التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ مُعْتَبَرٌ مِنْ قَبِيلِ الْغَائِبِ عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ الْتِفَاتًا عَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَعْبِيرٌ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ وَصِفَاتُهُ.
وَلِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ عِنَايَةٌ بِالِالْتِفَاتِ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ أُسْلُوبِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ تَحَاشِيًا مِنْ تَكَرُّرِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عِدَّةَ مِرَارٍ فَيَحْصُلُ بِتَجْدِيدِ الْأُسْلُوبِ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ كَيْ لَا يَمَلَّ مِنْ إِعَادَةِ أُسْلُوبٍ بِعَيْنِهِ. قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الِالْتِفَاتِ: «أَفَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَشْبَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ لَوْنٍ وَلَوْنٍ وَطَعْمٍ وَطَعْمٍ وَلَا يُحْسِنُونَ قِرَى الْأَرْوَاحِ فَيُخَالِفُونَ بَيْنَ أُسْلُوبٍ وَأُسْلُوبٍ». فَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الِالْتِفَاتِ. ثُمَّ إِنَّ الْبُلَغَاءَ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَيْهَا غَالِبًا بَلْ يُرَاعُونَ لِلِالْتِفَاتِ لَطَائِفَ وَمُنَاسَبَاتٍ وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ النَّقْدِ وَالْأَدَبِ يَسْتَخْرِجُونَ ذَلِكَ مِنْ مَغَاصِهِ.
وَمَا هُنَا الْتِفَاتٌ بَدِيعٌ فَإِنَّ الْحَامِدَ لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِعَظِيمِ الصِّفَاتِ بَلَغَتْ بِهِ
الْفِكْرَةُ مُنْتَهَاهَا فَتَخَيَّلَ نَفْسَهُ فِي حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَخَاطَبَ رَبَّهُ بِالْإِقْبَالِ، كَعَكْسِ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ (نِسْبَةً إِلَى بَنِي خَارِجَةَ قَبِيلَةٌ) :

ذُمِمْتَ وَلَمْ تُحْمَدْ وَأَدْرَكْتُ حَاجَةً تَوَلَّى سِوَاكُمْ أَجْرَهَا وَاصْطِنَاعَهَا
أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأْيٌ مُقَصِّرٌ وَنَفْسٌ أَضَاقَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ بَاعَهَا
إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الْخَيْرِ مَرَّةً عَصَاهَا وَإِنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَهَا
فَخَاطَبَهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ ذَكَرَ قُصُورَ رَأْيِهِ وَعَدَمَ انْطِبَاعِ نَفْسِهِ عَلَى الْخَيْرِ فَالْتَفَتَ مِنْ خِطَابِهِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فَقَالَ: إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ فَكَأَنَّهُ تَخَيَّلَهُ قَدْ تَضَاءَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي [العنكبوت: ٢٣] لِاعْتِبَارِ تَشْنِيعِ كُفْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ صَاحِبِ ذَلِكَ الِاسْمِ الْجَلِيلِ، وَبَعْدَ تَقُرُّرِ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى أُسْلُوبِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُضَافَةِ إِلَى ذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ. وَمِمَّا يَزِيدُ الِالْتِفَاتَ وَقْعًا فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنَ الثَّنَاءِ إِلَى الدُّعَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ يَقْتَضِي الْخِطَابَ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَخَلُّصًا يَجِيءُ بَعْدَهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ الْغَسَّانِيِّ:
فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَقَالَ سَأَلَكَ عِبادِي وَقَالَ:
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وَلَوْ قِيلَ وَلْيَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُمْ لَكَانَ حُكْمًا جُزْئِيًّا خَاصًّا بِهِمْ، فَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ قَبْلَهَا وَمُنَاسَبَتِهَا لَهُنَّ وَارْتِبَاطِهَا بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ اعْتِرَاضُ جُمْلَةٍ.
وَقِيلَ إِنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ اقْتَرَنَتْ بِالْوَاوِ بَيْنَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ، قِيلَ إِنَّهُ ذَكَرَ الدُّعَاءَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ الشُّكْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ يَجِبُ أَنْ يَسْبِقَهُ الثَّنَاءُ.
وَالْعِبَادُ الَّذِينَ أُضِيفُوا إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَلَوَازِمِهِ وَجَزَائِهِ وَهُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا فِي ذِكْرِ الْعِبَادِ مُضَافًا لِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان:
١٧] بِمَعْنَى الْمُشْرِكِينَ فَاقْتَضَاهُ أَنَّهُ فِي مَقَامِ تَنْدِيمِهِمْ عَلَى اسْتِعْبَادِهِمْ لِلْأَصْنَامِ.
وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَلَمْ يَقُلْ: فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي قَرِيبٌ إِيجَازًا لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مَفْرُوضٌ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَهِيَ إِيهَامٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى جَوَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِنَفْسِهِ إِذْ حَذَفَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَسَاطَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ.
واحتيج للتَّأْكِيد بإنّ، لِأَنَّ الْخَبَرَ غَرِيبٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى قَرِيبًا مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَرَوْنَهُ.
وأُجِيبُ خبر ثَان لإنّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ الَّذِي قَبْلَهُ تَمْهِيدًا لَهُ لِتَسْهِيلِ قَبُولِهِ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ «دَعَانِ» فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ لِأَنَّ حَذْفَهَا فِي الْوَقْفِ لُغَةُ جُمْهُورِ الْعَرَبِ عَدَا أَهْلِ الْحِجَازِ، وَلَا تُحْذَفُ عِنْدَهُمْ فِي الْوَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَلِأَنَّ الرَّسْمَ يُبْنَى عَلَى حَالِ الْوَقْفِ، وَأَثْبَتَ الْيَاءَ ابْنُ كَثِيرٍ وَهِشَامٌ وَيَعْقُوبُ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَعَاصِمٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَوْ وَقَعَتْ فَاصِلَةً لَكَانَ الْحَذْفُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [الْبَقَرَة: ٤٠] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ، وَإِلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَرْجُوَّةٌ دَعَوَاتُهُ، وَإِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ.
وَالتَّزْيِينُ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ زَيْنًا أَيْ حَسَنًا، فَهُوَ تَحْسِينُ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إِلَى التَّحْسِينِ، وَإِزَالَةُ مَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الْقُبْحِ أَوِ التَّشْوِيهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَلَّاقُ مُزَيِّنًا.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَبَى غَفْلَتِي أَنِّي إِذَا مَا ذَكَرْتُهُ تَحَرَّكَ دَاءٌ فِي فُؤَادِيَ دَاخِلُُُ
الْحَرْبُ أَوَّلَ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
فَالزِّينَةُ هِيَ مَا تكون فِي الشَّيْءِ مِنَ الْمَحَاسِنِ: الَّتِي تُرَغِّبُ النَّاظِرِينَ فِي اقْتِنَائِهِ، قَالَ تَعَالَى:
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٢٨]. وَكَلِمَةُ زَيْنٍ قَلِيلَةُ الدَّوَرَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ حُسْنِهَا وَخِفَّتِهَا قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَزْمَعَتْ خُلَّتِي مَعَ الْفَجْرِ بَيْنَا جَلَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَجْهَ زَيْنَا
وَفِي حَدِيثِ «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ أَبَا بَرَزَةَ الْأَسْلَمِيَّ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ- وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِيَسْأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ الْحَوْضِ- فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَرَزَةَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِجُلَسَائِهِ: إِنَّ مُحَمَّدِيَّكُمْ هَذَا الدِّحْدَاحُ. قَالَ أَبُو بَرَزَةَ: «مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنِّي أَبْقَى فِي قَوْمٍ يُعَيِّرُونَنِي بِصُحْبَةِ مُحَمَّدٍ». فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: «إِنَّ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ لَكَ زَيْنٌ غَيْرُ شَيْنٍ».
