتَعَلَّقِهِ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّهُ الْهُدَى
لِلْإِسْلَامِ، مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٣] فَهُوَ تَهَكُّمٌ. وَالضَّلَالُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي أَحْوَالٍ مُضِرَّةٍ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمَطْلُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُشْعِرًا بِالضُّرِّ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلَّقُهُ، فَهُوَ هُنَا الِاتِّصَافُ بِالْكُفْرِ لِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ خَيْرِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَالضَّلَالِ عَنِ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ كَانَ الضَّالُّ غَيْرَ طَالِبٍ لِلْإِسْلَامِ، لَكِنَّهُ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ لَطَلَبَهُ.
فَاسِدَةً، وَسْوَسَةً تَقْرِيبًا لِمَعْنَى ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ لِلْأَفْهَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ [النَّاس: ٤] وَهَذَا التّفصيل لِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ كَيْدَهُ انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ عَنْ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ هَذِهِ خِطَابٌ شَامِلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَخْلِيَاءُ عَنِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَنَاسَبَ تَفْظِيعَ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ.
وَاللَّامُ فِي: لِيُبْدِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى حُدُوثِ خَاطِرِ الشَّرِّ فِي النّفوس وَظُهُور السوآت، فَشَبَّهَ حُصُولَ الْأَثَرِ عَقِبَ الْفِعْلِ بِحُصُولِ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨] وَإِنَّمَا الْتَقَطُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ، وَحُسْنُ ذَلِكَ أَن بدوّ سوآتهما مِمَّا يُرْضِي الشَّيْطَانَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامُ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالنَّظَرِ، فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ لِغَرَضِ إِيقَاعِهِمَا فِي الْمَعْصِيَةِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ ذَلِكَ طَبْعُهُ الَّذِي جُبِلَ عَلَى عَمَلِهِ، ثُمَّ لِغَرَضِ الْإِضْرَارِ بِهِمَا، إِذْ كَانَ يعلم أنّهما يعصيان الله بِالْأَكْلِ من الشّجرة، ولمّا كَانَ عدوّا لَهما كَانَ يَسْعَى إِلَى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضى اللَّهِ عَنْهُمَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْعِصْيَانَ يُفْضِي بِهِمَا إِلَى سُوءِ الْحَالِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَكَانَ مَظْهَرُ ذَلِكَ السوء إبداء السوآت، فَجُعِلَ مُفَصِّلُ الْعِلَّةِ الْمُجْمَلَةِ عِنْدَ الْفَاعِلِ هُوَ الْعِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِضْرَارَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي طَبْعِهِ عَدَاوَةُ الْبَشَرِ، كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ، وَفِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦].
وَالْإِبْدَاءُ ضِدُّ الْإِخْفَاءِ، فَالْإِبْدَاءُ كشف الشّيء وَإِظْهَارُهُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بَعْدَ جَهْلِهِ يُقَالُ: بَدَا لِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا.
وَأسْندَ إبداء السوآت إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمجَاز الْعقلِيّ والسوآت جَمْعُ سَوْأَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ وَيُتَعَيَّرُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ، وَمِنْ
وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْقُرْآنِ مَعْرِفَةُ الْحَوَادِثِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٢٦] إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، فَاخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْبَحْثِ عَنْ تَحْقِيقِ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ زِيَادَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ أُفْحِمَ لَمَّا رَأَى قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِوَعِيدِهِ فَلَمْ يَرُدَّ جَوَابًا.
وَذِكْرُهُمُ الْإِسْلَامَ فِي دُعَائِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُمْ حَقِيقَتَهُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَلِمَةَ مُسْلِمِينَ تَعْبِيرُ الْقُرْآنِ عَنْ دُعَائِهِمْ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ عَلَى حَالَةِ الصِّدِّيقِينَ، وَهِيَ الَّتِي يَجْمَعُ لَفْظُ الْإِسْلَامِ تَفْصِيلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٣٢].
[١٢٧، ١٢٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٢٧ إِلَى ١٢٨]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
جُمْلَةُ: قالَ الْمَلَأُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ [الْأَعْرَاف: ١٢٣] أَو على حَملَة قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَاف: ١٠٩]. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ وَلَمْ تُفْصَلْ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ بِمُوسَى وَآيَاتِهِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى ذِكْرِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ، بَلْ هِيَ مُحَاوَرَةٌ بَيْنَ مَلَأِ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَهُ فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَالسَّحَرَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ اكْتِرَاثِ الْمُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِ فِرْعَوْن، وَرَأَوا قلَّة اكتراث الْمُؤمنِينَ بوعيد فِرْعَوْنَ، وَرَأَوْا نُهُوضَ حُجَّتِهِمْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَإِفْحَامَهُ. وَأَنَّهُ لَمْ يُحِرْ جَوَابًا. رَامُوا إِيقَاظَ ذِهْنِهِ، وَإِسْعَارَ حَمِيَّتِهِ، فَجَاءُوا بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُثِيرِ لِغَضَبِ فِرْعَوْنَ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْهُ تَأَثُّرًا بِمُعْجِزَةِ مُوسَى وَمَوْعِظَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِهِ
فَيَكُونُ الْغَزْوُ بِأَيْدِيهِمْ: يَغْزُونَ الْأَعْدَاءَ مَتَى أَرَادُوا، وَكَانَ الْحَالُ أَوْفَقَ لَهُم، وَأَيْضًا ذَا رَهَبُوهُمْ تَجَنَّبُوا إِعَانَةَ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِم.
وَالْمرَاد بالآخرين مِنْ دُونِهِمْ أَعْدَاءٌ لَا يَعْرِفُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّعْيِينِ وَلَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُمْ مَنْ كَانَ يُضْمِرُ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَاوَةً وَكَيْدًا، وَيَتَرَبَّصُ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، مِثْلَ بَعْضِ الْقَبَائِلِ.
فَقَوْلُهُ: لَا تَعْلَمُونَهُمُ أَيْ لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُمْ قَبْلَ هَذَا الْإِعْلَامِ، وَقَدْ عَلِمْتُمُوهُمُ الْآنَ إِجْمَالًا، أَوْ أُرِيدَ: لَا تَعْلَمُونَهُمْ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ وَجُودَهُمْ إِجْمَالًا مِثْلَ الْمُنَافِقِينَ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَلِهَذَا نَصَبَ مَفْعُولًا وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِهِمْ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَا تَنْكَشِفُ عَنْهُ عَاقِبَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ حَرْبِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ دَأْبَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِلِ كَمَا وَرَدَ فِي السِّيرَةِ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ مِنْ دُونِهِمْ بِمَعْنَى: مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، لِأَنَّ أَصْلَ (دُونَ) أَنَّهَا لِلْمَكَانِ الْمُخَالِفِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْمُغَايَرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ إِطْلَاقَاتِ كَلِمَةِ (دُونَ) لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ أَغْنَى عَنْهُ وَصْفُهُمْ بِ آخَرِينَ.
وَجُمْلَةُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِهَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ تَعَقُّبُهُمْ وَالْإِغْرَاءُ بِهِمْ، وَتَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ فَهُوَ يُحْصِي أَعْدَاءَهُمْ وَيُنَبِّهُهُمْ إِلَيْهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ: لِلتَّقَوِّي، أَيْ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ لَازِمِ مَعْنَاهُ، أَمَّا أَصْلُ الْمَعْنَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ إِذْ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا حَمْلُ التَّقْدِيمِ هُنَا عَلَى إِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ فَلَا يَحْسُنُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ بِجُمْلَةِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُونَهُمُ فَلَوْ قِيلَ: وَيَعْلَمُهُمُ اللَّهُ لَحَصَلَ مَعْنَى الْقَصْرِ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ إِعْدَادُ الْقُوَّةِ يَسْتَدْعِي إِنْفَاقًا، وَكَانَتِ النُّفُوسُ شَحِيحَةً بِالْمَالِ، تَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ بِإِخْلَافِ مَا أَنْفَقُوهُ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ فَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ.
وَوَطِئْتَنَا وَطْئًا عَلَى حَنْقٍ وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ
وَهُوَ أَوْفَقُ بِإِسْنَادِ الْوَطْءِ إِلَيْهِمْ.
وَالنَّيْلُ: مَصْدَرُ (يَنَالُونَ). يُقَالُ: نَالَ مِنْهُ إِذَا أَصَابَهُ بِرُزْءٍ. وَبِذَلِكَ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ.
وَحَرْفُ (مِنْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّبُعِيضِ الْمَجَازِيِّ الْمُتَحَقِّقِ فِي الرَّزِيَّةِ. وَرُزْءُ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَعْدَاءِ بِالْأَسْرِ، وَيَكُونُ مِنْ مَتَاعِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِالسَّبْيِ وَالْغُنْمِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ. فَجُمْلَةُ: كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأَغْنَى حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ عَنِ اقْتِرَانِهَا بِقَدْ. وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) عَائِدٌ عَلَى (نَصْبٍ) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ إِمَّا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَإِمَّا لِأَنَّ إِعَادَةَ حَرْفِ النَّفْيِ جَعَلَتْ كُلَّ مَعْطُوفٍ كَالْمُسْتَقِلِّ بِالذِّكْرِ، فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْبَدَلِ كَمَا يُعَادُ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا عَلَى الْمُتَعَاطِفَاتِ بِ (أَوْ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَدِّدَ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمر إِلَّا وَاحِد مِنْهُ. وَمَعْنَى: كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أَنْ يُكْتَبَ لَهُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ عَمَلٌ صَالِحٌ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ عَمَلًا صَالِحًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ عَامِلُوهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ تَصْدُرُ عَنْ أَصْحَابِهَا وَهُمْ ذَاهِلُونَ فِي غَالِبِ الْأَزْمَانِ أَوْ جَمِيعِهَا عَنِ الْغَايَةِ مِنْهَا فَلَيْسَتْ لَهُمْ نِيَّاتٌ بِالتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَهَا لَهُمْ قُرُبَاتٍ بِاعْتِبَارِ
شَرَفِ الْغَايَةِ مِنْهَا. وَذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ عَلَيْهَا ثَوَابًا كَمَا جَعَلَ لِلْأَعْمَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا الْقُرْبَةُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ نَوْمَ الصَّائِمِ عِبَادَةٌ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّذْيِيلُ الَّذِي أَفَادَ التَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَدَلَّ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ مُحْسِنِينَ فَدَخَلُوا فِي عُمُومِ قَضِيَّةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بِوَجْه الإيجاز.
[١٢١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٢١]
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ عِدَادِ الْكُلَفِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُمْ بِلَا قَصْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى بَعْضِ الْكُلَفِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنِ اسْتِشْعَارِ مَنْ تَحِلُّ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ
وَأَصْلُ تَذَكَّرُونَ، تَتَذَكَّرُونَ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ ذَالًا وَأُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ «تَذَكَّرُونَ» بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَبِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَالتَّذَكُّرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فِي آخِرِ سُورَة الْأَعْرَاف [٢٠١].
[٣١]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣١]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
هَذَا تَفْصِيلٌ لِمَا رَدَّ بِهِ مَقَالَةَ قَوْمِهِ إِجْمَالًا، فَهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى نَفْيِ نُبُوَّتِهِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ هُوَ فِي جَوَابِهِمْ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ أَنَّهُ لَمْ يَدَعْ فَضْلًا غَيْرِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١١]، وَلِذَلِكَ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ. وَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ من لَوَازِم النبوءة وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يَعْلَمَ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ. وَالْقَوْلُ بِمَعْنَى الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا انْتِفَاؤُهُ فِي الْمَاضِي فَمَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ، أَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي مُضْمِرٌ ادِّعَاءَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ أَقُلْهُ.
وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهِيَ بَيْتٌ أَوْ مِشْكَاةٌ كَبِيرَةٌ يُجْعَلُ لَهَا بَابٌ، وَذَلِكَ لِخَزْنِ الْمَالِ أَوِ الطَّعَامِ، أَيْ حِفْظِهِ مِنَ الضَّيَاعِ. وَذِكْرُ الْخَزَائِنِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شُبِّهَتِ النِّعَمُ وَالْأَشْيَاءُ النَّافِعَةُ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُدَّخَرُ فِي الْخَزَائِنِ، وَرَمَزَ إِلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْخَزَائِنُ. وَإِضَافَةُ خَزائِنُ إِلَى اللَّهِ لِاخْتِصَاصِ اللَّهِ بِهَا.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ إِشَارَةٌ إِلَى سُجُودِ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ لَهُ هُوَ مِصْدَاقَ رُؤْيَاهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا سُجَّدًا لَهُ.
وَتَأْوِيلُ الرُّؤْيَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ [سُورَة يُوسُف: ٣٦].
وَمَعْنَى قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْأَخْبَارِ الرَّمْزِيَّةِ الَّتِي يُكَاشِفُ بِهَا الْعَقْلُ الْحَوَادِثَ الْمُغَيَّبَةَ عَنِ الْحِسِّ، أَيْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا بَاطِلًا مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ غَلَبَةِ الْأَخْلَاطِ الْغِذَائِيَّةِ أَوِ الِانْحِرَافَاتِ الدِّمَاغِيَّةِ.
وَمَعْنَى أَحْسَنَ بِي أَحْسَنَ إِلَيَّ. يُقَالُ: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَضْمِينِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ. وَقِيلَ: هُوَ بِتَضْمِينِ أَحْسَنَ مَعْنَى لَطَفَ. وَبَاءُ بِي لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ جَعَلَ إِحْسَانَهُ مُلَابِسًا لِي، وَخَصَّ مِنْ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْهِ دُونَ مُطْلَقِ الْحُضُورِ لِلِامْتِيَارِ أَوِ الزِّيَادَةِ إِحْسَانَيْنِ هُمَا يَوْمَ أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ وَمَجِيءِ عَشِيرَتِهِ مِنَ الْبَادِيَةِ.
فَإِنَّ إِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ لِفِعْلِ أَحْسَنَ فَهِيَ بِإِضَافَتِهَا إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ اقْتَضَتْ وُقُوعَ إِحْسَانٍ غَيْرِ مَعْدُودٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَانَ زَمَنَ ثُبُوتِ بَرَاءَتِهِ مِنَ الْإِثْمِ الَّذِي رَمَتْهُ بِهِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَتِلْكَ مِنَّةٌ، وَزَمَنَ خَلَاصِهِ مِنَ السَّجْنِ فَإِنَّ السَّجْنَ عَذَابُ النَّفْسِ بِالِانْفِصَالِ عَنِ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَحِبَّةِ، وَبِخُلْطَةِ مَنْ لَا يُشَاكِلُونَهُ، وَبِشَغْلِهِ عَنْ خَلْوَةِ نَفْسِهِ بِتَلَقِّي الْآدَابِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَانَ أَيْضًا زَمَنَ إِقْبَالِ الْمَلِكِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَجِيءُ أَهْلِهِ فَزَوَالُ أَلَمٍ نَفْسَانِيٍّ بِوَحْشَتِهِ فِي الِانْفِرَادِ عَنْ قَرَابَتِهِ وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِمْ، فَأَفْصَحَ بِذِكْرِ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ، وَمَجِيءِ أَهْلِهِ مِنَ الْبَدْوِ إِلَى حَيْثُ هُوَ مَكِينٌ قَوِيٌّ.
وَأَشَارَ إِلَى مَصَائِبِهِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِبْقَاءِ فِي الْجُبِّ، وَمُشَاهَدَةِ مَكْرِ إِخْوَتِهِ بِهِ بِقَوْلِهِ:
مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، فَكَلِمَةُ بَعْدِ اقْتَضَتْ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ انْقَضَى أَثَرُهُ. وَقَدْ أَلَمَّ بِهِ إِجْمَالًا اقْتِصَارًا عَلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِعْرَاضًا عَنِ التَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الْحَوَادِثِ الْمُكَدِّرَةِ لِلصِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ فَمَرَّ بِهَا مَرَّ الْكِرَامِ وَبَاعَدَهَا عَنْهُمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إِذْ نَاطَهَا بِنَزْغِ الشَّيْطَانِ.
وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِفِعْلِ الْإِنْبَاءِ لِتَشْوِيقِ السَّامِعِينَ إِلَى مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ [سُورَة البروج: ١٧] وَنَحْوِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى الْآتِي: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [سُورَة الْحجر: ٥١]. وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِإِعْلَامِ النَّاسِ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ ابْتِدَاءً بِالْمَوْعِظَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ بِجُزْئِيَّاتِ حَوَادِثِ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُعَانِدِينَ وَإِنْجَاءِ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَائِرٌ بَيْنَ أَثَرِ الْغُفْرَانِ وَبَيْنَ أَثَرِ الْعَذَابِ.
وَقُدِّمَتِ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْعَذَابِ لِسَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ.
وَضَمِيرُ أَنَا وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرَا فَصْلٍ يُفِيدَانِ تَأْكِيدَ الْخَبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: نبىء عِبَادِي إِلَى الرَّحِيمُ من المحسّنات البديعية مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ إِذَا سَكَنَتْ يَاءُ أَنِّي عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَسْكِينِهَا، فَإِنَّ الْآيَةَ تَأْتِي مُتَّزِنَةً عَلَى مِيزَانِ بَحْرِ الْمُجْتَثِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخَبْنُ فِي عَرُوضِهِ وَضُرُبِهِ فَهُوَ مُتَفْعِلُنْ فعلاتن مرَّتَيْنِ.
[٥١- ٥٦]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٦]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
هَذَا الْعَطْفُ مَعَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ بِالْفِعْلِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الصِّيغَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِنْبَاءُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ.
وَتَخْصِيصُ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إِيجَازٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ جُعِلَ زَمَنُ نُوحٍ مَبْدَأً لِقَصَصِ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ، وَاعْتُبِرَ الْقَصَصُ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ زَمَنَ نُوحٍ صَارَ كَالْمُنْقَطِعِ بِسَبَبِ تَجْدِيدِ عُمْرَانِ الْأَرْضِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَلِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي حَلَّ بِقَوْمِهِ عَذَابٌ مَهُولٌ وَهُوَ الْغَرَقُ الَّذِي أَحَاطَ بِالْعَالَمِ.
وَوَجْهُ ذِكْرِهِ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَةَ تَحُولُ دُونَ الِاعْتِبَارِ بِالْعَوَاقِبِ وَدُونَ الِاتِّعَاظِ بِمَا يَحِلُّ بِمَنْ سَبَقَ وَنَاهِيكَ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْعَذَابِ الْمَهُولِ.
وَجُمْلَةُ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً إِقْبَالٌ عَلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُصُوصِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ إِنَّمَا مَآلُهُ إِلَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَصْدِيق
مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ لَجُّوا فِي الْكُفْرِ وَتَفَنَّنُوا فِي التَّكْذِيبِ، فَلَا جَرَمَ خَتَمَ ذَلِكَ بِتَطْمِينِ النَّبِيءِ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ذُنُوبِ الْقَوْمِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُ فَظَاعَتَهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِفِعْلِ كَفى وَبِوَصْفَيْ خَبِيراً بَصِيراً الْمُكَنَّى بِذِكْرِهِمَا عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِهِمُ الْمَرْئِيَّةِ وَالْمَعْلُومَةِ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ أَعْنِي أَعْمَالَهُمْ وَنَوَايَاهُمْ.
وَقَدَّمَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالضَّمَائِرِ وَالنَّوَايَا لِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ فِي الْفَسَادِ وَالصَّلَاحِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْعَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ (كَفَى) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى مَنْ يَنْتَصِرُ لَهُ غَيْرِ رَبِّهِ فَهُوَ كَافِيَةِ وَحَسْبُهُ، قَالَ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْبَقَرَة: ١٣٧] أَوْ إِلَى أَنَّهُ فِي غُنْيَةٍ عَنِ الْهَمِّ فِي شَأْنِهِمْ كَقَوْلِهِ لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦] فَهَذَا إِمَّا تَسْلِيَةٌ لَهُ عَنْ أَذَاهُمْ وَإِمَّا صَرْفٌ لَهُ عَنِ التَّوَجُّعِ لَهُمْ.