وَالشَّهَوَاتُ جَمْعُ شَهْوَةٍ، وَأَصْلُ الشَّهْوَةِ مَصْدَرُ شَهِيَ كَرَضِيَ، وَالشَّهْوَةُ بِزِنَةِ الْمَرَّةِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ مَصْدَرِ شَهِيَ أَنْ يَكُونَ بِزِنَةِ الْمَرَّةِ. وَأُطْلِقَتِ الشَّهَوَاتُ هُنَا عَلَى الْأَشْيَاءِ
الْمُشْتَهَاةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ. وَتَعْلِيقُ التَّزْيِينِ بِالْحُبِّ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْمُزَيَّنَ لِلنَّاسِ هُوَ الشَّهَوَاتُ، أَيِ الْمُشْتَهَيَاتُ نَفْسُهَا، لَا حُبُّهَا، فَإِذَا زُيِّنَتْ لَهُمْ أَحَبُّوهَا فَإِنَّ الْحُبَّ يَنْشَأُ عَنِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلَيْسَ الْحُبُّ بِمُزَيَّنٍ، وَهَذَا إِيجَازٌ يُغْنِي عَنْ أَنْ يُقَالَ زُيِّنَتْ لِلنَّاسِ الشَّهَوَاتُ فَأَحَبُّوهَا، وَقَدْ سَكَتَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ وَجْهِ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا التَّعْلِيقِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حُبُّ الشَّهَواتِ مَصْدَرًا نَائِبًا عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، مُبَيِّنًا لِنَوْعِ التَّزْيِينِ: أَيْ زُيِّنَ لَهُمْ تَزْيِينُ حُبٍّ، وَهُوَ أَشَدُّ التَّزْيِينِ، وَجُعِلَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ الشَّهَوَاتُ حُبًّا، فَحُوِّلَ وَأُضِيفَ إِلَى النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَجُعِلَ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، كَمَا جُعِلَ مَفْعُولًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ص: ٣٢]. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ حُبُّ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ
غَايَةً لِلنَّفْيِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهَا أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ الْغَايَةِ يَثْبُتُ مَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَهَذَا كُلُّهُ لَمْحٌ لِأَصْلِ وَضْعِ صِيغَةِ الْجُحُودِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُبَالَغَةِ النَّفْيِ لَا لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي مَعْنَى مُطْلَقِ النَّفْيِ، وَقَدْ أَهْمَلَ التَّنْبِيهَ عَلَى إِشْكَالِ الْغَايَةِ هُنَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمُتَابِعُوهُ، وَتَنَبَّهَ لَهَا أَبُو حَيَّانٍ، فَاسْتَشْكَلَهَا حَتَّى اضطرّ إِلَى تأوّل النَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ، فَجَعَلَ التَّقْدِيرَ: إِنَّ اللَّهَ يُخَلِّصُ بَيْنَكُمْ بِالِامْتِحَانِ، حَتَّى يَمِيزَ. وَأَخَذَ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَوَّلَ تَأْوِيلًا أَحْسَنَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُعَطِّلًا لِوُجُودِ قَرِينَةٍ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمَفْهُومِ، وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ وُضُوحٌ وَتَوْقِيفٌ عَلَى اسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ رَشِيقٍ.
وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الطَّيِّبِ مَعْنَاهَا الْفَصْلُ أَيْ فَصْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَبَحَثَ فِيهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٠].
وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِضَمِيرِ مَا أَنْتُمْ لِلْكُفَّارِ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ جَاهِلِينَ بِأَحْوَالِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَمِيزَ- بِفَتْحِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَهَا سَاكِنَةٍ- مِنْ مَازَ يَمِيزُ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ- مِنْ مَيَّزَ مُضَاعَفِ مَازَ.
وَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ لَكُمُ الْخَبِيثَ فَتَعْرِفُوا أَعْدَاءَكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ إِطْلَاعُكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ أَسْبَابًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِزَّ أَعْدَاءَكُمْ فَيُظْهِرُوا لَكُمُ الْعَدَاوَةَ فَتَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ مُؤَسَّسًا عَلَى اسْتِفَادَةِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَالنَّتَائِجِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا.
غَيْرُ مُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يُقِيمُ الْيَوْمَ بِبِلَادِ أُورُوبَّا النَّصْرَانِيَّةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُقَامَ فِي مثل ذَلِك مكسوره كَرَاهَةً شَدِيدَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ التِّجَارَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْعُتْبِيَّةِ، كَذَلِكَ تَأَوَّلَ قَوْلَ مَالِكٍ فُقَهَاءُ الْقَيْرَوَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ، وَصَرِيحُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ فِي طَالِعَةِ كِتَابِ التِّجَارَةِ إِلَى أَرْضِ
الْحَرْبِ مِنْ تَبْصِرَتِهِ، وَارْتَضَاهُ ابْنُ مُحْرِزٍ وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَتَأَوَّلَهُ سَحْنُونٌ وَابْنُ حَبِيبٍ عَلَى الْحُرْمَةِ وَكَذَلِكَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ وَالْمَازِرِيُّ، وَزَادَ سَحْنُونٌ فَقَالَ: إِنَّ مُقَامَهُ جَرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْكَلَامُ فِي السَّفَرِ فِي سُفُنِ النَّصَارَى إِلَى الْحَجِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْبَرْزَلِيُّ عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: إِنْ كَانَ أَمِيرُ تُونِسَ قَوِيًّا عَلَى النَّصَارَى جَازَ السَّفَرُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ يُهِينُونَ الْمُسْلِمِينَ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَغَلَّبَ الْكُفَّارُ عَلَى بَلَدِ أَهْلِهِ مُسْلِمُونَ وَلَا يَفْتِنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي عِبَادَتِهِمْ وَلَا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُ لَهُمْ حُكْمُ الْقُوَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، وَتَجْرِي الْأَحْكَامُ بَيْنَهُمْ عَلَى مُقْتَضَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا وَقَعَ فِي صِقِلِّيَّةَ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا رُجَيْرٍ النَّرَمَنْدِيُّ.
وَكَمَا وَقَعَ فِي بِلَادِ غَرْنَاطَةَ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا طَاغِيَةُ الْجَلَالِقَةِ عَلَى شُرُوطٍ مِنْهَا احْتِرَامُ دِينِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَهَا أَقَامُوا بِهَا مُدَّةً وَأَقَامَ مِنْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَكَانُوا يَلُونَ الْقَضَاءَ وَالْفَتْوَى وَالْعَدَالَةَ وَالْأَمَانَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَاجَرَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يَعِبِ الْمُهَاجِرُ عَلَى الْقَاطِنِ، وَلَا الْقَاطِنُ عَلَى الْمُهَاجِرِ.
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ نُفُوذٌ وَسُلْطَانٌ عَلَى بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، مَعَ بَقَاءِ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَاسْتِمْرَارِ تَصَرُّفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، وَوِلَايَةِ حُكَّامِهِمْ مِنْهُمْ، وَاحْتِرَامِ أَدْيَانِهِمْ وَسَائِرِ شَعَائِرِهِمْ، وَلَكِنَّ تَصَرُّفَ الْأُمَرَاءِ تَحْتَ نَظَرِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمُوَافَقَتِهِمْ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْحِمَايَةِ وَالِاحْتِلَالِ وَالْوِصَايَةِ وَالِانْتِدَابِ، كَمَا وَقَعَ فِي مِصْرَ مُدَّةَ احْتِلَالِ جَيْشِ الْفَرَنْسِيسِ بِهَا، ثُمَّ مُدَّةَ احْتِلَالِ الْأَنْقَلِيزِ، وَكَمَا وَقَعَ بِتُونِسَ وَالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى من حماية فرانسا، وَكَمَا وَقَعَ فِي سُورْيَا وَالْعِرَاقِ أَيَّامَ الِانْتِدَابِ وَهَذِهِ لَا شُبْهَةَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْهَا.
الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: الْبَلَدُ الَّذِي تَكْثُرُ فِيهِ الْمَنَاكِرُ وَالْبِدَعُ، وَتَجْرِي فِيهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ عَلَى خِلَافِ صَرِيحِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ يَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَلَا يُجْبَرُ الْمُسْلِمُ فِيهَا عَلَى
لَيْسَ مِنْ مَقْدُورِ النَّاسِ، أَيْ وَمَنِ اهْتَمَّ بِاسْتِنْقَاذِهَا وَالذَّبِّ عَنْهَا فكأنّما أحيى النَّاسَ جَمِيعًا بِذَلِكَ التَّوْجِيهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا، أَوْ مَنْ غَلَّبَ وَازِعَ الشَّرْعِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى دَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ فَانْكَفَّ عَنِ الْقَتْلِ عِنْدَ الْغَضَبِ.
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.
تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ شَرْعِ الْقِصَاصِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ مَا شُدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ وَلم يَزَالُوا يَقْتُلُونَ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلِكَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ «مُسْرِفُونَ» لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَالْمُرَادُ مُسْرِفُونَ فِي الْمَفَاسِدِ الَّتِي مِنْهَا قَتْلُ الْأَنْفُسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ كَثُرَ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ ذِكْرُ فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَة: ٦٠] مَعَ ذِكْرِ الْإِفْسَادِ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، لِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ شَأْنٌ عَجِيبٌ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ أَعْجَبُ. وَذُكِرَ فِي الْأَرْضِ لِتَصْوِيرِ هَذَا الْإِسْرَافِ عِنْدَ السَّامِعِ وَتَفْظِيعِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَاف: ٥٦]. وَتَقْدِيمُ فِي الْأَرْضِ لِلِاهْتِمَامِ وَهُوَ يُفِيدُ زِيَادَةَ تَفْظِيعِ الْإِسْرَافِ فِيهَا مَعَ أَهَمِّيَّةِ شَأْنِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رُسُلُنا- بِضَمِّ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ- بِإِسْكَان السّين-.