وَفِي خِطَابِ النَّبِيءِ بِذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِسَامِعِيهِ من الْكفَّار.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٩- سُورَةُ مَرْيَمَ
اسْمُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَأَكْثَرِ كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةُ مَرْيَمَ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ
عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّيْلَمَيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ وُلِدَتْ لِيَ اللَّيْلَةَ جَارِيَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّيْلَةَ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ مَرْيَمَ فَسَمِّهَا مَرْيَمَ»
. فَكَانَ يُكَنَّى أَبَا مَرْيَمَ، وَاشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ، وَاسْمُهُ نَذِيرٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَنْصَارِيٌّ.
وَابْنُ عَبَّاسٍ سَمَّاهَا سُورَةَ كهيعص، وَكَذَلِكَ وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَأَصَحِّهَا. وَلَمْ يَعُدَّهَا جَلَالُ الدِّينِ فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمَيْنِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَرَ الثَّانِيَ اسْمًا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ آيَةَ السَّجْدَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْقَوْلُ لِاتِّصَالِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ قَبْلَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُلْحِقَتْ بِهَا فِي النُّزُولِ وَهُوَ بَعِيدٌ.

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣١]

وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)
هَذَا مِنْ آثَارِ فَتْقِ الْأَرْضِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا إِذْ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا الْجِبَالَ وَذَلِكَ فَتْقُ تَكْوِينٍ، وَجَعَلَ فِيهَا الطُّرُقَ، أَيِ الْأَرَضِينَ السَّهْلَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَشْيِ فِيهَا عَكْسَ الْجِبَالِ.
وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ، لِأَنَّهَا رَسَتْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ رَسَخَتْ فِيهَا.
وَالْمَيْدُ: الِاضْطِرَابُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ أَنَّ مَعْنَى أَنْ تَمِيدَ أَنْ لَا تَمِيدَ، أَوْ لِكَرَاهَةِ أَنْ تَمِيدَ.
وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ فِجَاجًا. وَلَمَّا كَانَ فِجاجاً مَعْنَاهُ وَاسِعَةٌ كَانَ فِي الْمَعْنَى وَصْفًا لِلسَّبِيلِ، فَلَمَّا قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ انْتُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ إِتْمَامُ الْمِنَّةِ بِتَسْخِيرِ سَطْحِ الْأَرْضِ لِيَسْلُكُوا مِنْهَا طُرُقًا وَاسِعَةً وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ مَسَالِكَ ضَيِّقَةٍ بَيْنَ الْجبَال كَأَنَّهَا الأودية.
وَالْفِجَاجُ: جَمْعُ فَجٍّ. وَالْفَجُّ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ.
وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ: الطَّرِيقُ مُطْلَقًا.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ إِنْشَاءً رَجَاءَ اهْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ مُشَاهَدَةٌ لَهُمْ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بالاهتداء الاهتداء فِي السَّيْرِ، أَيْ جَعْلِنَا سُبُلًا وَاضِحَةً غَيْرَ مَحْجُوبَةٍ بِالضِّيقِ إِرَادَةَ اهْتِدَائِهِمْ فِي سَيْرِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى وَهُوَ تَدْبِيرُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى نَحْوٍ مَا يُلَائِمُ الْإِنْسَانَ وَيُصْلِحُ أَحْوَالَهُ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مِنَ الْكَلَام الموجه.
ثُمَّ جَاءَتْ جُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً نَتِيجَةً عَقِبَ الِاسْتِدْلَالِ، فَجَاءَتْ مُسْتَأْنَفَةً لِأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهَا فَهِيَ تَصْرِيحٌ بِمَا كُنِيَ عَنْهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ تَكْذِيبِ دَعْوَتِهِ، فَاسْتَخْلَصُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حَالَهُ مُنْحَصِرٌ فِي أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِرْسَالِ. وَضَمِيرُ إِنْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.
فَجُمْلَةُ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً صِفَةٌ لِ رَجُلٌ وَهِيَ مُنْصَبُّ الْحَصْرِ فَهُوَ مِنْ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيًّا، أَيْ لَا كَمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ.
وَإِنَّمَا أَجْرَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ رَجُلٌ مُتَابَعَةً لِوَصْفِهِ بِالْبَشَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَقْرِيرًا لِدَلِيلِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلرِّسَالَةِ فِي زَعْمِهِمْ، أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا مَثْلَهُمْ فَهُوَ رَجُلٌ كَاذِبٌ.
وَالِافْتِرَاءُ: الِاخْتِلَاقُ. وَهُوَ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِلْمُخْبِرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٣].
وَإِنَّمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ دَلَالَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِعْلَانًا بِالتَّبَرِّي مِنْ أَنْ يَنْخَدِعُوا لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى حَالِ خِطَابِ الْعَامَّةِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِفَادَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ التَّقْوِيَةَ كَالْقَوْلِ فِي وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا حُكِيَ مِنْ صَدِّ الْمَلَأِ النَّاسَ عِنْدَ اتِّبَاعِهِ وَإِشَاعَتِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ وَتَلْفِيقِهِمُ الْحُجَجَ الْبَاطِلَةَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا
وَجَعَلَ الْخَبَرَ عَنِ الْكَافِرِ خَبَرًا لِ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُ بِالْخَبَرِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ مُعْتَادٌ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ.
وَالظَّهِيرُ: الْمُظَاهِرُ، أَيِ الْمُعِينُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٨] وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، أَيْ مَظَاهِرٍ مِثْلَ حَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، وَعَوِينٍ بِمَعْنَى مُعَاوِنٍ. وَقَوْلُ عمر بن معد يكرب:
أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَمَجِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ غَيْرُ عَزِيزٍ». وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: ظَاهَرَ عَلَيْهِ، إِذَا أَعَانَ مَنْ يُغَالِبُهُ عَلَى غَلَبِهِ، وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ اسْمُ الظَّهْرِ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْمُعَاوِنَ أَحَدًا عَلَى غَلَبِ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ يَحْمِلُ الْغَالِبَ عَلَى الْمَغْلُوبِ كَمَا يُحْمَلُ عَلَى ظَهْرِ الْحَامِلِ، جَعَلَ الْمُشْرِكَ فِي إِشْرَاكِهِ مَعَ وُضُوحِ دَلَالَةِ عَدَمِ اسْتِئْهَالِ الْأَصْنَامِ لِلْإِلَهِيَّةِ كَأَنَّهُ يَنْصُرُ الْأَصْنَامَ عَلَى رَبِّهِ الْحَقِّ. وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكَافِرَ عَاقٌّ لِمَوْلَاهُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: ظَهِيرٌ بِمَعْنَى مَظْهُورٍ، أَيْ كُفْرُ الْكَافِرِ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، يَعْنِي أَيْ فَعِيلًا فِيهِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلى مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ كانَ أَيْ كَانَ عَلَى الله هيّنا.
[٥٦، ٥٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
لَمَّا أَفْضَى الْكَلَامُ بِأَفَانِينِ انْتِقَالَاتِهِ إِلَى التَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ أعقب بِمَا يومىء إِلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَى
الرِّسَالَةِ بِنِسْبَةِ مَا بَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ إِلَى الْإِفْكِ، وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهُ سِحْرٌ، فَأُبْطِلَتْ دَعَاوِيهِمْ كُلُّهَا بِوَصْفِ النَّبِيءِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَصْرُهُ عَلَى صِفَتَيِ التَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ الْوَارِدُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ جَامِعٌ بَيْنَ إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ لِرِسَالَتِهِ وَبَيْنَ تَأْنِيسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضِلٍّ وَلَكِنَّهُ مُبَشِّرٌ وَنَذِيرٌ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ.
ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ طَامِعٍ مِنْ دَعْوَتِهِمْ فِي أَنْ يَعْتَزَّ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ
فَتَحْرِيمُ الْمَكَانِ: مَنْعُ مَا يَضُرُّ بِالْحَالِّ فِيهِ. وَتَحْرِيمُ الزَّمَانِ، كَتَحْرِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:
مَنْعُ مَا فِيهِ ضُرٌّ لِلْمَوْجُودِينَ فِيهِ.
وَتَعْقِيبُ هَذَا بِجُمْلَةِ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ إِضَافَةِ رُبُوبِيَّتِهِ إِلَى الْبَلْدَةِ اقْتِصَارُ مُلْكِهِ عَلَيْهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الْإِضَافَةَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَا لِتَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِتَعْيِينِ مَظْهَرِ مُلْكِهِ.
وَتَكْرِيرُ (أُمِرْتُ) فِي قَوْلِهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ أَمْرٌ يَعْمَلُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَهُوَ أَمْرُ إِلْهَامٍ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ قَبْلِ الرِّسَالَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي أَمْرٌ يَقْتَضِي الرِّسَالَةَ وَقَدْ شَمِلَ دَعْوَةَ الْخَلْقِ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُكَرِّرْ (أُمِرْتُ) فِي قَوْله وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِسْلَامِ والتلاوة من شؤون الرِّسَالَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَنْوِيهٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ جَعَلَ الله رَسُوله من آحَادَهَا، وَذَلِكَ نُكْتَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا.
وَالتِّلَاوَةُ: قِرَاءَةُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [الْبَقَرَة: ١٢١]، وَقَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ التِّلَاوَةِ لِظُهُورِهِ، أَي أَن أتلوا الْقُرْآنَ عَلَى النَّاسِ. وَفُرِّعَ عَلَى التِّلَاوَةِ مَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى مُهْتَدٍ وَضَالٍّ، أَيْ مُنْتَفِعٍ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ مُنْتَفِعٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا كَانَ اهْتِدَاؤُهُ لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ. وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي تَحْرِيضِ السَّامِعِينَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعَهُ كَمَا آذَنَتْ بِهِ اللَّامُ.
وَإِظْهَارُ فِعْلِ الْقَوْلِ هُنَا لِتَأْكِيدٍ أَنَّ حَظَّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَعْوَةِ الْمُعْرِضِينَ الضَّالِّينَ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ الْإِنْذَارَ فَلَا يَطْمَعُوا أَنْ يَحْمِلَهُ إِعْرَاضُهُمْ عَلَى أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِمْ قَبُولَ دَعْوَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُنْذِرِينَ: الرُّسُلُ، أَيْ إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ مِنَ الرُّسُلِ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَسُنَّتِي سُنَّةُ من أرسل من الرُّسُل قَبْلِي وَهِيَ التَّبْلِيغُ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النَّحْل: ٣٥].
وَجُمْلَةُ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَالشِّدَّةُ: صَلَابَةُ جِسْمٍ، وَتُسْتَعَارُ بِكَثْرَةٍ لِقُوَّةِ صِفَةٍ مِنَ الْأَوْصَافِ فِي شَيْءٍ تَشْبِيهًا لِكَمَالِ الْوَصْفِ وَتَمَامِهِ بِالصَّلَابَةِ فِي عُسْرِ التَّحَوُّلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٣٣].
وَالْقُوَّةُ: حَالَةٌ بِهَا يُقَاوِمُ صَاحِبُهَا مَا يُوجِبُ انْخِرَامَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قُوَّةُ الْبَدَنِ، وَقُوَّةُ الْخَشَبِ، وَتُسْتَعَارُ الْقُوَّةُ لِمَا بِهِ تُدْفَعُ الْعَادِيَةُ وَتَسْتَقِيمُ الْحَالَةُ فَهِيَ مَجْمُوعُ صِفَاتٍ يَكُونُ بِهَا بَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ كَمَا فِي قَوْله: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ [النَّمْل: ٣٣] فَقُوَّةُ الْأُمَّةِ مَجْمُوعُ مَا بِهِ تَدْفَعُ الْعَوَادِيَ عَنْ كِيَانِهَا وَتَسْتَبْقِي صَلَاحَ أَحْوَالِهَا مِنْ عُدَدٍ حَرْبِيَّةٍ وَأَمْوَالٍ وَأَبْنَاءٍ وَأَزْوَاجٍ. وَحَالَةُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَا تُدَانِي أَحْوَالَ تِلْكَ الْأُمَمِ فِي الْقُوَّةِ، وَنَاهِيكَ بِعَادٍ فَقَدْ كَانُوا مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ فِي الْقُوَّةِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ فِي جِنْسِهِ بِأَنَّهُ عَادِيٌّ نِسْبَةً إِلَى عَادٍ.
وَعَطْفُ أَثارُوا عَلَى كانُوا فَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِثَارَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ تَحْرِيكُ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ، فَالْإِثَارَةُ: رَفْعُ الشَّيْءِ الْمُسْتَقِرِّ وَقَلْبُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨] أَيْ: تَسُوقُهُ وَتَدْفَعُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
وَأُطْلِقَتِ الْإِثَارَةُ هُنَا عَلَى قَلْبِ تُرَابِ الْأَرْضِ بِجَعْلِ مَا كَانَ بَاطِنًا ظَاهِرًا وَهُوَ الْحَرْثُ، قَالَ تَعَالَى: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ [الْبَقَرَة: ٧١]، وَقَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ بَقَرَ الْوَحْشِ إِذَا حَفَرَتِ التُّرَابَ:
يُثِرْنَ الْحَصَى حَتَّى يُبَاشِرْنَ بَرْدَهُ إِذَا الشَّمْسُ مَجَّتْ رِيقَهَا بِالْكَلَاكِلِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَثارُوا هُنَا تَمْثِيلًا لِحَالِ شِدَّةِ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَتَغَلُّبِهِمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ بِحَالِ مَنْ يُثِيرُ سَاكِنًا وَيُهَيِّجُهُ، وَمِنْهُ أُطْلِقَتِ الثَّوْرَةُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَنْسَبُ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْأُمَمِ بِالْقُوَّةِ وَالْمَقْدِرَةِ مِنِ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْإِثَارَةُ بِمَعْنَى حَرْثِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْعِمَارَةِ. وَضَمِيرُ أَثارُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ كانُوا أَشَدَّ.