[٣٣، ٣٤]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا يُقَابِلُهُ بِهِ سُفَهَاؤُهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ التَّامِّ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥]. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءَ يَتَظَاهَرُونَ بِالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالْإِنْصَافِ وَيُخَيِّلُونَ لِلدَّهْمَاءِ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى مُجَادَلَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ ثُمَّ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمَّى مِنْ هَؤُلَاءِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَأَبَا جَهْلٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةَ وَأُبَيًّا ابْنَيْ خَلَفٍ، اجْتَمَعُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا لِلنَّضْرِ: مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: وَالَّذِي جَعَلَهَا بَيْتَهُ (يَعْنِي الْكَعْبَةَ) مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ إِلَّا أَنِّي أَرَى تَحَرُّكَ شَفَتَيْهِ فَمَا يَقُولُ إِلَّا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مِثْلَ مَا كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. يَعْنِي أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مُكَابَرَةً مِنْهُ لِلْحَقِّ وَحَسَدًا لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَكَانَ النَّضْرُ كَثِيرَ الْحَدِيثِ عَن الْقُرُون الأولى. وَكَانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا عَنْ أَقَاصِيصِ الْعَجَمِ، مِثْلَ قِصَّةِ (رُسْتُمَ) وَ (إِسْفِنْدِيَارَ) فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ أَسْفَارٍ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ، وَكَانَ النَّضْرُ شَدِيدَ الْبَغْضَاءِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي أَهْدَرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- دَمَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَأَرَاهُ حَقًّا. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: كَلَّا. فَوَصَفَ اللَّهُ حَالَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِكَلِمَتِهِ هَذِهِ، فَأَسْلَمَ هُوَ دُونَهُمْ لَيْلَةَ فَتْحِ مَكَّةَ وَثَبَتَتْ لَهُ فَضِيلَةُ الصُّحْبَةِ وَصِهْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِزَوْجِهِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
والأكنة جَمْعُ كِنَانٍ- بِكَسْرِ الْكَافِ- وَ (أَفْعِلَةٌ) يَتَعَيَّنُ فِي (فِعَالٍ) الْمَكْسُورِ الْفَاءِ إِذَا كَانَ عَيْنُهُ وَلَامُهُ مِثْلَيْنِ. وَالْكِنَانُ: الْغِطَاءُ، لِأَنَّهُ يَكُنُّ الشَّيْءَ، أَيْ يَسْتُرُهُ. وَهِيَ هُنَا تَخْيِيلٌ لِأَنَّهُ شُبِّهَتْ قُلُوبُهُمْ فِي عَدَمِ خُلُوصِ الْحَقِّ إِلَيْهَا بِأَشْيَاءَ مَحْجُوبَةٍ عَنْ شَيْءٍ. وَأُثْبِتَتْ لَهَا الْأَكِنَّةُ تَخْيِيلًا، وَلَيْسَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شَيْءٌ يُشْبِهُ الْكِنَانَ.
وَأُسْنِدَ جَعْلُ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ وَالتَّعَقُّلِ الْمُنْحَرِفُ، فَهُمْ لَهُمْ عُقُولٌ وَإِدْرَاكٌ لِأَنَّهُمْ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ أَهْوَاءَهُمْ تَخَيَّرَ لَهُمُ الْمَنْعَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا.
وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناهُ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِ كِتابٌ، وَ (مُبَارَكٌ) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُمَا الْمَقْصِدُ مِنِ الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ كِتَابًا لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا امْتَرَوْا فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفِي كَوْنِهِ مُبَارَكًا. وَحَسُنَ عَطْفُ: مُبارَكٌ عَلَى: أَنْزَلْناهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَفْعُولِ- لِاشْتِقَاقِهِ- هُوَ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ. وَمَعْنَى: اتَّقُوا كُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى وَهِيَ الْأَخْذُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَعْدٌ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ أَنْزَلْناهُ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَذْفِهَا مَعَ (أَنْ). وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ تَقُولُوا، أَيْ لِقَوْلِكُمْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ لِمُلَاحَظَةِ قَوْلِكُمْ وَتَوَقُّعِ وُقُوعِهِ، فَالْقَوْلُ بَاعِثٌ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ.
وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ بَاعِثًا عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً، فَهَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّامِ عَكْسُ مَعْنَى لَام الْعَاقِبَة، ويؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا حِكْمَةُ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهِمْ كِتَابٌ، أَوْ كَرَاهِيَةُ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، أَوْ لِتَجَنُّبِ أَنْ يَقُولُوهُ، وَذَلِكَ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ إِيثَارًا
لِلْإِيجَازِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ مُضَافٌ مِثْلَ: كَرَاهِيَةَ أَوْ تَجَنُّبَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ جَرَى نُحَاةُ الْبَصْرَةِ.
وَذَهَبَ نُحَاةُ الْكُوفَةِ إِلَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ (لَا) النَّافِيَةِ، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: أَنْ لَا تَقُولُوا، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: ١٧٦]- وَقَوْلِهِ:
- وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٥، ٥٦]-
وَالرِّيَاحُ: جَمْعُ رِيحٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّياحَ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: الرِّيحَ- بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، فَهُوَ مُسَاوٍ لِقِرَاءَةِ الْجَمْعِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
مَنْ قَرَأَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقِرَاءَتُهُ أَسْعَدُ، لِأَنَّ الرِّيَاحَ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِالرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحجر: ٢٢] وَأَكْثَرُ ذِكْرِ الرِّيحِ الْمُفْرَدَةِ أَنْ تَكُونَ مُقْتَرِنَةً بِالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤] وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَتَقْيِيدُهَا بِالنَّشْرِ يُزِيلُ الِاشْتِرَاكَ أَيِ الْإِيهَامَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ قَدْ يُرَادُ بِهِ تَعَدُّدُ الْمَهَابِّ أَوْ حُصُولُ الْفَتَرَاتِ فِي الْهُبُوبِ، وَأَنَّ الْإِفْرَادَ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا مَدْفُوعَةٌ دُفْعَةً
وَاحِدَةً قَوِيَّةً لَا فَتْرَةَ بَيْنَ هَبَّاتِهَا.
وَقَوْلُهُ: نَشْراً قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: نُشُرًا- بِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ- عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَشُورٍ- بِفَتْحِ النُّونِ- كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعل، والنّشور الرّياح الْحَيَّةُ الطيّبة لأنّها تنثر السَّحَابَ، أَيْ تَبُثُّهُ وَتُكَثِّرُهُ فِي الْجَوِّ، كَالشَّيْءِ الْمَنْشُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعُولًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَنْشُورَةً، أَيْ مَبْثُوثَةً فِي الْجِهَاتِ، مُتَفَرِّقَةً فِيهَا، لِأَنَّ النَّشْرَ هُوَ التَّفْرِيقُ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ رِيحَ الْمَطَرِ تَكُونُ لَيِّنَةً، تَجِيءُ مَرَّةً مِنَ الْجَنُوبِ وَمَرَّةً مِنَ الشَّمَالِ، وَتَتَفَرَّقُ فِي الْجِهَاتِ حَتَّى يَنْشَأَ بِهَا السَّحَابُ وَيَتَعَدَّدَ سَحَابَاتٌ مَبْثُوثَةٌ، كَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ فِي السَّحَابِ:
مَرَتْهُ الْجَنُوبُ بِأَنْفَاسِهَا وَحَلَّتْ عَزَالِيَهُ الشَّمْأَلُ
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِتَعَدُّدِ مَهَابِّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تُجْمَعْ فِيمَا لَا يحمد فِيهِ تعود الْمَهَابِّ كَقَوْلِهِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُس: ٢٢] مِنْ حَيْثُ جَرْيُ السُّفُنِ إِنَّمَا جِيدُهُ بِرِيحٍ مُتَّصِلَةٍ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ نَشْراً- بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ- وَهُوَ تَخْفِيفُ نُشُرٍ- الَّذِي هُوَ بِضَمَّتَيْنِ- كَمَا يُقَالُ: رُسْلٌ فِي رُسُلٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ،
اللُّهَاثُ بِضَمِّ اللَّامِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَدْوَاءِ، وَلَيْسَ بِصَوْتٍ.
ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الْآيَتَيْنِ، وَالْمِثَالُ الْحَالُ أَيْ ذَلِكَ التَّمْثِيلُ مَثَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، لِأَنَّ حَالَةَ الْكَلْبِ الْمُشْتَبَهِ شَبِيهَةٌ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ وَلَيْسَتْ عَيْنَهَا.
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، هُوَ مَثَلُ الْمُشْرِكِينَ،
لِأَنَّهُمْ شَابَهُوهُ فِي أَنهم أَتَوا الْقُرْآنَ فَكَذَّبُوا بِهِ، فَكَانَتْ حَالُهُمْ كَحَالِ ذَلِكَ الْمُكَذِّبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَيْ حَالُ الْكَلْبِ الْمَذْكُورَةِ كَحَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَوَدُّونَ مَعْرِفَةَ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَتَمَنَّوْنَ مُسَاوَاةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ فِي عَنَاءٍ وَحَيْرَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ بِكِتَابٍ مُبِينٍ انْتَقَلُوا إِلَى عَنَاءِ مُعَانَدَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧] وَهَذَا تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ آيَةَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا إِلَى آخِرِهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ.
وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَيِ اقْصُصْ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَغَيْرَهَا، وَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْقِصَّةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا يَشْمَلُهَا وَغَيْرَهَا مِنَ الْقَصَصِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِي الْقَصَصِ تَفَكُّرًا وَمَوْعِظَةً، فَيُرْجَى مِنْهُ تَفَكُّرُهُمْ وَمَوْعِظَتُهُمْ، لِأَنَّ لِلْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ النَّظَائِرِ شَأْنًا عَظِيمًا فِي اهْتِدَاءِ النُّفُوسِ بِهَا وَتَقْرِيبِ الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ إِلَى النُّفُوسِ الذَّاهِلَةِ أَوِ الْمُتَغَافِلَةِ، لِمَا فِي التَّنْظِيرِ بِالْقِصَّةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ تَذَكُّرِ مُشَاهَدَةِ الْحَالَةِ بِالْحَوَاسِّ، بِخِلَافِ التَّذْكِيرِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّنْظِيرِ بالشَّيْء المحسوس.