وَمَعْنَى عِمَارَةِ الْأَرْضِ: جَعْلُهَا عَامِرَةً غَيْرَ خَلَاءٍ وَذَلِكَ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ.
لِلشَّعْبِ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا (وَنُورًا لِلْأُمَمِ) (مُبَشِّرًا) لِنَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ (وَنَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا) لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ (وَآذَانًا صُمًّا) الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ (وَقُلُوبًا غُلْفًا). أَنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمِي وَمَجْدِي لَا أُعْطِيهِ لِآخَرَ» (بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا الله).
[٤٧]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٤٧]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا أَرْسَلْناكَ [الْأَحْزَاب: ٤٥] عَطَفَ الْإِنْشَاءَ عَلَى الْخَبَرِ لَا مَحَالَةَ
وَهِيَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ إِذْ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا تَأْوِيلٌ مِمَّا تَأَوَّلَهُ الْمَانِعُونَ لِعَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَهُمُ الْجُمْهُور والزمخشري والتفتازانيّ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١١- ١٣]، فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ مُتَلَبِّسًا بِتِلْكَ الصِّفَات الْخمس. وَهَذَا أَمَرٌ لَهُ بِالْعَمَلِ بِصِفَةِ الْمُبَشِّرِ، فَلِاخْتِلَافِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ عُطِفَتْ هَذِهِ عَلَى الْأُولَى.
وَالْفَضْلُ: الْعَطَاءُ الَّذِي يَزِيدُهُ الْمُعْطِي زِيَادَةً عَلَى الْعَطِيَّةِ. فَالْفَضْلُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَطِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فَضْلًا إِلَّا إِذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْعَطِيَّةِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الْمَوْعُودَ بِهَا وَزِيَادَةً مِنْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس:
٢٦].
وَوصف كَبِيراً مُسْتَعَارٌ لِلْفَائِقِ فِي نَوْعِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ لِي أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (١) : هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ عِنْدِي فِي كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ قد أَمر نبيئه أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ فَضْلًا كَبِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَضْلَ الْكَبِيرَ مَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى:
٢٢] فَالْآيَةُ الَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَبَرٌ، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي حم عسق تَفْسِيرٌ لَهَا اهـ.
[٤٨]
_________
(١) هُوَ أَبُو بكر بن غَالب بن عَطِيَّة الْقَيْسِي الغرناطي الْمَالِكِي مفتي غرناطة، توفّي بهَا سنة ٥١٨.
وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ موكولة إِلَى اخْتِيَار أَهْلِ اللِّسَانِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ» فِي بَابِ تَعْدِيَةِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِأَنَّ أَصْلَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: نَحْنُ عَلَّمْنَاهُ الْقُرْآنَ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ، فَالْقُرْآنُ مُوحًى إِلَيْهِ بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ وَالَّذِي أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَإِذَنْ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنَ الشِّعْرِ فِي شَيْءٍ، فَكَانَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنَ اللَّازِمِ إِلَى الْمَلْزُومِ.
وَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، أَيْ لَيْسَ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ إِيَّاهُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا وَمَا هُوَ بِشِعْرٍ. وَالتَّعْلِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَحْيِ، أَيْ وَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ الشَّعْرَ فَقَدْ أُطْلِقَ التَّعْلِيمُ عَلَى الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْم: ٤، ٥] وَقَالَ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النِّسَاء: ١١٣].
وَكَيْفَ يَكُونُ الْقُرْآنُ شِعْرًا وَالشِّعْرُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى لَهُ مَعَانٍ مُنَاسِبَةٌ لِأَغْرَاضِهِ الَّتِي أَكْثَرَهَا هَزْلٌ وَفُكَاهَةٌ، فَأَيْنَ الْوَزْنُ فِي الْقُرْآنِ، وَأَيْنَ التَّقْفِيَةُ، وَأَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي ينتجها الشُّعَرَاء، وَأَيْنَ نَظْمُ كَلَامِهِمْ مِنْ نَظْمِهِ، وَأَسَالِيبُهُمْ مِنْ أَسَالِيبِهِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ فِي الْوَقَاحَةِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْبَلَاغَةِ قَوْلٌ مِثْلُ هَذَا وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِيهِ بِحَالٍ، فَمَا قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بُهْتَانٌ.
وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ مِنْ تَسَاوِي الْفَوَاصِلِ لَا يَجْعَلُهَا مُوَازِيَةً لِلْقَوَافِي كَمَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْهُمْ وَكُلُّ مَنْ زَاوَلَ مَبَادِئَ الْقَافِيَةِ مِنَ الْمُوَلَّدِينَ، وَلَا أَحْسَبُهُمْ دَعَوْهُ شِعْرًا إِلَّا تَعَجُّلًا فِي الْإِبْطَالِ، أَوْ تَمْوِيهًا عَلَى الْإِغْفَالِ، فَأَشَاعُوا فِي الْعَرَبِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاعِرٌ، وَأَنَّ كَلَامَهُ شِعْرٌ. وَيَنْبَنِي عَنْ هَذَا الظَّنِّ خَبَرُ أُنَيْسِ بْنِ جُنَادَةَ الْغِفَارِيِّ أَخِي أَبِي ذَرٍّ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ قَالَا: «قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَاسْتَمِعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَ
وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي
تَأْمُرُونِّي اعْتِرَاضًا أَوْ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: أَأَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ حَالَ كَوْنِكُمْ تَأْمُرُونَنِي بِذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ «وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»
. وَقَرَأَ نَافِعٌ تَأْمُرُونِّي بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى حَذْفِ وَاحِدَةٍ مِنَ النُّونَيْنِ اللَّتَيْنِ هَمَّا نُونُ الرَّفْعِ وَنُونُ الْوِقَايَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَحْذُوفَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحجر: ٥٤]، وَفَتَحَ نَافِعٌ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّفَادِي مِنَ الْمَدِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَأْمُرُونِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ إِدْغَامًا لِلنُّونَيْنِ مَعَ تَسْكِينِ الْيَاءِ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَأْمُرُونَنِي بِإِظْهَارِ النُّونَيْنِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ.