[١٧٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٧٧]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ إِنْشَاءَ ذَمٍّ لَهُمْ، بِأَنْ كَانُوا فِي حَالَةٍ شَنِيعَةٍ
وَبِإِضَافَةِ النَّارِ إِلَى جَهَنَّمَ عُلِمَ أَنَّ الْمَحْمِيَّ هُوَ نَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ نَارٍ فِي الْحَرَارَةِ فَجَاءَ تَرْكِيبًا بَدِيعًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَازٍ.
وَالْكَيُّ: أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْجِلْدِ جَمْرٌ أَوْ شَيْءٌ مُشْتَعِلٌ.
وَالْجِبَاهُ: جَمْعُ جَبْهَةٍ وَهِيَ أَعْلَى الْوَجْهِ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ.
وَالْجُنُوبُ: جَمْعُ جَنْبٍ وَهُوَ جَانِبُ الْجَسَدِ مِنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ.
وَالظُّهُورُ: جَمْعُ ظَهَرٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَنْفَقَةِ إِلَى مُنْتَهَى فَقَارِ الْعَظْمِ.
وَالْمَعْنَى: تَعْمِيمُ جِهَاتِ الْأَجْسَادِ بِالْكَيِّ فَإِنَّ تِلْكَ الْجِهَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْكَيِّ، فَيَحْصُلُ مَعَ تَعْمِيمِ الْكَيِّ إِذَاقَةٌ لِأَصْنَافٍ مِنَ الْآلَامِ.
وَسُلِكَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ التَّعْمِيمِ مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ بِالتَّعْدَادِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ الْأَلِيمِ، تَهْوِيلًا لِشَأْنِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: فَتُكْوَى بِهَا أَجْسَادُهُمْ.
وَكَيْفِيَّةُ إِحْضَارِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لتحمى من شؤون الْآخِرَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ فَبِقُدْرَةِ اللَّهِ تُحْضَرُ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ أَوْ أَمْثَالُهَا كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَانِعِ الزَّكَاةَ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّهُ يُمَثَّلُ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَقُولُ: «أَنَا مَالك أَنا كنزلك»
وَبِقُدْرَةِ اللَّهِ يُكْوَى الْمُمْتَنِعُونَ مِنْ إِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَدَاوَلَ أَعْيَانَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الدُّنْيَا بِانْتِقَالِهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَمِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ.
وَجُمْلَةُ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَحْمِيِّ، وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: لِأَنْفُسِكُمْ لِلتَّنْدِيمِ وَالتَّغْلِيظِ وَلَامُ التَّعْلِيلِ مُؤْذِنَةٌ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي عُلِّلَ بِهَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِأَجْلِ نَفْسِهِ إِلَّا لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ رَاحَتِهَا وَنَفْعِهَا، فَلَمَّا آلَ بِهِمُ الْكَنْزُ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَانُوا قَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا فِيمَا انْتَفَعُوا بِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، بِمَا كَانَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ وَجُمْلَةُ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ تَوْبِيخٌ وَتَنْدِيمٌ.
وَالْفَاءُ فِي فَذُوقُوا لِتَفْرِيعِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى جُمْلَةِ التَّنْدِيمِ الْأُولَى.
لَيْسَ لَهُمْ إِدْرَاكُ الْعُقُولِ، أَيْ وَلَوِ انْضَمَّ إِلَى صَمَمِهِمْ عَدَمُ عُقُولِهِمْ فَإِنَّ الْأَصَمَّ الْعَاقِلَ رُبَّمَا تَفَرَّسَ فِي مُخَاطِبِهِ وَاسْتَدَلَّ بِمَلَامِحِهِ.
وَأَمَّا مَعْنَى: لَا يُبْصِرُونَ فَإِنَّهُمْ لَا بَصِيرَةَ لَهُمْ يَتَبَصَّرُونَ بِهَا. وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ «الْكَشَّافُ» وَهُوَ الْوَجْهُ، إِذْ بِدُونِهِ يَكُونُ مَعْنَى: لَا يُبْصِرُونَ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْعَمَى فَلَا تَقَعُ الْمُبَالَغَةُ بِ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةِ مَوْقِعَهَا، إِذْ يَصِيرُ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا عُمْيًا. وَمُقْتَضَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَال: أبْصر إِذا اسْتَعْمَلَ بَصِيرَتَهُ وَهِيَ التَّفْكِيرُ وَالِاعْتِبَارُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَكَلَامُ «الْأَسَاسِ» يَحُومُ حَوْلَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يُبْصِرُونَ مَعْنَى التَّأَمُّلِ، أَيْ وَلَوِ انْضَمَّ إِلَى عَمَى الْعُمْيِ عَدَمُ التَّفْكِيرِ كَمَا هُوَ حَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَدْلُولًا لِفِعْلِ يُبْصِرُونَ بِالْوَضْعِ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْمَجَازِيِّ. فَبِهَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ فِي أَوَّلِهِ وَعَلَى الْكِنَايَةِ فِي آخِرِهِ وَعَلَى التَّعْجِيبِ وَتَقْوِيَتِهِ فِي وَسَطِهِ حَصَلَ تَحْقِيقٌ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَلَا بِأَبْصَارِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَتَبَصَّرُونَ فِي الْحَقَائِقِ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا هِيَ حَالَةٌ أَصَارَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهَا بِتَكْوِينِهِ وَجَعَلَهَا عِقَابًا لَهُمْ فِي تَمَرُّدِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ صُمًّا وَعُمْيًا. فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُسْمِعُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ لَا أَنْتَ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَحْتَاجُ لِلْعِبَارَةِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ سُؤَالًا عَنْ وَجْهِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَقَوْلِهِ:
مَنْ يَنْظُرُ إِذْ جِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي الْأَوَّلِ وَبِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فِي الثَّانِي. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِسْمَاعَ يَكُونُ مِنَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا وَأَمَّا النَّظَرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ. وَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ وَاضِحٍ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْجِهَاتِ الصَّالِحَةِ لِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُونَ وَالنَّاظِرُونَ مُتَّحِدِينَ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ وَالْإِفْرَادَ هُنَا سَوَاءٌ لِأَنَّ مُفَادَ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِيهِمَا هُوَ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْفِعْلُ وَهُمْ عَدَدٌ وَلَيْسَ النَّاظِرُ شَخْصًا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ أَنَّ كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ سَوَاءٌ فِي مُرَاعَاةِ لَفْظِ (مَنْ) وَمَعْنَاهَا، فَلَعَلَّ الِابْتِدَاءَ بِالْجَمْعِ فِي صِلَةِ (مَنِ) الْأُولَى الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ (مَنْ) غَيْرُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَأَنَّ الْعُدُولَ
الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَ مَعَهُ مَا يُنَاسِبُ الْأَوْقَاتَ الْمُعَيَّنَةَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَذَلِكَ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ أَبِي الْيُسْرِ الْآتِي.
وَطَرَفُ الشَّيْءِ: مُنْتَهَاهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ، فَالتَّثْنِيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ.
والنَّهارِ: مَا بَيْنَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَ نَهَارًا لِأَنَّ الضِّيَاءَ يَنْهَرُ فِيهِ، أَيْ يَبْرُزُ كَمَا يَبْرُزُ النَّهْرُ.
وَالْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ إِيقَاعُ الْعَمَلِ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَتَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَالطَّرَفَانِ ظَرْفَانِ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِيقَاعُ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَهِيَ الصُّبْحُ وَصَلَاةٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ الْعَصْرُ وَقِيلَ الْمَغْرِبُ.
وَالزُّلَفُ: جَمْعُ زُلْفَةٍ مِثْلَ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْ أُخْتِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمَّا لَمْ تُعَيَّنِ الصَّلَوَاتُ الْمَأْمُورُ بِإِقَامَتِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ الزَّمَانِ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَلًا فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمُتَوَاتِرُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ هِيَ الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ مُجْمَلَةً فِي تَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاء: ٧٨].
وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَوَّلَ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِ إِذَا أَصْبَحَ وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَآخِرَ أَعْمَالِهِ إِذَا أَمْسَى وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ لِتَكُونَ السَّيِّئَاتُ الْحَاصِلَةُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَمْحُوَّةً بِالْحَسَنَاتِ الْحَافَّةِ بِهَا. وَهَذَا مُشِيرٌ إِلَى حِكْمَةِ كَرَاهَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لِلْحَثِّ عَلَى الصَّلَاةِ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهَا فِي أَوْقَاتِ تَعَرُّضِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا. وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُهُمَا بِأَدِلَّةٍ أُخَرَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْوُجُوبِ فِي الْمَذْكُورِ فِيهَا.
ثُمَّ ذَكَّرَ الْفَرِيقَيْنِ بِحَالِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَعْلَمَ الْفَرِيقَانِ مَنْ هُوَ سَالِكٌ سَبِيلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ هُوَ نَاكِبٌ عَنْهُ مِنْ سَاكِنِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
وَإِنْذَارِهِمْ أَن يحل بهم مَا حل بِالَّذِينِ ظَلَمُوا مِنْ قَبْلُ.
وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَعْدِ النَّصْرِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثَالِ.
وَخُتِمَتْ بِكَلِمَاتٍ جَامِعَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٥٢] إِلَى آخرهَا.
[١]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)
الر.
تقدم الْكَلَام عى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَعَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [سُورَة الْأَعْرَاف: ١- ٢] عدا أَن هَذِهِ الْآيَةِ ذُكِرَ فِيهَا فَاعِلُ الْإِنْزَالِ وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَادَّةِ الْإِنْزَالِ الْمُشْعِرَةِ بِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنْ قِبَلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَلِلْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ حَذْفِ الْفَاعِلِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ والإيجاز وَلكنه ذكر هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
، وَمِنْ ذِكْرِ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَإِنَّهَا فِي مَقَامِ الطمأنة والتصبير للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، فَكَانَ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ الْمُنْزِلِ إِلَيْهِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ أَهَمَّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ حَقِّ الْإِيجَازِ.
بِما آتَيْناهُمْ أَيْ مِنَ النِّعَمِ. وَكُفْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ إِشْرَاكَهُمْ سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَصْحَبُوهُ عَقِبَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شُبِّهَتْ مُقَارَنَةُ عَوْدِهِمْ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِمُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى عَمَلٍ لِذَلِكَ الْعَمَلِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُبَادَرَتُهُمْ لِكُفْرِ النِّعْمَةِ دُونَ تَرَيُّثٍ.
فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمُقَارَنَةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَمْلِيحِيَّةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ وَمِثْلُهَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ هَذِهِ اللَّامَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَمِثَالُهَا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: ٨]، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ آخِرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي هَذِه السُّورَة [النَّحْل: ٢٥].
وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى فَرِيقٌ [سُورَة النَّحْل: ٥٤] بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْإِنْعَامِ بِالْحَالَةِ النَّافِعَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِعْطَاءِ أَنْ يَكُونَ تَمْكِينًا بِالْمَأْخُوذِ الْمَحْبُوبِ.
وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ بِما آتَيْناهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ كَوْنِهِ نِعْمَةً تَفْظِيعًا لِكُفْرَانِهِمْ بِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَبِيح عِنْد تجميع الْعُقَلَاءِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مُخَاطَبَتَهُمْ بِأَمْرِهِمْ بِالتَّمَتُّعِ أَمْرَ إِمْهَالٍ وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ بِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَالْمَتَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مَحْبُوبًا وَيُسَرُّ بِهِ.
وَيُقَالُ: تَمَتَّعَ بِكَذَا وَاسْتَمْتَعَ. وَتَقَدَّمَ الْمَتَاعُ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ.
وَالْخِطَابُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ خُوطِبَ بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ الْمُفَرَّعُ مِنْ تَمَامِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ يُنَافِي الِالْتِفَاتَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ إِلَى مَرْجِعِ مَا قبله.
وَالْمعْنَى: فَنَقُول تَمَتَّعُوا بِالنِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا إِلَى أَمَدٍ.
الْمُنَوَّنِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبًا بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ جَازَ رَفْعُ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا وَنَصْبُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (إِذًا) ظرفا للزمان، وتنوينها عوض عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ لَمْ يَنْتَصِبْ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا نَادِرًا لِانْتِفَاءِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذًا أَخْرَجُوكَ أَوْ وَإِذًا خَرَجْتَ لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَلْفَكَ.
وخَلْفَكَ أُرِيدَ بِهِ بَعْدَكَ. وَأَصْلُ الْخَلْفِ الْوَرَاءُ فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْبَعْدِيَّةِ، أَيْ لَا
يَلْبَثُونَ بَعْدَكَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ خِلافَكَ وَهُوَ لُغَةٌ فِي خَلْفٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٨١].
وَاللُّبْثُ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ لَا يَسْتَقِرُّونَ فِي مَكَّةَ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَلَا يَرْجِعُونَ. وَقَدْ خَرَجَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مُهَاجِرًا وَكَانُوا السَّبَبَ فِي خُرُوجِهِ فَكَأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١]، فَلَمْ يَلْبَثِ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِي إِخْرَاجِهِ وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ قَوْمَهُمْ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى وَقْعَةٍ بَدْرٍ فَلَقُوا حَتْفَهُمْ هُنَالِكَ فَلَمْ يَرْجِعُوا وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، وَأَبْقَى الله عامتهم ودهاءهم لِضَعْفِ كَيْدِهِمْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ مُخْرِجِيهِ، أَيِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِي خُرُوجِهِ، لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا قَلِيلًا.
وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا صَاحِبُهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا اسْمٌ جَامِدٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٦]، أَيْ عَادَةُ اللَّهِ فِي كُلِّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٠- سُورَةُ طَهَ
سُمِّيَتْ سُورَةُ (طَاهَا) بَاسِمِ الْحَرْفَيْنِ الْمَنْطُوقِ بِهِمَا فِي أَوَّلِهَا. وَرُسِمَ الْحَرْفَانِ بِصُورَتِهِمَا لَا بِمَا يَنْطِقُ بِهِ النَّاطِقُ مِنَ اسْمَيْهِمَا تَبَعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كُتُبِ السُّنَّةِ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ «مُسْنَدِ الدِّرَامِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَأَ: (طَاهَا) (بِاسْمَيْنِ) قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ قَالُوا: طُوبَى لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ هَذَا عَلَيْهَا»
الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ:
مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ كَلَامَهُ وَأَسْمَعَهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ السَّخَاوِيِّ أَنَّهَا تُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ الْكَلِيمِ» وَفِيهِ عَنِ الْهُذَلِيِّ فِي «كَامِلِهِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةُ مُوسَى».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٢- سُورَةُ الْحَجِّ
سُمِّيَتْ هَذِه السُّورَة سُورَة الْحَجَّ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ؟
قَالَ: نَعَمْ»
.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ
. وَلَيْسَ لِهَذِهِ السُّورَةِ اسْمٌ غَيْرَ هَذَا.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا سُورَةَ الْحَجِّ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِيهَا كَيْفَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَذَكَرَ مَا شَرَعَ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ مِنَ النُّسُكِ تَنْوِيهًا بِالْحَجِّ وَمَا فِيهِ مِنْ فَضَائِلَ وَمَنَافِعَ، وَتَقْرِيعًا لِلَّذِينِ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا قبل أَن يفْرض الْحَجُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا فُرِضَ الْحَجُّ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
لَهُمْ وَازِعٌ من الدَّين يرعهم فَلِذَلِكَ هُمْ يَحْذَرُونَ النَّاسَ فَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ بِالْيَدِ وَبِالسَّبِّ خَشْيَةً مِنْهُمْ فَإِذَا خَلَوْا أَمِنُوا مِنْ ذَلِكَ.
فَهَذَا سَبَبُ حُسْبَانِهِمُ الْحَدِيثَ فِي الْإِفْكِ شَيْئًا هَيِّنًا وَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِزَالَةِ مَسَاوِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَالْهَيِّنُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَوَانِ، وَهَوَانُ الشَّيْءِ عَدَمُ تَوْقِيرِهِ وَالْمُبَالَاةِ بِشَأْنِهِ، يُقَالُ: هَانَ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَيْ لَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ أَمْرًا مُهِمًّا، وَالْمَعْنَى: شَيْئًا هَيِّنًا. وَإِنَّمَا حَسِبُوهُ هَيِّنًا مَعَ أَنَّ
الْحَدَّ ثَابِتٌ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بِحَسَبِ ظَاهر تَرْتِيب الْآي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النُّور: ٤] الْآيَةَ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ تَحْدُثْ قَضِيَّةُ قَذْفٍ فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ وَنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ حَدَثَتْ قَضِيَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَصْحَابُ الْإِفْكِ، أَوْ حَسِبُوهُ هَيِّنًا لِغَفْلَتِهِمْ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ الْحَدِّ إِذْ كَانَ الْعَهْدُ بِهِ حَدِيثًا. وَفِيهِ مِنْ أَدَبِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ احْتِرَامَ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءً فِي الْغَيْبَةِ وَالْحَضْرَةِ وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.
وَمَعْنَى: عِنْدَ اللَّهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِمَّا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْحُكْمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النُّور: ١٣].
[١٦]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ١٦]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ [النُّور: ١٢] إِلَخْ. وَأُعِيدَتْ (لَوْلَا) وَشَرْطُهَا وَجَوَابُهَا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْ قُلْتُمْ الَّذِي فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى قُلْتُمْ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِقَصْدِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ وَهُوَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا كَتَقْدِيمِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ [النُّور: ١٢] إِلَخْ وَهُوَ الِاهْتِمَامُ بِمَدْلُولِ الظَّرْفِ.
مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ فِي أَتَأْتُونَ. ومِنَ فَصْلِيَّةٌ، أَيْ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصْلِ بَيْنَ مُتَخَالِفَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُمَاثِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ. فَالْمَعْنَى: مَفْصُولَيْنِ مِنَ الْعَالَمِينَ لَا يُمَاثِلُكُمْ فِي ذَلِكَ صِنْفٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ثَانِيًا وَهُوَ أَوْفَقُ بِمَعْنَى: الْعالَمِينَ الَّذِي الْمُخْتَارُ فِيهِ أَنَّهُ جَمْعُ (عَالَمٍ) بِمَعْنَى النَّوْعِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَإِثْبَاتُ مَعْنَى الْفَصْلِ لِحَرْفِ مِنَ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [الْبَقَرَة: ٢٢٠]، وَقَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَال: ٣٧].
وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَهُوَ مَعْنًى رَشِيقٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٠].
وَالْمَعْنَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مُخَالِفِينَ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِيهَا ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَإِنَّهَا لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَأْتِي الذُّكُورَ.
فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْفَظِيعَ مُخَالِفٌ لِلْفِطْرَةِ لَا يَقَعُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْعَجَمِ فَهُوَ عَمَلٌ ابْتَدَعُوهُ مَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: ٢٨].
وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ: الْإِنَاثُ مِنْ نَوْعٍ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَزْوَاجِ عَلَيْهِنَّ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، فَفِي هَذَا الْمَجَازِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَرْجُو ارْعِوَاءَهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالصَّلَاحِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لِعَمَلٍ عَلَى بُطْلَانِ عَمَلٍ يُضَادُّهُ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ. فَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ الشَّيْطَانِ وَإِفْسَادِهِ لِسُنَّةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١٩].
وبَلْ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَى مَقَامِ الذَّمِّ تَغْلِيظًا لِلْإِنْكَارِ بَعْدَ لِينِهِ لِأَنَّ شَرَفَ الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي الْإِعْلَانَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَالْأَخْذِ بِأَصْرَحِ مَرَاتِبِ الْإِعْلَانِ فَإِنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ بِلِسَانِهِ غَلِيظَ الْإِنْكَارِ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ إِلَى ليّنه وَأَنه يبتدىء بِاللِّينِ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ لُوطٌ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالنَّهْيُ فِي وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ. وَالنِّسْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّرْكِ
كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْخَيْلِ «وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا»
، أَيْ لَا نَلُومُكَ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا أَيِ الَّذِي لَا يَأْتِي عَلَى نَصِيبِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا احْتِرَاسٌ فِي الْمَوْعِظَةِ خَشْيَةَ نُفُورِ الْمَوْعُوظِ مِنْ مَوْعِظَةِ الْوَاعِظِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لِقَارُونَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أَوْهَمُوا أَنْ يَتْرُكَ حُظُوظَ الدُّنْيَا فَلَا يَسْتَعْمِلَ مَالَهُ إِلَّا فِي الْقُرُبَاتِ، فَأُفِيدَ أَنَّ لَهُ اسْتِعْمَالَ بَعْضِهِ فِي مَا هُوَ مُتِمِحِّضٌ لِنَعِيمِ الدُّنْيَا إِذَا آتَى حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِ. فَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْقِسْطُ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ النَّصْبِ لِأَنَّ مَا يُعْطَى لِأَحَدٍ يُنَصِّبُ لَهُ وَيُمَيِّزُ، وَإِضَافَةُ النَّصِيبِ إِلَى ضَمِيرِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ وَأَنَّ لِلْمَرْءِ الِانْتِفَاعَ بِمَالِهِ فِي مَا يُلَائِمُهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْقُرُبَاتِ وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا. قَالَ مَالِكٌ: فِي رَأْيِي مَعْنَى وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا تَعِيشُ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ غَيْرَ مُضَيَّقٍ عَلَيْكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَصِيبُ الدُّنْيَا هُوَ الْحَلَالُ كُلُّهُ. وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثَالًا لِاسْتِعْمَالِ صِيغَةِ النَّهْيِ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ.
ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَالْمُرَادُ بِالدُّنْيَا نَعِيمُهَا. فَالْمَعْنَى: نَصِيبَكَ الَّذِي هُوَ بَعْضُ نَعِيمِ الدُّنْيَا.
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
الْإِحْسَانُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ ابْتِغَاءِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ هُنَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَإِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْإِحْسَانُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَحْسِنْ أَيْ إِحْسَانًا شَبِيهًا بِإِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَمَعْنَى الشَّبَهِ: أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ مِنْ جِنْسِهَا. وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ النُّحَاةِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْكَافِ كَافَ التَّعْلِيلِ، وَمِثْلُهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨]. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّعْلِيلَ حَاصِلٌ مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَلَيْسَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ مَعَانِي الْكَافِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْإِحْسَانِ لِتَعْمِيمِ مَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ فَيَشْمَلُ نَفْسَهُ وَقَوْمَهُ وَدَوَابَّهُ وَمَخْلُوقَاتِ اللَّهِ الدَّاخِلَةَ فِي دَائِرَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ
فِي عَذَابٍ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ مَنْجًى. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ.
وَالتَّمْتِيعُ: الْعَطَاءُ الْمُوَقَّتُ فَهُوَ إِعْطَاءُ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ. وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَصْدَرِ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، أَيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، وَقِلَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِقِلَّةِ مُدَّتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُدَّةِ الْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي الْأَعْرَافِ [٢٤].
وَالِاضْطِرَارُ: الْإِلْجَاءُ، وَهُوَ جَعْلُ الْغَيْرِ ذَا ضَرُورَةٍ، أَيْ: لُزُومٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٦].
وَالْغَلِيظُ: مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْخَشِنُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الشَّدِيدِ مِنَ الْأَحْوَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِجَامِعِ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَدَمِ الطَّاقَةِ عَلَى احْتِمَالِهِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٨] كَمَا أُطْلِقَ الْكَثِيرُ على الْقوي.
[٢٥]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٥]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لُقْمَان: ٢١] بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ هُوَ الْإِشْرَاكُ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ سَأَلَهُمْ سَائِلٌ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقُولُوا خَلْقَهُنَّ اللَّهُ، وَذَلِكَ تَسْخِيفٌ لِعُقُولِهِمُ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مَا يَشْمَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ بَيْنِ ذَلِكَ حِجَارَةُ الْأَصْنَامِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَعَبَّرَ هُنَا بِ لَا يَعْلَمُونَ وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٣] بِ لَا يَعْقِلُونَ تَفَنُّنًا فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مَعَ اتِّحَاد الْمَعْنى.
كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي الْتِزَامَ فَتْحِ هَمْزَةِ سَبَأٍ كَشَأْنِ الْمُرَكَّبِ الْمَزْجِيِّ. قَالَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» : وَبَعْضُهُمْ يُنَوِّنُهُ إِذَا خَفَّفَهُ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَيَا لَكِ مِنْ دَارٍ تَفَرَّقَ أَهْلُهَا أَيَادِي سَبَا عَنْهَا وَطَالَ انْتِقَالُهَا
وَالْأَكْثَرُ عَدَمُ تَنْوِينِهِ قَالَ كُثَيِّرٌ:
أَيَادِي سَبَا يَا عَزُّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُمْ فَلَمْ يَحْلُ بِالْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ
وَالْأَيَادِي وَالْأَيْدِي فِيهِ جَمْعُ يَدٍ. وَالْيَدُ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَهَبُوا فِي مَذَاهِبَ شَتَّى يَسْلُكُونَ مِنْهَا إِلَى أَقْطَارٍ عِدَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الْجِنّ: ١١]. وَقِيلَ: الْأَيَادِي جَمْعُ يَدٍ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ لِأَنَّ سَبَأً تَلِفَتْ أَمْوَالُهُمْ.
وَكَانَتْ سَبَأٌ قَبِيلَةً عَظِيمَةً تَنْقَسِم إِلَى عشر أَفْخَاذٍ وَهُمُ: الْأَزْدُ، وَكِنْدَةُ، وَمَذْحِجُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارُ، وَبَجِيلَةُ، وَعَامِلَةُ، وَهُمْ خُزَاعَةُ، وَغَسَّانُ، وَلَخْمٌ، وَجُذَامُ.
فَلَمَّا فَارَقُوا مَوَاطِنَهُمْ فَالسِّتَّةُ الْأَوَّلُونَ تَفَرَّقُوا فِي الْيَمَنِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْيَرُونَ خَرَجُوا إِلَى جِهَاتٍ قَاصِيَةٍ فَلَحِقَتِ الْأَزْدُ بِعُمَانَ، وَلَحِقَتْ خُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ فِي مَكَّةَ، وَلَحِقَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِيَثْرِبَ، وَلَعَلَّهُمْ مَعْدُودُونَ فِي لَخْمٍ، وَلَحِقَتْ غَسَّانُ بِبُصْرَى وَالْغُوَيْرِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَلَحِقَتْ لَخْمٌ بِالْعِرَاقِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْقَصَصِ لِهَذَا التَّفَرُّقِ سَبَبًا هُوَ أَشْبَهُ بِالْخُرَافَاتِ فَأَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ. وَعِنْدِي أَن ذَلِك لَا يَخْلُو مِنْ خِذْلَانٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَلَبَهُمُ التَّفَكُّرَ فِي العواقب فاستخفّ الشَّيْطَانُ أَحْلَامَهُمْ فَجَزِعُوا مِنِ انْقِلَابِ حَالِهِمْ وَلِمَ يَتَدَرَّعُوا بِالصَّبْرِ حِينَ سُلِبَتْ عَنْهُمُ النِّعْمَةُ وَلَمْ يَجْأَرُوا إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ فَبَعَثَهُمُ الْجَزَعُ وَالطُّغْيَانُ وَالْعِنَادُ وَسُوءُ التَّدْبِيرِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى أَنْ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَنْ يَلُمُّوا شَعْثَهُمْ وَيُرْقِعُوا خَرْقَهُمْ فَتَشَتَّتُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَخْفَى مَا يُلَاقُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَصَبٍ وَجُوعٍ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْحَمُولَةِ وَالْأَزْوَادِ وَالْحُلُولِ فِي دِيَارِ أَقْوَامٍ لَا يَرْثُونَ لِحَالِهِمْ وَلَا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِمُقَاسَمَةِ أَمْوَالِهِمْ فَيَكُونُونَ بَيْنَهُمْ عَافِينَ.