وَنِدَاؤُهُمْ بِوَصْفِ الْجَاهِلِينَ تَقْرِيعٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا بِالْخُسْرَانِ لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ نَقْصِ الْآخِرَةِ وَنَقْصِ الدُّنْيَا. وَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا دَلَالَةَ الدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَمْ تُفِدْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَعَمُوا عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمَسْمَعٍ فَجَهِلُوا دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّانِعِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا الْحَظُّ مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى تَدَلَّوْا إِلَى حَضِيضِ عِبَادَةِ أَجْسَامٍ مِنَ الصَّخْرِ الْأَصَمِّ. وَإِطْلَاقُ الْجَهْلِ عَلَى ضِدِّ الْعِلْمِ إِطْلَاقٌ عَرَبِيٌّ قَدِيمٌ قَالَ النَّابِغَةُ:
يُخْبِرْكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمِهِمْ وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ علما
وَقَالَ السموأل أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيُّ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ فَلَيْسَ سَوَاءٌ عَالِمٌ وَجَهُولُ
وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْجاهِلُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ كَأَنَّ الْجَهْلَ صَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً فَلَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا فَهُمْ جَاهِلُونَ بِمَا أَفَادَتْهُ الدَّلَائِلُ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي لَوْ عَلِمُوهَا لَمَا أَشْرَكُوا وَلَمَا دَعَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اتِّبَاعِ شِرْكِهِمْ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ الْكَامِلَةِ جَهْلًا أَطْمَعَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَأَنْ يَسْتَزِلُّوهُ
وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَخْ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. وَتَنْكِيرُ كَلِمَةٌ لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ كَلِمَةً مِنَ اللَّهِ فِي تَأْجِيلِهِمْ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة:
٧]. وَتَنْكِيرُ أَجَلٍ أَيْضًا لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْمُتَفَرِّقِينَ أَجَلًا مُسَمًّى، فَهِيَ آجَالٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَمُخْتَلِفَةٌ بِالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ إِمْهَالِهِمْ وَتَأْخِيرِ مُؤَاخَذَتِهِمْ إِلَى أَجَلٍ لَهُمُ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَرُبَّمَا أَخَّرَهُمْ ثُمَّ عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَرُبَّمَا أَخَّرَهُمْ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى، وَلِكُلِّ ذَلِكَ كَلِمَتُهُ. فَالْكَلِمَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ
لِلْإِرَادَةِ وَالتَّقْدِيرِ. وَسَبْقُهَا تَقَدُّمُهَا مِنْ قَبْلِ وَقْتِ تَفَرُّقِهِمْ وَذَلِكَ سَبْقُ عِلْمِ اللَّهِ بِهَا وَإِرَادَتِهِ إيّاها على وقف عَلِمَهُ وَقَدَّرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ وَفِي سُورَةِ طه.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِلَى قَوْلِهِ: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣]، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمَوْجُودُونَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رُسُلِهِمْ أُمَّتَانِ مَوْجُودَتَانِ فِي حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكَانَتَا قَدْ تَفَرَّقَتَا فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ الْعِلْمُ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَكَانُوا لَمَّا بَلَغَتْهُمْ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكُّوا فِي انْطِبَاقِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ بِوَصْفِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا تَفَرَّقَ أَسْلَافُهُمْ فِي الدِّينِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَفَرَّقَ خَلَفُهُمْ مِثْلَهُمْ وَزَادُوا تَفَرُّقًا فِي تَطْبِيقِ صِفَاتِ النَّبِيءِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَفَرُّقًا نَاشِئًا عَنِ التَّرَدُّدِ
عَلَى إِفْكُهُمْ عَطْفُ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ، فَإِنَّ زَعْمَهُمُ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كَذِبٌ مَرْوِيٌّ مِنْ قَبْلُ فَهُوَ إِفْكٌ.
وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ فَذَلِكَ افْتِرَاءٌ اخْتَرَعُوهُ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ افْتِرَاءَهُمْ رَاسِخٌ فِيهِمْ. وَمَجِيءُ يَفْتَرُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ افتراءهم متكرر.
[٢٩- ٣٢]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : الْآيَات ٢٩ إِلَى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
هَذَا تأييد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ سَخَّرَ اللَّهُ الْجِنَّ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ فَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدَّقًا عِنْدَ الثَّقَلَيْنِ وَمُعَظَّمًا فِي الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِرَسُولٍ قَبْلَهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْجِنِّ تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْجِنَّ وَهُمْ مِنْ عَالَمٍ آخَرَ عَلِمُوا الْقُرْآنَ وَأَيْقَنُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ وَهُمْ مِنْ عَالَمِ الْإِنْسِ وَمِنْ جنس
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ وَمِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ لَمْ يَزَالُوا فِي رَيْبٍ مِنْهُ وَتَكْذِيبٍ وَإِصْرَارٍ، فَهَذَا مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ لِأَحْوَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ مَوْعِظَتُهُمْ بِحَالِ مُمَاثَلِيهِمْ فِي الْكُفْرِ مِنْ جِنْسِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ إِيمَانِ الْجِنِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: ١٨].
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ [الْأَحْقَاف: ٢١] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ هُنَا إِذْ صَرَفْنا بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
حَالَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ إِشْفَاقَهُمْ وَاسْتِغْفَارَهُمْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُشْفِقِينَ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةُ. وَيَتَعَلَّقُ فِي أَهْلِنا بِ كُنَّا، أَيْ حِينَ كُنَّا فِي نَاسِنَا فِي الدُّنْيَا. فِ أَهْلِنا هُنَا بِمَعْنَى آلِنَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُقَالَةُ صَادِرَةً مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يُخَاطِبُونَ ذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ سَيَلْحَقُونَ بِهِمْ: فَالْمَعْنَى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ مُشْفِقِينَ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ مُشْفِقِينَ لِأَجْلِكُمْ.
وَمَعْنَى فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا مَنَّ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ عَنْكُمْ فَأَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وَوَقَانَا أَنْ يُعَذِّبَكُمْ بِالنَّارِ. فَلَمَّا كَانَ عَذَابُ الذُّرِّيَّاتِ يُحْزِنُ آبَاءَهُمْ جُعِلَتْ وِقَايَةُ الذُّرِّيَّاتِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ وِقَايَةِ آبَائِهِمْ فَقَالُوا: وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ إِغْرَاقًا فِي الشُّكْرِ عَنْهُمْ وَعَنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، أَيْ فَمَنَّ عَلَيْنَا جَمِيعًا وَوَقَانَا جَمِيعًا عَذَابَ السَّمُومِ.