[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٤٧ إِلَى ١٤٨]

وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
ظَاهِرُ تَرْتِيبِ ذِكْرِ الْإِرْسَالِ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْحُوتِ أَنَّهُ إِعَادَةٌ لِإِرْسَالِهِ. وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى مَا فِي كِتَابِ يُونُسَ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ إِذْ وَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ: ثُمَّ صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونُسَ ثَانِيَةً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا.
وَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ: الْيَهُودُ الْقَاطِنُونَ فِي نِينَوَى فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا بُعِثَ إِلَى قَوْمٍ مُخْتَلِطِينَ بِغَيْرِهِمْ أَنْ تَعُمَّ رسَالَته جَمِيع الخليط لِأَنَّ فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ بِالدَّعْوَةِ تَقْرِيرًا لِكُفْرِ غَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَخْلِيصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَعَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُقَدَّرَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ هُمُ الْيَهُودُ وَأَنَّ الْمَعْطُوفَيْنِ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ هُمْ بَقِيَّةُ سُكَّانِ (نِينَوَى). وَذُكِرَ فِي كِتَابِ يُونُسَ أَنَّ دَعْوَةَ يُونُسَ لَمَّا بَلَغَتْ مَلِكَ نِينَوَى قَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ وَلَبِسَ مَسْحًا وَأَمَرَ أَهْلَ مَدِينَتِهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ إِلَخْ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ يُونُسَ دَعَا غَيْرَ أَهْلِ نِينَوَى مِنْ بِلَادِ أَشُورَ مَعَ سَعَتِهَا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قَالَ: «عِشْرُونَ أَلْفًا»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
فَحَرْفُ أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ بِمَعْنَى (بَلْ) عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتِيَارِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ جِنِّيِّ وَابْنِ بُرْهَانَ (١). وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ جَرِيرٍ:
مَاذَا تَرَى فِي عِيَالٍ قَدْ بَرَمْتَ بِهِمْ لَمْ أُحْصِ عِدَّتَهُمْ إِلَّا بّعَدَّادِ
كَانُوا ثَمَانِينَ أَوْ زَادُوا ثَمَانِيَةً لَوْلَا رَجَاؤُكَ قَدْ قَتَّلْتَ أَوْلَادِي
وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ وَأَنْ يُعَادَ
_________
(١) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة مَمْنُوعًا من الصّرْف هُوَ سعيد بن الْمُبَارك الْبَغْدَادِيّ ولد سنة ٤٦٩ وَتُوفِّي سنة ٥٥٩.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، و (مَا) فِي قَوْله: مَا تَتَذَكَّرُونَ مَصْدَرِيَّةٌ وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ.
وَهَذَا مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ قلَّة التَّذَكُّر تؤول إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ، وَالْقِلَّةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَمِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٨٨]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقِلَّةِ عَدَمَ التَّمَامِ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِذَا تَذَكَّرُوا تذكرا لَا يتممونه فَيَنْقَطِعُونَ فِي أَثْنَائِهِ عَنِ التَّعَمُّقِ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ فَهُوَ كَالْعَدَمِ فِي عَدَمِ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَتَذَكَّرُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تَتَذَكَّرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَالْخِطَابُ لِلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ.
وَكَوْنُ الْخِطَابِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَمُشْرِكِينَ وَأَنَّ التَّذَكُّرَ الْقَلِيلَ هُوَ تَذَكُّرُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ تَذَكُّرِ الْمُشْرِكِينَ بَعِيدٌ عَنْ سِيَاقِ الرَّدِّ وَلَا يلاقي الِالْتِفَات.
[٥٩]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٩]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
لَمَّا أُعْطِيَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ مَا يَحِقُّ مِنَ الْحِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ، تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِاسْتِخْلَاصِ تَحْقِيقِهِ كَمَا تُسْتَخْلَصُ النَّتِيجَةُ مِنَ الْقِيَاسِ، فَأُعْلِنَ بِتَحْقِيقِ مَجِيءِ السَّاعَةَ وَهِيَ سَاعَةُ الْبَعْثِ إِذِ السَّاعَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْإِسْلَامِ عِلْمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْبَعْثِ، فَالسَّاعَةُ وَالْبَعْثُ
مُتَرَادِفَانِ فِي الْمَآلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي جَادَلَ فِيهِ الْمُجَادِلُونَ سَيَقَعُ لَا مَحَالَةَ إِذِ انْكَشَفَتْ عَنْهُ شُبَهُ الضَّالِّينَ وَتَمْوِيهَاتُهُمْ فَصَارَ بَيِّنًا لَا رَيْبَ فِيهِ.
وتأكيد الْخَبَر ب (إنّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّحْقِيقِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ تَحَقَّقَ بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَلِهَذَا لَمْ
إِبْطَالُ اتِّخَاذِ اللَّهِ الْبَنَاتِ بِدَلِيلَيْنِ، لِأَنَّ إِعْطَاءَهُمُ الْبَنِينَ وَاقِعٌ فَنَفْيُ اقْتِرَانِهِ بِاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ اتِّخَاذِهِ الْبَنَاتِ فَالْمَقْصُودُ اقْتِرَانُ الْإِنْكَارِ بِهَذَا الْقَيْدِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الْوَاوَ فِي جُمْلَةِ وَأَصْفاكُمْ لَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ لِأَنَّ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ أَصْفَاهُمْ بِالْبَنِينِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخِطَابُ فِي وَأَصْفاكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِيَكُونَ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ لِمُوَاجَهَتِهِمْ بِهِ.
وَتَنْكِيرُ بَناتٍ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَأما تَعْرِيف بِالْبَنِينَ بِاللَّامِ فَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُتَقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمُ الْمُتَنَافَسِ فِي وُجُودِهِ لَدَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٩].
وَتَقْدِيمُ الْبَنَاتِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْبَنِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُنَّ أَهَمُّ هُنَا إِذْ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٠]. وَلِمَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَحْقِيرِهِمُ الْبَنَاتِ وَتَطَيُّرِهِمْ مِنْهُنَّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّورَى.
وَالْإِصْفَاءُ: إِعْطَاءُ الصَّفْوَةِ، وَهِيَ الْخِيَارُ مِنْ شَيْءٍ.
وَجُمْلَةُ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي وأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَحَدُهُمْ فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِيَكُونُوا مَحْكِيًّا حَالَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ فَسَادِ مَقَالَتِهِمْ وَتَشْنِيعًا بِهَا إِذْ نَسَبُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ دُونَ الذُّكُورِ وَهُوَ نَقْصٌ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكْرَهُ الْبَنَاتِ وَيُحَقِّرُهُنَّ فَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ مُفْضٍ إِلَى الِاسْتِخْفَافِ بِجَانِبِ الإلهية.
وَالْمعْنَى: أأتّخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ اللَّهُ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي حَالِ أَنَّكُمْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُكُمْ بِمَا ضربه للرحمان مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا.
وَاسْتِحْقَاقُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ الْعَذَابَ، وَلِتَكُونَ السَّكِينَةُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عِبْرَةً لَهُمْ وَاسْتِدْلَالًا عَلَى لُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ وَعَلَى أَنَّ وَعْدَهُ لَا تَأْوِيل فِيهِ.
وَمعنى كَوْنُ السَّكِينَةِ آيَةً أَنَّهَا سَبَبُ آيَةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ فِي قُلُوبِهِمُ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ فَخَلُصَتْ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَبَانَتْ لَهَا آيَاتُ اللَّهِ فَتَأْنِيثُ ضَمِيرِ الْفِعْلِ لِأَنَّ مَعَادَهُ السَّكِينَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ يُثَارُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَقْدِيرِهِ تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ لِغَايَاتٍ وَحِكَمٍ وَلِتَكُونَ آيَةً. فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ.
فَالتَّقْدِيرُ مَثَلًا: لِيَحْصُلَ التَّعْجِيلُ لَكُمْ بِنَفْعٍ عِوَضًا عَمَّا تَرَقَّبْتُمُوهُ مِنْ مَنَافِعِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْمَغَانِمُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ وَمَنْ يَعْرِفُونَ بِهَا أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانِ عِنَايَتِهِ وَأَنَّهُ مُوفٍّ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ وَضَامِنٌ لَهُمْ نَصْرَهُمُ الْمَوْعُودَ كَمَا ضَمِنَ لَهُمُ الْمَغَانِمَ الْقَرِيبَةَ وَالنَّصْرَ الْقَرِيبَ. وَتِلْكَ الْآيَةُ تَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةَ إِيمَانٍ. وَضَمِيرُ لِتَكُونَ عَلَى هَذِهِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: هذِهِ عَلَى أَنَّهَا الْمُعَلِّلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْخِصَالِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِغَايَاتٍ جَمَّةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ آنِفًا وَمِنْهَا سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتٍ هُمْ أَحْوَجُ فِيهِ إِلَى اسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ادِّخَارًا لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جُمْلَةَ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مُعْتَرِضَةً، وَعَلَيْهِ فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ غَيْرُ عَاطِفَةٍ وَأَنَّ ضمير لِتَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَرَّةِ مِنْ فِعْلِ كَفَّ: أَيِ الْكَفَّةِ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَهُوَ حِكْمَةٌ أُخْرَى، أَيْ لِيَزُولَ بِذَلِكَ مَا خَامَرَكُمْ مِنَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ فَتَتَجَرَّدُ نُفُوسُكُمْ لِإِدْرَاكِ الْخَيْرِ الْمَحْضِ الَّذِي فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَإِحَالَتِكُمْ عَلَى الْوَعْدِ فَتُوقِنُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فَتَزْدَادُوا يَقِينًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ وَيَهْدِيَكُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِدَامَةِ عَلَى الْهُدَى وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْحَاصِلُ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاء: ١٣٦] عَلَى أحد تأويلين.
فَيُعَادُ خَلْقُ كُلِّ ذَاتٍ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ وَهِيَ ذَرَّاتٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْجَرَادُ: اسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ جَرَادَةٌ وَهِيَ حَشَرَةٌ ذَاتُ أَجْنِحَةٍ أَرْبَعَةٍ مَطْوِيَّةٍ عَلَى جَنْبَيْهَا وَأَرْجُلٍ أَرْبَعَةٍ، أَصْفَرُ اللَّوْنِ.
وَالْمُنْتَشِرُ: الْمُنْبَثُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الدَّبَى وَهُوَ فِرَاخُ الْجَرَادِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ لَهُ الْأَجْنِحَةُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُقْبٍ فِي الْأَرْضِ هِيَ مَبِيضَاتُ أُصُولِهِ فَإِذَا تَمَّ خَلْقُهُ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ يَزْحَفُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤]. وَهَذَا التَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيٌّ لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ خُرُوجِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ مُتَرَاكِمِينِ بِهَيْئَةِ خُرُوجِ الْجَرَادِ مُتَعَاظِلًا يَسِيرُ غير سَاكن.
[٩]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : آيَة ٩]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩)
اسْتِئْنَاف بيانيّ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [الْقَمَر: ٤] فَإِنَّ مِنْ أَشْهَرِهَا تَكْذِيبَ قَوْمِ نُوحٍ رَسُولَهُمْ، وَسَبَقَ الْإِنْبَاءُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ وَلْيُفَرِّعْ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. فَالْمَقْصُودُ النَّعْيُ عَلَيْهِمْ عَدَمَ ازْدِجَارِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ بِتِعْدَادِ بَعْضِ الْمُهِمِّ مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ قَبْلَهُمْ تَقْرِيرُ تَسْلِيَةٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الضَّلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: ٤] أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِكَ نَظِيرَ مَا هُنَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُعْرِضُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: كَذَّبَ، إِذَا قَالَ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَيُقَالُ كَذَّبَ أَيْضًا، إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَهُ كَاذِبٌ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: ٣٣] فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ هُنَا، فَإِنْ كَانَ فِعْلُ كَذَّبَتْ هُنَا مُسْتَعْمَلًا
شَاهَدُوهُ مِنْ دَلَائِلِ رِسَالَتِهِ، وَكَمَا أُكِّدَ عِلْمُهُمْ بِ قَدْ أُكِّدَ حُصُولُ الْمَعْلُومِ بِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ، فَحَصَلَ تَأْكِيدَانِ لِلرِّسَالِةِ. وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ لَا يَجْرِي أَمْرُكُمْ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْعِلْمِ.
وَالْإِتْيَانُ بَعْدَ قَدْ بِالْمُضَارِعِ هُنَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ مُجَدَّدٌ بِتَجَدُّدِ الْآيَاتِ وَالْوَحْيِ، وَذَلِكَ أَجْدَى بِدَوَامِ امْتِثَالِهِ لِأَنَّهُ لَوْ جِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيَّ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْعِلْمِ فِيمَا مَضَى. وَلَعَلَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، وَهَذَا كَالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [١٨].
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ لَمَّا خَالَفُوا مَا أَمَرَهُمْ رَسُولُهُمْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغًا، أَيْ تَمَكَّنَ الزَّيْغُ مِنْ نُفُوسِهِمْ فَلَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الضَّلَالِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَذْيِيلٌ، أَيْ وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي النَّاسِ فَكَانَ قَوْمُ مُوسَى الَّذِينَ آذَوْهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعُمُومِ.
وَذُكِرَ وَصْفُ الْفاسِقِينَ جَارِيًا عَلَى لَفْظِ الْقَوْمَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى الْفُسُوقِ الَّذِي دَخَلَ فِي مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ. كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي الْبَقَرَةِ [١٦٤].
فَالْمَعْنَى: الَّذِينَ كَانَ الْفُسُوقُ عَنِ الْحَقِّ سَجِيَّةً لَهُمْ لَا يَلْطُفُ اللَّهُ بِهِمْ وَلَا يَعْتَنِي بِهِمْ عِنَايَةً خَاصَّةً تَسُوقُهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَإِنَّمَا هُوَ طَوْعُ الْأَسْبَاب والمناسبات.
[٦]
[سُورَة الصَّفّ (٦١) : آيَة ٦]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ [الصَّفّ: ٥] فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ الَّتِي قَبْلَهَا فَمَوْقِعُ هَذِهِ مُسَاوٍ لَهُ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ هَذِهِ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّتْمِيمِ لِقِصَّةِ مُوسَى بِذِكْرِ مِثَالٍ آخَرٍ لِقَوْمٍ حَادُوا عَنْ طَاعَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِفَادَةِ
وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ، كَمَا قَالَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: ٢] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٧، ٧٨] وَغَيْرُهَا مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا يَعْلَمُونَ تَوْجِيهًا لِلتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ جَادَلُوا وَعَانَدُوا، وَعِلْمُ مَا جَادَلُوا فِيهِ قَائِمٌ بِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٢]. وَكَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا يَعْلَمُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يُخْلَقُونَ الْخَلْقَ الثَّانِيَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةَ الْأُخْرَى سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: ٣٦] وَقَالَ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
[الْوَاقِعَة: ٦١] فَكَانَ فِي الْخَلْقِ الْأَوَّلِ سِرٌّ لَا يَعْلَمُونَهُ.
وَمَجِيءُ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مُوَكَّدًا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِتَنْزِيلِهِمْ فِيمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ الْبَاطِلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُطْفَةٍ وَكَانُوا مَعْدُومِينَ، فَكَيْفَ أَحَالُوا إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ بَعْدَ أَنْ عدم بعض أجزائهم وَبَقِيَ بَعْضُهَا ثُمَّ أَتْبَعَ هَذِهِ الْكِنَايَةَ عَنْ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ بِالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّا لَقَادِرُونَ الْآيَة.
وَجُمْلَة (لَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ) إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفَاءِ وَمَا عَطَفَتْهُ.
وَالْقَسَمُ بِاللَّهِ بِعُنْوَانِ رُبُوبِيَّتِهِ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مَعْنَاهُ: رُبُوبِيَّتُهُ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِأَنَّ الْعَالَمَ مُنْحَصِرٌ فِي جِهَاتِ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا.
وَجَمْعُ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا فِي فُصُولِ السَّنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَظْهَرٌ عَجِيبٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْحَرَكَاتِ الْحَافَّةِ بِالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَظِيمِ الْمَخْلُوقَاتِ،
وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ قَسَمٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ دُونَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ مَعَ أَنَّ الشَّمَالَ وَالْجَنُوبَ جِهَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى سُنَّةِ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ.
وَفِي إِيثَارِ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ بِالْقَسَمِ بِرَبِّهَا رَعْيٌ لِمُنَاسَبَةِ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ غُرُوبِهَا لِتَمْثِيلِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُكَذِّبُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ.
وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنْ قَوْلِهِ: تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إِفَادَةُ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْجَزَاءِ مُتَجَدِّدٌ لَا
يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَهُوَ سَبَبُ اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ.
وَفِي الْمُضَارِعِ أَيْضًا اسْتِحْضَارُ حَالَةِ هَذَا التَّكْذِيبِ اسْتِحْضَارًا يَقْتَضِي التَّعْجِيبَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ مَعَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا لَحِقَهُ أَنْ يُقْلِعَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْجَزَاءِ.
وَالدّين: الْجَزَاء.
[١٠- ١٢]
[سُورَة الانفطار (٨٢) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١٢]
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: ٩] تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَأُكِّدَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ إِنْكَارًا قَوِيًّا.
ولَحافِظِينَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَمَلَائِكَةٌ حَافِظِينَ، أَيْ مُحْصِينَ غَيْرَ مُضَيِّعِينَ لِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِكُمْ.
وَجُمِعَ الْمَلَائِكَةُ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ عَلَى النَّاسِ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ أَحَدٍ مَلَكَانِ قَالَ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:
١٧، ١٨]، وَقَدْ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِ أَعْمَالَهُ»
وَهَذَا بِصَرِيحِ مَعْنَاهُ يُفِيدُ أَيْضًا كِفَايَةً عَنْ وُقُوعِ الْجَزَاءِ إِذْ لَوْلَا الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ لَكَانَ الِاعْتِنَاءُ بِإِحْصَائِهَا عَبَثًا.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ هِيَ: الْحِفْظُ، وَالْكَرَمُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالْعلم بِمَا يُعلمهُ النَّاسُ.
وَابْتُدِئَ مِنْهَا بِوَصْفِ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الَّذِي سَبَقَ لِأَجْلِهِ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ ذُكِرَتْ بَعْدَهُ صِفَاتٌ ثَلَاثٌ بِهَا كَمَالُ الْحِفْظِ وَالْإِحْصَاءِ وَفِيهَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِظِينَ.


الصفحة التالية
Icon