وَالسَّمُومِ بِفَتْحِ السِّينِ، أَصْلُهُ اسْمُ الرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ جِهَةٍ حَارَّةٍ جِدًّا فَتَكُونُ جَافَّةً شَدِيدَةَ الْحَرَارَةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ تُهْلِكُ مِنْ يَتَنَشَّقَهَا. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى رِيحِ جَهَنَّمَ
عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ بِالْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، كَمَا أُطْلِقَتْ عَلَى الْعُنْصُرِ النَّارِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٢٧] وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ بِالْمَأْلُوفِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ تَعْلِيلٌ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُمْ، أَيْ كُنَّا مِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ نَدْعُوهُ، أَيْ فِي الدُّنْيَا.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ نَدْعُوهُ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ كُنَّا نَبْتَهِلُ إِلَيْهِ فِي أُمُورِنَا، وَسَبَبُ الْعُمُومِ دَاخِلٌ ابْتِدَاءً، وَهُوَ الدُّعَاءُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِذُرِّيَّاتِهِمْ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَبِنَوَالِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي دَارِ الْحَقِيقَةِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ إِلْهَامٍ وَمَعْرِفَةٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الصَّالِحِينَ لِأَبْنَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَى إِجَابَةِ دُعَاءِ
أَرَادَ أَنْ يكون رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبًا لِأَعْدَائِهِ وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَغْلِبُهَا شَيْءٌ وَقَدْ كَتَبَ لِجَمِيعِ رُسُلِهِ الْغَلَبَةَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَغَلَبَتُهُمْ مِنْ غَلَبَةِ اللَّهِ إِذْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْأَشْيَاءِ على وفْق إِرَادَته وَإِرَادَة اللَّهِ لَا يُغَيِّرُهَا شَيْءٌ، وَالْإِرَادَةُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ وَمَجْمُوعُ تَوَارُدِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَوْجُودِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَضَاءِ. وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِ كَتَبَ اللَّهُ لِأَنَّ الْكِتَابَة استعيرت الْمَعْنى: قَضَى اللَّهُ ذَلِكَ وَأَرَادَ وُقُوعَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَهُ وَأَرَادَهُ فَهُوَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا يَتَخَلَّفُ مِثْلُ الْأَمْرِ الَّذِي يُرَادُ ضَبْطُهُ وَعَدَمُ الْإِخْلَالِ بِهِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لِكَيْ لَا يُنْسَى وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُجْحَدَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ.
فَثَبت لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَلَبَةُ لِشِمُولِ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لِرُسُلِهِ إِيَّاهُ وَهَذَا إِثْبَاتٌ لِغَلَبَةِ رَسُولِهِ أَقْوَامًا يُحَادُّونَهُ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ.
فَجُمْلَةُ لَأَغْلِبَنَّ مَصُوغَةٌ صِيغَةُ الْقَوْلِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ كَتَبَ إِلَى مَعْنَى قَضَى وَقَدَّرَ. وَالْمَعْنَى: قَضَى مَدْلُولَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، أَيْ قَضَى بِالْغَلَبَةِ لله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ مِنَ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ: الْغَلَبَةُ بِالْقُوَّةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّهْدِيدِ.
وَأَمَّا الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ فَأَمْرٌ مَعْلُومٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ لَأَغْلِبَنَّ لِأَنَّ الَّذِي يُغَالِبُ الْغَالِبَ مَغْلُوبٌ. قَالَ حَسَّانُ:
زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا وَلْيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ
[٢٢]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ٢٢]
لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.
كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ قَرَابَةٌ بِكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ نِفَاقُهُمْ لَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ مِنْ مُوَادَّةِ مَنْ يُعَادِي الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِيَتْ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ قُوَّةَ أَسَانِيدَ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦٨- سُورَةُ الْقَلَمِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» سُورَةَ ن وَالْقَلَمِ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا، أَيْ سُورَةُ هَذَا اللَّفْظِ.
وَتَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ سُورَةَ ن بِالْاقْتِصَارِ عَلَى الْحَرْفِ الْمُفْرَدِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ مِثْلُ مَا سُمِّيَتْ سُورَةُ ص وَسُورَةُ ق.
وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ سُمِّيَتْ سُورَةُ الْقَلَمِ وَكَذَلِكَ رَأَيْتُ تَسْمِيَتَهَا فِي مُصْحَفٍ مَخْطُوطٍ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: أَوَّلُهَا مَكِّيٌّ، إِلَى قَوْلِهِ:
عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَم: ١٦] وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إِلَى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْقَلَم:
١٧- ٣٣] مَدَنِيٌّ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الْقَلَم: ٣٤- ٤٧] مَكِّيٌّ
وَتَعْرِيفُ (الْمَرْءُ) لِلِاسْتِغْرَاقِ مِثْلَ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْر: ٢- ٣].
وَفعل نْظُرُ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ أَيِ الْبَصَرِ، وَالْمَعْنَى: يَوْمَ يَرَى الْمَرْء مَا قَدمته يَدَاهُ. وَمَعْنَى نَظَرِ الْمَرْءِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ: حُصُولُ جَزَاءِ عَمَلِهِ لَهُ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالنَّظَرِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لِصَاحِبِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَإِطْلَاقُ النَّظَرِ هُنَا عَلَى الْوِجْدَانِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: ٦]، وَقَدْ جَاءَتِ الْحَقِيقَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمرَان: ٣٠] الْآيَةَ، وَ (مَا) مَوْصُولَة صلتها جملةدَّمَتْ يَداهُ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْفِكْرِ، وَأَصْلُهُ مَجَازٌ شَاعَ حَتَّى لحق بالمعاني الْحَقِيقَة كَمَا يُقَالُ: هُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ. وَمِنْهُ التَّنَظُّرُ: تَوَقُّعُ الشَّيْءِ، أَيْ يَوْمَ يَتَرَقَّبُ وَيَتَأَمَّلُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَتَكُونُ (مَا) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ استفهامية وَفعل نْظُرُ
مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: يَنْظُرُ الْمَرْءُ جَوَابَ مَنْ يَسْأَلُ: مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ؟
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِانْتِظَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: ٥٣].
وتعريفْ مَرْءُ
تَعْرِيف الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَالتَّقْدِيمُ: تَسْبِيقُ الشَّيْءِ والابتداء بِهِ.
وَا قَدَّمَتْ يَداهُ
هُوَ مَا أَسْلَفَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَلَا يَخْتَصُّ بِمَا عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمرَان: ٣٠] الْآيَة.
وَقَوله: اقَدَّمَتْ يَداهُ
إِمَّا مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِإِطْلَاقِ الْيَدَيْنِ عَلَى جَمِيعِ آلَاتِ الْأَعْمَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ هَيْئَةِ الْعَامِلِ لِأَعْمَالِهِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَيْئَةِ الصَّانِعِ لِلْمَصْنُوعَاتِ
بِيَدَيْهِ كَمَا قَالُوا فِي الْمَثَلِ: «يَدَاكَ أَوْكَتَا» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ بِلِسَانِهِ أَوْ مَشْيٍ بِرِجْلَيْهِ.


الصفحة التالية
Icon